في عالم تحكُم الدعاية والإعلام كثيرا من متغيراته، غافلٌ من لا يهتمّ بالدعاية لقضيته أو تياره أو اتجاهه، والدعاية المضادّة لقضية وتيار واتجاه خصمه.. فنحن في زمن لم يعد الإعلام يتأثر فيه بالأحداث والمعطيات السياسية الدولية، بقدر ما يؤثر هو فيها! تلك حقيقة لم تغفل عنها إسرائيل.. ما قبل إسرائيل سرعة اعتراف الدول العظمى بالدولة الإسرائيلية سنة 1948 تؤكد أن استخدام الصهاينة للدعاية سبق قيام دولتهم بعقود، منذ نشروا في العالم فكرة أن إقامة إسرائيل هي عملية إعطاء "أرض بلا شعب" ل"شعب بلا أرض".. أصلا مجرد إقناع العالم بفكرة وجود ما يسمى "الشعب اليهودي" هو عملية شديدة العبقرية، فالمنادون بهذه الأكذوبة أجادوا توظيف رغبة الأنظمة الأوروبية -بالذات في شرق أوروبا- في التخلّص من اليهود لأجل خدمة هدفهم في "تجميع اليهود من الشتات" على "أرض الميعاد"، وفكرة "أرض الميعاد" نفسها هي توظيف ذكي لمبدأ توراتي قديم من حركة لا دينية -وهي الصهيونية- حيث سمحت تلك الحركة العلمانية البحتة بنشأة تيار ديني داخلها يستخدم المفردات الدينية لجذب اليهود المتدينين من شتى بقاع الأرض، بينما تولى الشِقّ العلماني -وهو الأكبر- الدعاية الموجّهة لليهود العلمانيين.
والاستخدام الذي لا يقلّ ذكاء للدعاية هو توظيف الاضطهاد النازي لليهود وتكثيفه لتحويله إلى "المأساة الإنسانية الكبرى في القرن العشرين" بحيث تخلق مزيجا من الشعور العالمي -الغربي تحديدا- بالشفقة والذنب تجاه اليهود، وهذا يحقق مصلحتين: الأولى هي تلقي التعويضات عن "المأساة"، والأخرى هي تغليب تعاطف الغرب على إدراكه حقيقة الجرائم الصهيونية بحق الفلسطينيين. ثمة حقيقة هنا جديرة بالذكر، وصادمة، هي أن المنظمات الصهيونية كانت تتعاون مع النازي فيما يخصّ اضطهاد اليهود؛ لأجل زيادة "عوامل الطرد" لهم من أوروبا باتجاه فلسطين! ودفن تلك الحقيقة المخزية في غياهب النسيان والتجاهل هو بدوره عمل بارع للصهيونية، رغم حقارته. (ولكن من أهم سبل التغلّب على الخصم الاعتراف ببراعته). اللعب بالمسميات اللعب بالمسميات هو فنّ تبرع فيه إسرائيل، فمع الدعاية الإسرائيلية -داخل وخارج إسرائيل- تتحوّل المقاومة الشرعية للاحتلال إلى "إرهاب"، ويصبح قصف المدنيين "عملا وقائيا"، والحصار اللانساني "تجفيفا لموارد الإرهاب" والاغتيال "ضربة استباقية للمخرّبين"، وهكذا.. النجاح في ذلك لا يتوقّف على مجرد الكذب، وإلا لكان هذا عملا ساذجا مكشوفا.
ما تقوم به إسرائيل -والقوى المساعدة لها- ببساطة هو عملية استغلال لكل من جهل السواد الأعظم من الجمهور الغربي لكثير من المعلومات عن العالم الخارجي، وكذلك سوء الظن الذي تتضمّنه بعض الثقافات الغربية التي تحمل موروث التعصب ضدّ العرب والمسلمين من أيام الدعايات البابوية الصليبية في العصور الوسطى، أو تلك المناهضة للغزوات العثمانية لشرق أوروبا، هذا المزيج يخلق "حالة الاستعداد" عند المتابع الغربي للأخبار الواردة من الشرق الأوسط لقبول الدعاية الإسرائيلية التي تقلب الحقائق رأسا على عقب.
هذا فضلا عن استغلال التيارات التي تؤمن بوجود ما يُسَمّى ب"الحضارة اليهودية المسيحية المشتركة"، والتي تقف موقف العدو من "الحضارة الإسلامية"، وهي دعاية لاحظت الدكتورة "ليلى تكلا" انتشارها في أوساط المثقفين بالغرب وبالذات في أمريكا. أصابع خارج الحدود وتحرص إسرائيل على أن تكون لها أصابع خارج حدودها تخدم أجندتها الإعلامية، مثل اللوبي الصهيوني في منظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الإعلامية المتعاطفة أو المؤيدة -لأسباب أو لأخرى- للحركة الصهيونية وللدولة الإسرائيلية.
لو أردنا مثالا قويا لذلك فلدينا "إيباك" (اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة)، وهي منظمة تأسست سنة 1954 لخدمة المصالح الإسرائيلية في أمريكا، وتعتبر الأقوى على الإطلاق بين المنظمات المؤيدة لإسرائيل في الولاياتالمتحدة.
تلك المنظمة تقوم بدور "المندوب الدعائي" لإسرائيل في أمريكا، فهي تعمل على تجميل صورة الكيان الصهيوني بتقديم إسرائيل باعتبارها الدولة التي تحمي العالم من الإرهاب العربي الإسلامي، والتي تحمل للشرق الأوسط النموذج الحصري للديمقراطية وسط "غابة" من الديكتاتوريات العربية. وكذلك "تدين" صور المقاومة للعدوان الإسرائيلي، كمنظمات المقاومة الشرعية أو حملات مقاطعة إسرائيل اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، فضلا عن دعايتها -أي "إيباك"- المضادة لصفقات تسليح الدول العربية المحيطة بإسرائيل.
وتُعدّ "إيباك" في حرم الجامعات الأمريكية حلقات دراسية حرة لتجنيد وتدريب الطلاب الأمريكيين المتعاطفين مع الصهيونية والدولة الإسرائيلية، بغرض توجيههم للتصدي للوبي العربي في الجامعات الأمريكية، فرغم ضعف هذا اللوبي إلا أن "إيباك" لا تستهين به، وتحرص على مواجهته وتحجيمه. وكذلك تقوم المنظمة بالتقرّب من منظمات الأقليات، بالذات السود، والتي تتعاطف عادة مع القضية الفلسطينية بحكم وجود عامل مشترك هو التعرّض للظلم، وتسعى "إيباك" لإقناع تلك المنظمات بأن قضيتهم أقرب للقضية الصهيونية منها للقضية الفلسطينية.
الفنّ ولا تغفل إسرائيل أهمية استغلال رسالة الفنّ لأجل بثّ دعايتها لنفسها، فمن المعروف تغلغل اللوبي الصهيوني في المؤسسات السينمائية الأمريكية، وكذلك نشاط المتعاطفين مع إسرائيل، ومثالا لهم لدينا المخرج الأمريكي اليهودي "ستيفن سبيلبرج"، والذي قالت أمه عنه حين قدّم فيلم "قائمة شندلر" الذي يتناول قضية الهولوكوست: "لقد أنجبتُ نبيا جديدا لليهود"، "سبيلبرج" حرص على أن يضمّن كثيرا من أعماله "إشارات" تحمل البصمة الإسرائيلية، ففي فيلم "قائمة شندلر" يبقى الفيلم بألوان الرمادي والأبيض والأسود، وتغلب عليه روح الكآبة، ولا يتلون المشهد بألوان مبهجة إلا مع مشهد وصول اليهود لإسرائيل، على خلفية أغنية عبرية شهيرة. وفي "إنديانا جونز" يُظهر العرب بمظهر الهمج البدائيين، ولشدة إخلاص "سبيلبرج" للقضية الصهيونية فإن صدمة إسرائيل كانت كبيرة عندما أخرج "سبيلبرج" فيلم "ميونيخ" الذي أظهر فيه رد الفعل الإسرائيلي الهستيري على عملية اغتيال بعض الرياضيين الإسرائيليين في دورة ألعاب ميونيخ 1972 بقيام الموساد باغتيال بعض الناشطين الفلسطينيين -المدنيين- في أوروبا ولبنان، وبدا اهتمام إسرائيل المفرط بالدعاية في حرص "رافي إيتان" -رجل المخابرات الإسرائيلي السابق- على تكذيب محتوى الفيلم في حديثه للكاتب البريطاني "جوردون توماس" صاحب كتاب "جواسيس جدعون".
والاسم الثاني الذي يخدم الدعاية الإسرائيلية هو المطرب الفرنسي اليهودي (جزائري الأصل) "أنريكو ماسياس"، الذي استغلّ شعبيته العالمية وتاريخه الفني الحافل ومركزه كسفير نوايا حسنة للأمم المتحدة في القيام بجمع تبرعات، وتنظيم مظاهرات مؤيدة لإسرائيل خلال انتفاضة الأقصى وحرب لبنان 2006 والعدوان الأخير على غزة! هذان نموذجان لكيفية استغلال إسرائيل للفن -الذي يُفتَرَض أنه رسالة سامية- لأجل خدمة أغراضها العدوانية.
ختام ليس من العيب أن نبدي الإعجاب بالعدو فيما يخصّ براعته في خدمة مصالحه، لهذا فإني -بصراحة شديدة- أعترف بأن البراعة الإسرائيلية في توظيف الإعلام لصالح إسرائيل تثير إعجابي، ولكنها كذلك تثير ضيقي وحسرتي، فنحن -أصحاب قضية الحق- أولَى بهذا الاهتمام بالإعلام كوسيلة للدفاع عن قضايانا، وتوصيل صوتنا للرأي العام العالمي، بدلا من أن يشهر كل منا سلاحه الإعلامي في وجه أشقائه في الوطن والدين والعروبة، كما يحدث الآن!