"محمد إبراهيم".. فلاح بسيط من إحدى قرى مدينة المنصورة باع جزءا من أرضه الزراعية -التي لا تتعدى في الأساس عشرة قراريط- وقرر بناء بيت لأبنائه بالطوب الأحمر، بعد أن أوشك بيته -المبني بالطوب اللبن- على الانهيار. محمد وأبناؤه كانوا سعداء جدا وهم يضعون حجر أساس منزلهم الجديد، وأوشك حلم كل واحد من الأبناء الخمسة بأن يمتلك شقة مستقلة أن يصبح حقيقة، ولكن لم تدمْ فرحتهم كثيرا؛ فبعد أن ارتفعت طوابق البيت إلى الرابع ظهرت الشروخ في حوائط البيت الجديد، ولم يجد الأب أمامه سوى أن يستعين بمهندس متخصص للتعرف على السبب، فكانت المفاجأة التي أكدها المهندس هي أن المشكلة في الطوب المستخدم في البناء؛ فهو من النوع الرديء، ولا يوجد حلّ سوى هدم البيت وإعادة بنائه من جديد. المشكلة نفسها تكررت في أكثر من بيت من البيوت التي يتم إنشاؤها حديثا، وهو ما يؤكد وجود مشكلة حقيقية في صناعة مهمة مثل صناعة الطوب، وهذا الأمر أكدته دراسة حديثة صادرة عن المركز القومي لبحوث البناء، والتي كشفت أن 93% من مصانع الطوب (البالغ عددها 10 آلاف مصنع على مستوى الجمهورية)، لا تنتج طوبا مطابقا للمواصفات؛ وذلك لغياب الرقابة على هذه المصانع -التي تنتج نحو 250 مليار طوبة سنويا- وهذا الغياب يرجع إلى تعدّد الجهات الرقابية أساسا على هذه المصانع مثل جهاز شئون البيئة والأمن الصناعي وغيرهما، ولم يؤثّر غياب الرقابة على جودة المنتج فقط، فهناك العديد من المصانع التي تخرق القوانين وتقوم بتجريف الأرض الزراعية، بغرض استخدام طميها في الصناعة، علاوة على العديد من المشكلات البيئية والصحية التي تخلّفها مصانع الطوب. معاقل صناعة الطوب في ميت غمر وزفتى على أرض الواقع حاولت رصد القضية، وإلقاء الضوء على نماذج مُصغرة للعشوائية التي تعيش فيها هذه الصناعة، فتوجهت إلى ثلاث معاقل تشتهر بصناعة الطوب وهي مدينة "ميت غمر" والقرى التابعة لها، والتي يوجد بها أكثر من 50 مصنعا، ومدينة "زفتى" وقُراها وبها ما يقرب من 80 مصنعا، ومنطقة "عرب أبو ساعد" التابعة لمحافظة حلوان، وتضم حوالي 100 مصنع للطوب. يقول "علاء البلتاجي"، صاحب مصنع طوب بمدينة "ميت غمر": "أصحاب المصانع يعانون عدة مشكلات تدفعهم إلى عدم الاهتمام بجودة المنتج، وأغلبهم لا يهتم بترخيص المصنع؛ ويأتي على رأس هذه المشكلات ارتفاع أسعار "المازوت" اللازم لتشغيل أفران الطوب بنسبة 100%، ووصل سعر الطن الواحد إلى 1000 جنيه، وبالتالي يستخدم صاحب المصنع أقل كمية من المازوت في عمليات تسوية وحرق الطوب، ليخرج المنتج النهائي هشاً وسهل التفتّت مما يضر بالمباني التي يدخل فيها". كثرة الرسوم المطلوبة من أسباب ضعف الطوب وسهولة تكسّره ارتفاع أسعار الموازين وقلة الطَّفلة يهدد الإنتاج وأضاف "هشام المنسي" -صاحب مصنع بقرية "صهرجت" التابعة لمدينة "ميت غمر"- أن ارتفاع رسوم "الموازين" التي تحصّلها هيئة الطرق والكباري على كل سيارة تحمل الطَّفلة إلى 660 جنيها للحمولة الواحدة دفع أصحاب المصانع إلى تقليل الطَّفلة المطلوبة للصناعة، وهو ما يشكّل خطورة على سلامة المنتج، ويجعله سهل الكسر، هذا إلى جانب ندرة العمالة المدرّبة وارتفاع أجورها، مما يضطر أصحاب المصانع إلى الاعتماد على الأطفال في العمل وهو ما يؤثر أيضا على الإنتاج. وأشار إلى أنه علاوة على ذلك فهناك مشكلة في الركود الذي أصاب الصناعة كلها بعد الارتفاعات المستمرة في أسعار الأسمنت والحديد وتراجع حركة البناء، وبالتالي قلة الإقبال على شراء الطوب، مما اضطر أصحاب المصانع إلى تخفيض أسعار المنتج، فسعر الألف طوبة لا يتجاوز 230 جنيها. روتين المحليات يعطّل التراخيص أما "عبد الرحيم الشحات" –صاحب مصنع بقرية "ميت الرخا" التابعة لمدينة "زفتي"- فأوضح أن عزوف أصحاب المصانع عن طلب التراخيص واستكمال الاشتراطات اللازمة للحصول عليها يرجع إلى التعقيدات الروتينية، وتضارب الجهات المنوط بها منح التراخيص؛ فمثلا يطلب مسئولو الأمن الصناعي بناء سور حول المصنع في نفس الوقت ترفض إدارة الزراعة هذا الأمر بحجة التعدي على الأرض الزراعية، هذا بخلاف محاضر البيئة التي تحرّر بقيمة 1000 جنيه للمحضر الواحد، ولكن صاحب المصنع يقوم بتسوية الأمر بدفع 200 جنيه فقط، ويستمر في مزاولة نشاطه. واستطرد: "على الرغم من عدم حصول أغلب أصحاب المصانع بمدينة "زفتى" على التراخيص فإنهم مُطالبون بسداد الضرائب سواء العامة منها أو الخاصة بالمبيعات، والالتزام أيضا بسداد قيمة التأمينات للعمال، وهو ما يدفع أصحاب المصانع بالتحايل على هذا الأمر من خلال استعانتهم بعمالة لا تطالب بحقوقها، وتعمل بدون أوراق رسمية". مفتشو البيئة لهم مشكلات تمنعهممن المتابعة الحقيقية التلوث أثناء تسوية الطوب وأشار "سعيد محمود" –صاحب مصنع بقرية "فرسيس" التابعة لمدينة "زفتى"- إلى أن بعض أصحاب المصانع تستخدم الزيت الرديء في أفران تسوية الطوب، وهو ما يزيد من نسبة التلوث ويقلل من جودة المنتج، ورغم وجود عدد من المراقبين من جهات مختلفة سواء من البيئة أو الزراعة أو الأمن الصناعي، فإنه لا يتم التنسيق بين هذه الجهات، مما ينتج عنه الكثير من المخالفات والمحاضر تتسبب في خسائر فادحة، خاصة أن تكلفة إنشاء المصنع الواحد تتجاوز 2 مليون جنيه ويعمل به حوالي 100 فرد. استخدام طَفلة غرب أسيوط الرديئة في الصناعة أما "خالد الشناوي" –صاحب مصنع بمنطقة "عرب أبو ساعد" بحلوان- فيرى أن كثرة المحاضر التي يتم تحريرها ضد أصحاب المصانع أصابتهم باليأس، واضطر عدد منهم إلى التوقف عن العمل؛ فمثلا قام مسئول البيئة بتحرير خمسة محاضر ضده خلال شهر واحد دون حضور أحدهم إلى المصنع، والمشكلة أنه صدر مؤخرا قرار بمنع استخدام طَفلة المحاجر الموجودة بالقرب من "ترعة المريوطية"، وهي منطقة قريبة وطَفلتها جيدة، وبدأ أصحاب المصانع يستخدمون طَفلة من منطقة غرب أسيوط، وهي طَفلة رديئة الجودة، وتكلفتها أعلى، وتؤثّر على جودة المنتج. مشكلات مفتشي البيئة تمنعهم من الأداء الجيد في العمل من ناحية أخرى فإن مسئولي البيئة كانت لهم مبرراتهم في تحرير المحاضر ضد أصحاب مصانع الطوب، فيقول "نبيل صلاح" -مدير مكتب شئون البيئة بمدينة "ميت غمر"- أن مفتشي البيئة لا يراقبون عمل المصانع بالشكل المطلوب؛ لعدة أسباب، منها قلة أعدادهم، وتبعيتهم وظيفيا للمحليات، وليس لجهاز شئون البيئة، ولذلك فرواتبهم لا تتجاوز 400 جنيه، ولا يحصلون على بدلات للمخاطر أو حوافز، إضافة إلى عدم وجود أجهزة مساعدة في العمل مثل أجهزة قياس الانبعاثات أو الضوضاء، علاوة على أن مفتش البيئة لا يمتلك الضبطية القضائية عند تحريره للمحاضر. اتهامات متبادلة بين أصحاب المصانع والمسئولين.. والضحية هو المواطن فصل الشتاء هو موسم المخالفات وفي هذا الإطار أوضح المهندس "السيد طه" -رئيس نقابة التشييد والبناء- أن مخالفات مصانع الطوب تنتشر بشكل كبير في فصل الشتاء، خاصة فيما يتعلق بجودة المنتج، حيث يتم حرق وتسوية الطوب بشكل غير سليم؛ لزيادة معدلات العمل في المصانع؛ لأن هذا الموسم يعدّ موسم العمل، فبدلاً من حرق الطوب لمدة أربعة أيام داخل الفرن، يختصر صاحب المصنع المدة ليومين فقط حتى ينتج كميات أكبر على حساب الجودة. وأشار إلى أن الرقابة والجودة انعدمت، بعدما استحوذ القطاع الخاص على 90% من صناعة الطوب، وأصبح الربح هو الهدف الأساسي أمام أصحابها، وتجاهلوا توجّه الدولة لمنع تجريف الأراضي الزراعية، مما أدّى إلى ضياع 2 مليون فدان من أجود الأراضي، منذ أن بدأت صناعة الطوب الطَّفلي عام 1975 نتيجة الزيادة السكانية، وانتشار العمران في كل أنحاء الجمهورية. الاختبارات تتم على عينة واحدة أما "مصطفى القباني" –عضو لجنة الإسكان بمجلس الشعب- فأكد أن مشكلة رداءة الإنتاج في مصانع الطوب ترجع إلى أن الاختبارات والرقابة عليها تتم على عينة واحدة من الإنتاج في بداية التشغيل، ولا يلتفت أحد إلى جودة الإنتاج بعد ذلك. الدكتور "محمود عيسى" -رئيس هيئة المواصفات والجودة- أشار إلى أن المواصفات المتعلّقة بصناعة الطوب وضعتها أكثر من جهة من بينها مصلحة الكيمياء والهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات ومركز بحوث البناء، والبعض يلتزم بها والبعض الآخر لا يلتزم، ولكن يبقى للمستهلك دور مهم في ذلك، فعليه ألا يشتري أي طوب مخالف للمواصفات حتى لا يعرّض منشأته لخطر الانهيار. إذن تبقى الكارثة موجودة؛ فكلّ من أصحاب المصانع والمسئولين يتبادلون الاتّهامات حول مخالفات صناعة الطوب، ولا يلتفت أحد للمواطن (المستهلك) الذي يعدّ ضحية هذه الصناعة العشوائية، التي تتطلب تكاتف الجهات الرقابية عليها، وأن تكون أكثر فاعلية وحزما لمنع التجاوزت التي تحدث بها. شاهد مراحل التصنيع من داخل أحد مصانع الطوب * خمسة جد اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: