أنا فتاة عندي 20 سنة.. في البداية أنا والدتي متوفاة من وأنا عندي 12 سنة تقريبا، واتصدمت بعدها صدمة كبيرة، رغم أن البعض يظن أني صغيرة.. بس كنت لوحدي في الفترة اللي كل واحدة محتاجة لوالدتها، وأخواتي لم يعوضوني هذا النقص الكبير.. وبعد ذلك تزوّجت أخواتي، وكل واحدة انشغلت بحياتها الجديدة، وأنا عايشة مع أبي، وأنا مش قريّبة منه، لدرجة إني ما باتكلمش معاه في أوقات كتيرة، الواحدة بتكون محتاجة لأم أو فتاة مثلها.. وحياتي مشيت عادي، ودخلت كلية عملية بتشغل وقتي.. من ساعة ما دخلت الكلية بدأت أحسّ تجاه واحد من زملائي بشيء، ونظراته واهتمامه بي، وعلّقني به أكتر وأكتر حتى أصبحت أُحبّه، وهو لم يقُلّ أي شيء، وأنا أيضا لم أبيّن إني أحبه، لكن حتى أصحابي بدأوا يلاحظوا التصرّفات دي، وأنا على هذا الأساس 3 سنين وأنا لا أنساه؛ علشان هو معايا في الكلية، وبدأ التفكير يؤثّر على دراستي، وعلى صحّتي؛ علشان ضغطي بيعلى من الزعل.. وشيء تاني أنا ليّ أصحاب كتير، أحيانا باحس إن صحابي اللي معايا في الكلية عارفيني علشان مصلحتهم، أنا مش عارفة ده صح ولا لأ، ساعات باقول لنفسي لا دول بيحبوني علشان ذاتي، وساعات باقتنع بالأفكار دي، وتكون النتيجة إني ما باكونش طايقة حدّ فيهم.. وتتجمع كل الأشياء (الدراسة، الحب، الأصحاب، البيت الوحدة)، ويحدث اكتئاب ودموع لا حصر لها.. أرجو المساعدة، ولكم الشكر.
doda
لا يا ابنتي، حين توفيت والدتك لم تكوني تلك الصغيرة التي لن تشعر بفقد والدتها إلا بعد سنوات، ولكنك كنتِ قد بدأت للتوّ في مرحلة المراهقة بكل تقلّباتها واستفساراتها، وتغيّراتها النفسية والجسدية والعاطفية والعقلية، والتي تحتاج فيها الفتاة لمن يفهمها ويحاورها بصداقة وبحب وبتوجيه لطيف، وأدّت وفاتها إلى حدوث تلك الصدمة النفسية التي ما زالت تؤثّر عليك دون أن تدري، فبحثك عن الاهتمام والرعاية النفسية لم يكُفّ، ورغبتك في الشعور بالحب والحنان لم تهدأ، وأعترف لك أن مشاعر الحب والاهتمام والرعاية من أهم المشاعر التي يحتاج إليها البشر، ولكن لا يجوز أن يصل احتياجنا إليها إلى درجة البحث عنها ولو في عالم النظرات الغامض.. ثلاث سنوات تبحثين عما تفتقدينه من خلال نظرات لا تفهمين منها شيئا، وتصرّين على ربط نفسك بها؟! فلغة العيون لغة خدّاعة لا تعطي معنى واضحا، ولا مفهوما نستطيع أن نقْسم عليه، فهل تستطيعين أن تفرّقي بين نظرة حب ونظرة شفقة؟ هل تأخذين قرارا بحب شخص وارتباطك به عاطفيا ونفسيا، وأنتِ لم تتحدّثي إليه مرة واحدة، ولم تسمعي صوته، ولم تعرفي كيف يُفكّر وكيف يرى الحياة وكيف يكّون العلاقات، ولا ما هي طموحاته وأحلامه التي قد تناسبك أو لا... إلخ فقط من خلال نظراته؟! هل تستطيعين أن تقسمي مثلا على أنه غير مرتبط بأخرى؟ هل تتمكّنين من تقييم أخلاقه من نظراته؟ لقد شرد عقلك بعيدا يا ابنتي بسبب احتياجك للتشبّث بأي معنى للاهتمام، والشعور بوجودك، ولو بنظرات تسحب من عمرك سنوات، وهذا هو بيت القصيد، وحين نعي حقيقة مشكلتنا ونتفهّمها نكون قد قطعنا شوطا خطيرا ومهمّا في حلّ المشكلة، لذا سأجعل حديثي لك في صورة نقاط في منتهى الأهمية، لتعيها جيدا: * حين نتعرّض لصدمة نفسية يحدث لنا ارتباك نفسي، يُؤدّي لمشاعر القلق والتوتر والخوف وعدم الشعور بالأمان وتجرُّع آلام الفقد، وتتراوح درجاته بين البشر حسب طبيعة شخصياتهم وأعمارهم وتأثير البيئة من حولهم... وغير ذلك من العوامل الكثيرة، ونستطيع أن نتغلّب على آثارها بأن نعيد فحص طريقة تفكيرنا، ونعيد صياغة التعامل مع مشاعرنا؛ لنتمكّن من وقف هذا الارتباك رويدا رويدا. وهذا يعني أن نفهم أنه رغم التأثير الحقيقي لغياب الأم في حياتنا؛ فإنه لا يمكننا أن نظلّ نتجرّع آلام الحرمان منه، ونعلّق كل ما يؤذينا عليه، فنتنصّل من دورنا نحن تجاه أنفسنا في رعاية أنفسنا. وتذكّري أن الفتيات اللاتي فقدن أمهاتهن في مثل سنك كثيرات جدا، ولكن الفارق يكون في كيف نواجه ذلك بأقل الخسائر الممكنة، فنهتمّ نحن بأنفسنا ونرعاها بالتطوير والتهذيب والهوايات والدراسة، وخلق مجتمع من الزملاء والأصدقاء نستمتع فيه بمشاعر الدفء والتواصل، فنتصالح مع أنفسنا ونتحمّل مسئولية رعايتها. * وحدتك مع الأسف كانت اختيارا، ولم تكن فرضا كما تتصوّرين، فلديكِ جيران، ولديك والد يعيش لك، ولديك إخوة رغم انشغالهم بحياتهم إلا أنك لم تفكّري في أن تكوني أنت البادئة، فهل تتصوّرين لو عرف أحد إخوتك أنك في حاجة له سيعطيك ظهره؟ هل فكّرت أن تقتربي أنتِ منهم؟ هل فكّرت أنت أن تتحدّثي مع والدك في أي أمر يخصّك ورفض الحديث أو التعاون معك؟ لا تتعاملي مع تلك التساؤلات على أنها مستحيلات أو تخصّ الكرامة أو يغلبك شعور أنا الأصغر أنا التي أنتظر البداية من تجاههم، فلقد نسيت أنهم لديهم نفس مشاعر الحرمان مثلك، ولكنهم قاوموا وأكملوا المسير، وخاصة والدك الذي فَقَد زوجته منذ ثماني سنوات، تاركة له مسئولية الأبناء وحده من بينهم فتاة صغيرة في مرحلة الزهور، وتصوّر أن رعايته المالية وعدم زواجه مرة أخرى رغم معاناته النفسية والجسدية هو أكبر ما يمكن أن يضحّي به من أجلكم، فأسرتك تحتاج إليك كما تحتاجين إليهم، ولكننا لم نتعلّم أن نعبّر عن مشاعرنا، وعما نتمنّاه ممن نحيا معهم فيتوه بيننا الطريق، ثم نعود فنشكو الوحدة، ونبحث عن الاهتمام في غير موضعه الصحيح. * الحب ليس الكيمياء التي تحدث بين شخصين دون سبب معلوم فقط، ولكنه بذرة صغيرة تحتاج لرعاية واهتمام وضوء وتربة لتتغذّى فتنمو وتكبر، لذلك الحب الحقيقي الذي يُتوَّج بالزواج، يحتاج من الطرفين إلى جهد وعطاء واحترام وصبر وتقبّل ليكون الحبيبان في حالة أمان وشراكة، تجعلهما بمعرفتهما الحقيقية لبعضهما قادرين على خوض تجربة الزواج بمتعته ومسئولياته ما تبقى من العمر، وغير ذلك هي مشاعر لم ترقَ للحب الحقيقي الذي يصنع حياة مشتركة. * انفضي عن نفسك غبار الحرمان، وتأويل تصرفات زملائك تجاهك بأنهم من أصحاب المصالح، فالمصالح ليست شيئا دنيئا ولا خبيثا؛ فكل العلاقات فيها أخذ وعطاء، فنحن نأخذ من أصدقائنا المقربين الأمان والرعاية مقابل إعطائنا لهم الثقة والمودة مثلا، ونتبادل مع زملائنا المحاضرات والمناقشات، ونصلّي ونصوم لنحصل على رضا الله تعالى وجنّته، ولكن كل ما يمكنني أن أقوله لك أن تتخيّري أصدقاءك ممن يتوافقون معك؛ لتحصلي على صداقة حقيقية يغلفها الأخذ والعطاء والتقبل، وتقلّ فيها المشاحنات، واستبدلي فكرة الصديقة الواحدة التي يكون لديها كل شيء، وتعطيها كل شيء، لمجموعة من الصديقات لكل منهن مساحة -لأنها تتميز فيها عن غيرها- ترتاحين فيها معها، وتعطينها ما تحتاج إليه منك لتستمتعي بالحب والتواصل الاجتماعي الواسع. * أعطي نفسك بنفسك ما تحتاجين إليه من الآخرين لتحصلي عليه منهم، فاهتمي بنفسك وارعيها وطوّريها وأحبيها، وتعاملي معها برفق وحب وتفاهم، فستجدين كل ذلك ينتظرك عند من تتعاملين معهم، فلا يستطيع أي شخص أن يحصل من الآخرين عما عجز هو أن يعطيه لنفسه بهدوء ونضوج وتدرّج.