تكريم طالبين بجامعة عين شمس لحصولهما على جائزة بمسابقة عمرانية    مشروعات عملاقة تنفذ على أرض أشمون.. تعرف عليها    الملاذ الآمن يتألق من جديد.. ارتفاع ب أسعار الذهب مع تراجع الدولار وتصنيف «موديز»    فلسطين.. الطائرات الإسرائيلية تشن 10 غارات على شرق غزة وجباليا شمال القطاع    نتنياهو: الحرب يمكن أن تنتهي غدا إذا تم إطلاق سراح الرهائن المتبقين    أحدها لم يحدث منذ 2004.. أرقام من خسارة ليفربول أمام برايتون    لحل أزمة استقالة كامل أبو علي.. جلسة طارئة مع محافظ بورسعيد    صيام صلاح مرة أخرى.. ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي الممتاز بعد خسارة ليفربول    أحمد دياب: إيقاف النشاط أمر غير وارد    عاجل| عرض خليجي خرافي لضم إمام عاشور.. وهكذا رد الأهلي    الأهلي والزمالك.. من يتأهل لنهائي دوري السوبر لكرة السلة؟    نزاع بشأن وصية.. محامي حفيد نوال الدجوى يكشف مفاجآت جديدة في واقعة السرقة    نفوق 10 آلاف دجاجة.. 7 سيارات إطفاء للسيطرة على حريق بمزرعة دواجن بالفيوم- صور    الأرصاد تُحذر: شبورة ورياح مثيرة للرمال والأتربة على هذه المناطق اليوم    حبس شاب متهم بالشروع في قتل آخر بالعياط    إصابة 3 أشخاص في مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بسوهاج    الإفتاء: لا يجوز ترك الصلاة تحت اي ظرف    فضل حج بيت الله الحرام وما هو الحج المبرور؟.. الأزهر للفتوى يوضح    محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل ويشدد على سرعة الإنجاز (صور)    سيلان الأنف المزمن.. 5 أسباب علمية وراء المشكلة المزعجة وحلول فعالة للتخفيف    رئيس شعبة مواد البناء: لولا تدخل الحكومة لارتفع سعر طن الأسمنت إلى 5000 جنيه    وسام البحيري يعلن مفاجأة ببرنامجه "من تراثنا الإذاعي" بإذاعة القرآن الكريم    جيش الاحتلال يعلن مقتل رقيب وإصابة اثنين آخرين في عملية عربات جدعون    أحمد كمال صاحب دور المجنون ب إعلان اتصالات: مكناش نقصد نزعل الزملكاوية والأهلي عشق (فيديو)    «ليست النسخة النهائية».. أول تعليق من «الأعلى للإعلام» على إعلان الأهلي (فيديو)    سفير مصر في بروكسل يستعرض أمام البرلمان الأوروبي رؤية مصر تجاه أزمات المنطقة    منافس الزمالك في ربع نهائي كأس الكؤوس الأفريقية لليد    إغلاق 7 منشآت طبية مخالفة و7 محال تجارية فى حملة بقنا    هشام زكريا: الأهلي الأفضل في أفريقيا.. وتدريب الزمالك شرف كبير    وزير الاستثمار يتوجه للعاصمة الألمانية برلين لتعزيز العلاقات الاقتصادية المشتركة بين البلدين    4 أبراج «زي الصخر».. أقوياء لا ينكسرون ويتصرفون بحكمة في المواقف العصيبة    استشهاد 10 فلسطينيين بينهم أم وأطفالها الستة في قصف للاحتلال على قطاع غزة    ترامب يوقع مشروع قانون يجعل نشر الصور الإباحية الانتقامية جريمة اتحادية    سلطات فرنسا تعلن مصرع مهاجر وإنقاذ أكثر من 60 آخرين فى بحر المانش    توريد 178 ألف طن من القمح المحلي في كفر الشيخ    هل يوجد في مصر فقاعة عقارية؟.. أحمد صبور يُجيب    بعد نجل محمد رمضان.. مشاجرات أبناء الذوات عرض مستمر في نيو جيزة| فيديو    رسميًا بعد الانخفاض.. سعر الدولار مقابل الجنيه اليوم الثلاثاء 20 مايو 2025    عليك إعادة تقييم أسلوبك.. برج الجدي اليوم 20 مايو    تامر أمين ينتقد وزير الثقافة لإغلاق 120 وحدة ثقافية: «ده إحنا في عرض مكتبة متر وكتاب»    "يا بختك يا أبو زهرة".. الصحفي محمد العزبي يكشف تفاصيل وقف معاشه بعد بلوغه ال90 عاما    حدث بالفن | حقيقة إصابة عبدالرحمن أبو زهرة ب "الزهايمر" وموعد حفل زفاف مسلم    موعد نقل القناع الذهبي لتوت عنخ آمون إلى المتحف المصري الكبير    أستاذ علاقات دولية: الاتفاق بين الهند وباكستان محفوف بالمخاطر    ما مصير إعلان اتصالات بعد شكوى الزمالك؟.. رئيس المجلس الأعلى للإعلام يوضح    شعبة المواد الغذائية تكشف 4 أسباب لعدم انخفاض أسعار اللحوم مقارنة بالسلع التموينية (خاص)    سامي شاهين أمينا للحماية الاجتماعية بالجبهة الوطنية - (تفاصيل)    جامعة حلوان تنظم ندوة التداخل البيني لمواجهة تحديات الحياة الأسرية    وفد قبطي من الكنيسة الأرثوذكسية يلتقي بابا الڤاتيكان الجديد    سرعة الانتهاء من الأعمال.. محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل    وزير العمل: قريباً توقيع اتفاقية توظيف للعمالة المصرية في صربيا    هل يجوز للمرأة أداء فريضة الحج عن زوجها أو شقيقها؟.. أمينة الفتوى: هناك شروط    «للرجال 5 أطعمة تحميك من سرطان البروستاتا».. تعرف عليهم واحرص على تناولهم    خالد الجندي: الحجاب لم يُفرض إلا لحماية المرأة وتكريمها    مزارع الدواجن آمنة إعلامى الوزراء: لم نرصد أى متحورات أو فيروسات    ما حكم صيام يوم عرفة للحاج وغير الحاج؟    رئيس جامعة دمياط يفتتح المعرض البيئي بكلية العلوم    موعد امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنيا 2025.. جدول رسمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة تبحث عن تعليق: "هذيان ذاكرة مشوشة بالأساس"
نشر في بص وطل يوم 11 - 10 - 2010

"قصة تبحث عن تعليق" باب جديد ينضم إلى الورشة.. سننشر فيه القصص بدون تعليق د. سيد البحراوي، وسننتظر منك أن تعلق برأيك على القصة.
وفي نهاية الأسبوع سننشر تعليقك بجوار د. سيد البحراوي؛ حتى يستفيد كاتب القصة من آراء المتخصصين والمتذوقين للقصة القصيرة على حد سواء.. في انتظارك.
"هذيان ذاكرة مشوشة بالأساس"

كانت تقول لك :
"حاول ألا تنسي ملامحك"
*******
هل حقاً أمرت قدميك كي تنحرف بك نحو ذاك المقهي المنزو أم أنها فعلت ذلك دون إرادتك ؟! ؛ حقاً لم تعد تدقق كثيراً فى تلك الأمور .. يكفى فقط أنها فعلت و يكفي كذلك أنك استقطعت بجسدك النحيل جزء و لو ضئيل من براح المقهي اللعين .. ربما عليك الآن أن تطلب شيئاً لتشربه .. لكن ماذا تشرب ؟! .. كالعادة سوف تدع أطرافك تقرر بالنيابة عنك .. دع فمك يفعل ذلك دون أن تتحمل أنت مغبة اتخاذ القرار .. ربما كنت بحاجة لقدح من القهوة .. لكن لم يا تري قرر فمك أن يأمر النادل أن يجيئك بكوب ليمون ؟! .. الم أقل لك أنك لم تعد تدقق في مثل تلك الأمور ؛ لقد قلتها أنت قديماً .. الحياة تمضي طالما هناك نفساً مازال يتردد بين ضلوعي .. أتراك تظن بعد ذلك أن الحياة لن تمضي الي الأمام ما دمت لن تحتسي قدحاً من القهوة ؟! .. ألا لعنة الله علي الهذيان ! .
ترتشف من كوب الشاي متمهلاً ؛ شاي ؟! .. نعم لقد جاءك النادل بكوب من الشاي فلم تقوي حتي علي الإعتراض .. نظراتك ذائغة تماماً و كأن عينيك ليست جزء من جسدك بالأساس ؛ حقاً لقد احترت في أمر أطرافك و أعضاء جسدك تلك .. لم يا تري تضبطهم دائماً يقررون و يفعلون ما أرادوا دون أن يآبهوا لك و كأنك لست المالك الفعلي لتلك الأجزاء ؟! ؛ لن تهتم كالعادة .. تشعل سيجارتك الرخيصة بعود ثقاب أخذ يآبي اليك اشتعالاً .. لكنه و مع إلحاحك ينصاع صاغراً .. تقرب الكوب من فاك و تنسي للحظات السيجارة التي اتخذت منها شفتيك وطأة للإنغلاق .. يتململ الكوب فى يدك و تسقط بضع قطرات علي ثيابك ؛ ثيابك ؟! .. إنك لا تذكر متي كانت أخر مرة نظفت فيها تلك الثياب .. أتراها قذرة ؟! .. لا يهم ؛ إن كانت نظيفة فقد أشركتها معك بضعة قطرات من الشاي الساخن ؛ و إن كانت متسخة فتأكد أنك لم تزد الأمر سوءاً .
تتساءل ما الذي دفعك للخروج من منزلك اليوم ؟! ؛ لا تعرف و لن تهتم حتي أن تعرف .. ربما العمل الذي طردت منه مؤخراً ! ؛ أو ربما للتسكع دون هدي ؛ أو ربما لأنك لم تجد شيئاً أفضل تفعله ! .
تتساءل لماذا يموج المقهي بالحركة من حولك و أنت ساكن ؟! ؛ و لماذا تركت العالم يتحرك دونك بضعة خطوات الي الأمام ؟! ؛ لا تذكر و لا تآبه كالعادة ؛ و لكن انتظر.. ما بالك تقضي وقتك في التساؤلات ؟! .. تساؤلات تساؤلات دون طائل من ورائها .. ألا لعنة الله على التساؤلات ! .
لكن أعذرني ؛ هل لى أن أسألك سؤالاً أخيراً ؟! .. قل لي بالله عليك .. كيف ستدفع ثمن كوب الشاي و جيوبك خاوية كما معدتك تماماً ؟! .
***
كانت تلك هي البداية .. يوم أن رأيتها لأول مرة .
يوم أن أبصرتها تسير حاملة علي كتفيها ما يرنو من سبعين عاماً من العمر.. كانت بعيدة عنك تماماً فلم تستطع أن تبصر ملامحها جيداً .. نعم لم تهتم بها في البداية فهي لم تكن بالنسبة لك سوى عجوز أخرى تسير بالقرب من منزلك .. حتى ثيابها الرثة المهترئة لم تكترث لها كثيراً .. حتى " البوقجة " القماشية المتسخة و التي تسحبها خلفها لم تزد من أمر اكتراثك شيئاً .. ما حدث لها _ فقط _ هو ما جعلك تلتفت اليها بكل جوارحك .
كانت تسير في الطريق حامله كيسها القماشي المتسخ تلتقط من الأرض ما يحلو لها و تودعه داخل ذاك الكيس ؛ تقلب بيدها محتويات صناديق القمامة بحثاً عن شيء ما ؛ تمسك بشيء .. تقلبه في يديها بنظرة فاحصة .. و إما تلقى به من حيث أتته أو تشركه أقرانه في كيسها المهترء .. لحظات ثم يلتف الأطفال حولها يمطرونها بالحصي و الحجارة .. لم ؟! ؛ لم تعرف .. كانوا يسبونها .. و أخذ فرداً منهم يضربها بكلتا يديه و يركض سريعاً حتي لا تطوله يديها .. و هي حائرة لا تدري ماذا تفعل .. تسبهم أحياناً و تصرخ في وجوههم أحيانا أخري .. و أنت في مكانك تتابع المشهد بعين لا تري .. تذكر أنك اتجهت ناحية الأطفال موبخاً إياهم فابتعدوا عنها مهرولين .. لكن أحدهم صاح فيك و هو علي مبعدة منك " تلك الشمطاء تصادق العفاريت " .. قالها و ابتعد ليلحق بأقرانه لا يلوي علي شيء.
و تسمرت أنت في مكانك تنظر اليها و لا تدري ماذا تقول ؛ حتى استدارت تواجهك .. لم تتفوه بكلمة .. لكنك قرأت في عينيها ما عجز لسانها عن قوله .. هل لاحظت _ رغم دموعها _ تلك الإبتسامة التي أرسلتها اليك بجانب ثغرها الذي سيطرت عليه التجاعيد ؟! .. هل تذكر بماذا شعرت بعد أن تركتك و ابتعدت تجر وراءها كيسها المتسخ ؟! .. نعم تذكر .. لقد كنت سعيداً .. و تابعتها ببصرك حتي انزوت في أحد الشوارع الجانبية .. و رجعت أنت الي دارك و صورتها قد حفرت لها مكاناً داخلك.
***
كانت تقول لك :
" إن الحقيقة قريبة منك .. لكن الخديعة أقرب رغم ذلك " .
***
تحترق السيجارة معلنه إنتهاء عمرها الإفتراضي فتحرق جزء من إصبعك .
لقد بدأت تتذكر إذن .. الأحداث تتداعي أمام عينيك و أنت كما المشاهد الذي أدخلوه السينما دون إرادته .. تريد أن تطرد عنك تلك الذكريات .. لكنها آبت اليك تلبية .
يجيئك النادل متسائلاً إذا كنت ترغب في مشروباً أخر ؛ فتنظر اليه صامتاً .. يكرر السؤال ؛ فلا تعي بم تجيب .. حسناً بم أنك لا تملك ثمن المشروب الأول فلن يضيرك شيئاً أن تسأله مشروبك التالي .. لكن ماذا يكون ؟! ؛ تشعل سيجارتك متفكراً .. ماذا تشرب ؟! .. أتراك تقف عاجزاً دون اتخاذ القرار ؟! .. من قال إنك امتلكت قرارك يوماً ما من الأساس ؟! .. العجز عن اتخاذ القرار أصبح جزء من كيانك .. و كأنك ولدت بعقل مغيب و جسد هزيل يتوسطهم عجزك الدائم أمام كل شيء .. حسناً .. النادل ينتظر .. تشير اليه بإصبعك راسماً له شيء مبهم دون أن تتفوه بكلمة .. فيذهب و هو يلعنك في سره.
تجذب نفساً عميقاً من سيجارتك فتنسى حتي أن تطرده ! .. تسعل حتى تدمع عيناك .
تتذكر كلماتها.
ترتسم أمامك ملامحها.
يجيئك النادل بذاك الشيء المبهم الذي لم تعرف إلام ينتمي .. تقرب الكوب من فاك و تنسي للحظات السيجارة التي اتخذت منها شفتيك وطأة للإنغلاق .. يتململ الكوب في يدك و تسقط بضع قطرات علي ثيابك ؛ ثيابك ؟! .......
***
كانت تقول لك :
" ذاكرتك هي حقيقتك .. فلا تنساها يوماً " .
***
تلك كانت المرة الثانية التي تراها فيها .
كانت الشوارع تغلي و الناس تركض من حولك فى كل اتجاة .. الملامح كانت تحمل من الغضب ما قيده الخوف كل تلك السنين .. الأخبار تتوافد فيزداد هياج الناس أكثر .. هل تذكر ذلك اليوم ؟! .. يبدو أنك تذكره جيداً .. فهذا يوم لن ينساه الجميع لأنه ببساطة .. لن يتكرر مرة أخري .
هل حقاً كان السبب فقط زيادة الأسعار و إلغاء الدعم الذي أعلنت عنه الحكومة منذ ساعات ؟! .. أم أن السبب كان أكثر عمقاً من ذلك ؟! .. لم تتساءل ؛ فقط تحركت مع الجموع التي انصهرت سوياً خالقه ذلك الكائن العملاق الذى انزوي كل تلك السنين .. كانت الهتافات تهدر فتختلج القلوب الواهنه و تزداد ثقلاً .. إختفى دور الفرد فجأة و انشقت الأرض عن المجموع الذى غاب طويلاً حتي كاد ينسي وسط غمرة الأحداث .
" إحنا الشعب مع العمال ضد تحالف رأس المال " .
الأصوات تعلو و الأرض تئن تحت أقدامكم .
" يا حرامية الانفتاح .. الشعب جعان و مش مرتاح " .
يستمر التقدم رغم جيوش الأمن المركزي التي بدأت الإنتشار بينكم .
" هم بياكلوا حمام و فراخ و احنا الفول دوخنا و داخ " .
قنابل الغاز بدأت عملها بفاعلية لم تتصورها .. تترنح .. يغيب عنك البصر لثواني ؛ فقط تشعر بالحركة من حولك .
" مش كفاية لبسنا الخيش .. جايين تاخدوا رغيف العيش " .
سيل من الرصاص المطاطي تقابله حمماًً من الطوب و الحجارة فى معركة لها مدلولها الكامل .. التقدم مستمر و الغضب كان عنوان الأحداث .
" هم بياكلوا حمام و فراخ و احنا الفول دوخنا و داخ " .
تتلقى عصا على رأسك .. أشخاص لا تعرفهم يلتفون حولك لحمايتك في مواجهة زبانية الطغيان .. السائل اللزج يسيل علي وجهك فتهتف معهم رغم الألم .
" يا حرامية الانفتاح .. الشعب جعان و مش مرتاح " .
الأفق أمامك محجوب تماماً بالأجساد البشرية الغاضبة .. يصرخون و تصرخ معهم .. بيد أن المخزون كان أكثر غزارة مما تخيلت .. هل حقاً فاض الإناء ؟! .. يبدو ذلك ؛ كل الأمال التي روجتها أبواق النظام يبدو أنها تهدمت أمام أعينكم فكانت الإنتفاضة .. إنتفاضة يبدو أنها ستكون الأخيرة .. حتي إشعار أخر .
بدأت العربات المصفحة في دخول المعركة .. العشرات ألقي بهم داخلها إنتظاراً للمصير المجهول .. يقترب الجنود منك ؛ تتزاحم أيديهم حولك .. فتركض لا تلوي علي شيء .
تركض و يركض بعضهم وراءك .. تلهث ؛ لا داعى للنظر خلفك .. نعم أدخل هذا الشارع الجانبى .. لا تتعثر .. استكم .....
هل تذكر تلك اليد التي جذبتك من ملابسك ؟! .. تلك اليد التى إنشقت عن أحد تلك البيوت جاذبه إياك حتى دخلت و أغلقت الباب دونكما ؟! .. تسترق السمع قليلاً عبر الباب فتسمع خطي الجنود الثقيلة تبتعد .. تلتفت و تقع عينيك عليها .
نعم لقد كانت هي .. و مازالت تحمل ذات السبعين عاماً علي كتفيها .
***
كانت تقول لك :
" إن ملامحك هي كيانك .. فحافظ عليها . "
***
لم تتبادلا أية كلمات .....
فقط أجلستك علي كنبة اسطنبولي و ذهبت تعد لك كوباً من الشاي المغلي .. هكذا و بلا مقدمات أحسست أنك جئت هنا من قبل .. و أن جزيئات جسدك هللت فرحة بمجرد أن احتوتها جدران هذا المكان .. هل تذكر صوت " باجور " الجاز الذي ذهبت هي لتعد عليه لك الشاي ؟! .. نعم تذكره .. و كأن طنينه مازال يغمر كيانك حتى الآن .. ذلك الطنين الذى شعرت أن ذرات عقلك تفاعلت معه خالقه لك ذلك الشعور بالحنين .. حنين الي شيء ما أقربه الي ذهنك يوم أن كانت أمك تدخلك لتستحم .. و كانت تجئ ب " باجور " مشابه لتسخن عليه لك الماء .. و أنت جالس بجواره بجسدك العاري يشعرك صوته قبل السخونة الصادرة منه بشيء واحد عشت طويلاً تبحث عنه دون جدوي .. الدفء .
تسدل الستار علي عينيك و تغيب عن المكان و يضيع عنك الزمان لثواني .. فقط تشعر بلزوجة العرق بين إبطيك و ذرات من التراب تغطي جسدك و تنتشر إنتشار الجنود علي ملامح وجهك المجهده .. و حينما بدأت تسترد وعيك من جديد رحت تجول ببصرك أنحاء الدار ....
كانت الإضاءة خافتة نوعاً ما .. الأثاث قليل جداً اللهم إلا تلك الكنبة التى تتربع عليها تقابلها ترابيزة يبدو عليها العجز رصت عليها بعض الأواني و يتوسطها " باجور " الجاز ذو الصوت المحبب اليك .. هكذا فقط .. لكن مهلاً ؛ رائحة الدار مميزة جداً .. هل تعتقد أن رائحة المكان هي جزء منه ؟! .. بالطبع .. رائحة تشعرك أنك مررت بذلك الموقف من قبل .. لم تستطع وقتها أن تميز كنه تلك الرائحة أو من أين تصدر .. لكنك بعد ذلك عرفت .. لقد كانت رائحة الشيء الوحيد الذى عشت طويلاً تبحث عنه دون جدوي .. الدفء .
صور المظاهرة تتقافز أمام عينيك .. نفس الوجوة تحاصرك و ذات الأصوات تصرخ بجانب أذنيك .. الهتافات بمفرداتها و بما تحمله من الغضب مازالت ترن في أذنك .. الشارع في الخارج مازال ينوء بالحركة .. صوت الرصاص ينطلق و مع كل طلقة تشعر بأن جسدك ينتفض .. تحاول أن تقف علي قدميك لتعاود المسير مع الرفاق فتآبي قدميك لك إستجابة .. هل بكيت وقتها ؟! .. ربما .
لا تذكر كم من الوقت غفوت .. لكنك و حينما صحوت من نومك وجدت كوب الشاي مازال ساخناً .. لم تنم كثيراً إذن .. عله الهذيان ؛ جلست بجوارك و وضعت كوب الشاي بين يديك .. فأخذت ترتشف منه متمهلاً شاعراً _ مع كل رشفة _ أن السائل الدافئ يتلمس طريقه بإنسيابية عبر أخاديد و ثنايا عقلك .. هل تذكر طعم ذلك الشاي ؟! .. لن تنساه ما حييت .. و كأن لسانك قد اختزنه في موضع ما داخل فاك فقط ليذكرك به من وقت لأخر .. نعم كان له طعم مميز .. و غريب .. لم تعرف مصدر عذوبة الطعم هذه .. لكنك بعد ذلك عرفت .. لقد كانت تلك العذوبة ناجمة عن الشيء الوحيد الذي عشت طويلاً تبحث عنه دون جدوي .. الدفء .
بعدما فرغت من الشاي .. أخذت منك الكوب و جاءت اليك بغطاء خفيف ثم أراحت رأسك علي فخذها و طلبت منك أن تنام قليلاً .. و نمت .. و لم تفق إلا في اليوم التالى .
***
هل تذكر كم تبدلت حياتك بعد ذلك اليوم ؟! .. لقد تبدلت أنت تماماً و صار بوسعك أن تحتضن العالم في صدرك و تودعه أحد أركان روحك .. إزدادت حيويتك و كأنك عدت بالزمن بضع سنوات الي الوراء .. و كأنك عدت الى ذلك الطفل الذي كانت أحلامه لا حدود لها .. هل كانت السعادة دانية منك الي هذا الحد ؟! .. و أبعد مما تتصور كذلك .
كانت تبدأ هي الكلام و كنت تبحر أنت في ملامح وجهها الذي رغم كل تلك التجاعيد و أثار السنين لم يفقد من حيويته و شبابه شيئاً .. هل كنت تشعر بالوقت و أنت في مجلسها ؟! .. لا و الله ما كنت تشعر .. و كأنك عثرت أخيراً علي ملاذك الأخير وسط ظلمة الحياة حالكة السواد .. و كأن ثمة ضوء خفيف إنتشر بخفة علي ظلمتك فأحالها ضياء تتلألأ قناديله بروح السعادة و خفتها .
لم تنضب أبداً حكاياتها .. و كأنها كانت تنتشل من بحرها قطرات تنثرها بيديها لتغسل بها روحك .. هل كانت ذكرياتها بهذا الكم الذي لا يفني ؟! .. نعم كانت .. و كنت أنت تقضي يوم عملك سريعاً سريعاً حتي تركض اليها طائراً .. و كأنك علي موعد مع طبيبك .. طبيبك الذي يملك أن يرطب بكلماته جروحك المتناثرة و التي بدأت تشعر أنها آخذه في التلاشي .
***
ما بال طعم هذا المشروب مر كالعلقم ؟! .. هل حقاً المشروب هو سبب تلك المرارة أم أن الذكريات التى أخذت تتداعي أمامك كانت السبب ؟! .. لا تدري ..
يسألك رجل جالس بجوارك أن تناوله عود ثقاب .. فتنظر اليه بعين لا تري .. فيشيح بوجهه عنك و هو يسبك في سره .
لكنك نسيته تماماً .. بل غبت عن المكان و ضاع من حولك الزمان .. و ما عدت تشعر إلا بالأحداث تتداعي أمام عينيك .. تتداعي و تتداعي قواك معها .. و يزداد طعم المرارة في فاك .
***
هل تذكر ذلك اليوم ؟!
كنت جالساً معها و كانت هي قد شرعت تقص عليك إحدى حكاياتها التي لا تنتهي .. لكن لم أخذ صوتها يضعف و يزداد وهناً ؟! .. و لم راح بريق عيناها يخفت و كأنه يبتعد عنك ؟! .. تنظر الي يديها فتجدها ترتعش ؛ ما بالها ؟! .. حينما سألتها لم تحر جواباً .. جسدها بدا و كأنه آخذ في الضمور .. تئن ؛ فتنتفض خلجاتك معها .. لحظات ثم تسقط فجأة فاقدة الوعي .
لم تدر ماذا تفعل .. هل يمكن للتوتر و الخوف أن يشلا حركة المرء ؟! .. يبدو أنهما فعلا .. تتسمر فى مكانك ناظراً اليها و قد راح بصرك يتنقل بين ملامحها و كأنك ترجوها أن تفيق .. فلا تجد منها استجابة .. تركض فى أرجاء الدار باحثاً عن شيء لا تدري كنهه فلا تعثر عليه .. تقف .. تحاول أن تجمع شتات نفسك .. تعود اليها و تحملها بين يديك .. ثم تركض بها خارج المنزل بحثاً عن المساعدة .
كان العرق يسيل علي وجهك فيمتزج بدموعك المنهمره ؛ هل تذكر نظرات الناس لك و أنت تركض ؟! .. هل صرخت فيهم أن يهبوا لمساعدتك ؟! .. لكن لم يا تري كانوا ينظرون اليك تعلو ثغرهم تلك الإبتسامة البغيضة ؟! .. تسبهم فلا يآبهوا لك .. تركض .. تنظر اليها فلا تشعر بثمة حركة في جسدها المتغضن .. تركض .. تلهث .. و يزداد إنهمار دموعك ....
حتي وصلت لتلك المستشفي .
طبيب الإستقبال ينظر اليك بنظرة خاوية ملولة .. اللعنة عليه هو الأخر .
تقول له :
_ ساعدني .. تلك السيدة تموت .
يقول لك بعد أن يرفع عينيه عن الجريدة :
_ أية سيدة ؟! .
_ تلك التي على يدي .. هل أنت أعمى ؟! .
يرميك بنظرة إزدراء و يعود ليكمل قراءة جريدته اللعينة .
فتصيح :
_ يا أولاد الكلاب .. فليساعدني أحدكم .. السيدة تموت .
تضرب مكتبه بقدميك و تسبه .. تصرخ فيه ؛ فلا يعيرك اهتماماً .. لكنك تسمعه يقول و عيناه علي الجريدة ...
_ يبدو أنك مخمور .. عد الى دارك قبل أن أبلغ الشرطة .
لكنك لم تصمت .. وضعت العجوز علي محفة قريبة و أمسكت الطبيب من ثيابه .. تصفعه علي وجهه .. تركله فيما بين فخذيه .. تسبه .. كل هذا و دموعك لم تتوقف عن الإنهمار .. تنظر ناحيتها فتجدها كما تركتها تماماً .. لاحركة ؛ لحظات و يتجمع حولك أطباء المستشفي و الممرضين و بعض المرضي .. ينزعوا يديك عن ثياب الطبيب الذي أخذ يصرخ فيهم ..
_ هذا الرجل مجنون .. أطلبوا له الشرطة .
فيحيط بك بعض من عمال المستشفي .. كبلوا بأيديهم يديك فى انتظار قدوم الشرطة .. و لم تكف أنت وقتها عن الصراخ .
***
لم تستطع أن تستوعب ما قيل لك بعد ذلك .. هل قالوا لك أنه لا أحد كان معك ؟! .. آى هراء هذا ؟! .. هل قالوا لك إن أعصابك ليست علي ما يرام ؟! .. فليلعنهم الله ؛ هل كان كل هذا سراباً ؟! .. و هل جننت حتي أصور الي نفسي كل هذا و هو لا وجود له ؟! .. ألا لعنة الله علي كل شيء .
تطلب منهم أن يجيئوا معك الي منزل العجوز حتي يتأكدوا من جيرانها أنها موجوده و أنها ليست سراباً .. تذهب معهم فلا تجد عند الجيران سوي ما يؤكد كلامهم ! .. آى لعنة هذه التي تتحكم في هؤلاء ؟! .. كيف لجيرانها أن يقولوا أنك أنت من يسكن في ذلك البيت و أنه لا عجوز هنالك ؟! .. كيف ؟! .
ظللت أياماً علي هذا الحال .. أدخلوك المستشفي حتي تستقر حالتك .. كنت كل ليلة تصحو من نومك و تصرخ فيهم ...
_ لست مجنوناً .. أين هي ؟! .. أنتم تخفونها عني .. يا أولاد الكلاب .
لم تستطع أن تبتلع فكرة أن ينتهي كل شيء و بتلك الطريقة .. لا عجوز لا حكايات لا سعادة ؟! .. كيف تستطيع أن تستوعب أنك من صور كل هذا و خلقه في عقله و هو لا وجود له من الأساس ؟! .. حقاً لم تعرف .. و ربما لن تعرف كذلك.

مصطفى جمال هاشم

التعليق:
قصة جميلة تلتقط لحظة عميقة، وتجسد أزمة مهمة في حياتنا المعاصرة بكل أسبابها برقة وسلاسة وإحكام في البناء؛ لكن الأخطاء اللغوية فادحة والعنوان يقلل من قيمة القصة.
أ. د. سيد البحراوي
أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة
ملحوظة:
ينشر الموقع القصص كما وردت من أصحابها، أي دون تدخل بالمراجعة، وذلك لأن الجوانب الإملائية واللغوية والتنسيقية يُعتد بها في تقييم النص. لذا وجب التنبيه، وشكرًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.