ما بين عامي ( 1947- 1976) صدرت 4 مجموعات قصصية للكاتب الكولومبي الشهير "جابرييل جارسيا ماركيز"، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، وقد صدرت المجموعات في مجلد يحمل اسم "القصص القصيرة الكاملة" عن دار "المدى"، وقام بترجمتها "صالح علماني". أسماء المجموعات على الترتيب: عينا كلب أزرق، جنازة الأم الكبيرة، القصة الحزينة التي لا تُصدّق لإرينديرا البريئة وجدّتها القاسية، اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة.
رواية أو قصة قصيرة.. الجهد المبذول واحد في مقدمة المجموعة الأخيرة كتب "ماركيز" مقدّمة طريفة عن كتابة القصة القصيرة تتضمن تفاصيل شديدة الأهمية لعمل ذلك العبقري، وهي تفاصيل يمتزج فيها العام بالخاص عن كتابة الرواية والقصة القصيرة؛ فالأولى -من وجهة نظره- لا بد أن تكون الفقرة الأولى فيها دالّة على طابع الرواية وأسلوبها، وإيقاعها، وشخصياتها، بينما القصة القصيرة ليست لها بداية أو نهاية، فهي قد تتشكّل في ذهن الكاتب وتخرج على الورق، أو يعاني الكاتب الكثير من أجل إخراجها من منظور آخر، وبهذا يتساوى الجهد المبذول في كتابة رواية، مع مثيله في كتابة قصة قصيرة. يعَدّ "ماركيز" من روّاد الواقعية السحرية، وهو يختلف تماماً عن مفهوم القصص التي تلعب في مدار الفانتازيا المسطّحة، أو الخيال لمجرد التسلية فقط؛ إذ إن له طابعاً خاصاً به يمكن تلمّسه بوضوح في الكتابات النابعة من بيئة أمريكا اللاتينية، وهي تحتاج صبراً من القارئ في تتبّع الجمل والفقرات من أجل التوصل إلى غاية الكاتب ومراده، وهذا الأسلوب يتشابه في تعقيده مع تيار الوعي الذي نشأ على أيدي كتّاب عظام في القرن الماضي، أمثال: "ويليام فوكنر"، و"جيمس جويس"، و"فرجينيا وولف". صداع ذلك المحبوس في تابوت يُنتظر موته! فمثلاً نجد أن القصة الأولى في مجموعة "عينا كلب أزرق" تحمل عنوان "الإذعان الثالث"، وهي تبدأ بوصف صداع قاسٍ يفتك بجمجمة بطل القصة.. إلى هنا تبدو الأمور تقليدية ومملة، فمن هو الذي سيهتم بصداع يصيب شخصاً ما؟
مع مرور الوقت نُدرك أن بطل القصة محبوس في تابوت، ويُنتظر موته! "هو كان يعرف أنه صار الآن ميتاً بالفعل". يعرف ذلك من تلك السكينة الوديعة التي استسلم لها جسده. فكل شيء قد تغيّر بصورة مفاجئة، خفق القلب الذي لا يُدرك، ولا يشعر به أحد سواه، قد تلاشى الآن من نبضه، وصار يشعر بالثقل، تجذبه قوة داعية وقادرة نحو مادة الأرض الأولية". يمكن القول بأن الهاجس الأول الذي يحتلّ تفكير "ماركيز" هو الموت، الموت بمعناه العام الفضفاض من موت الجسد، والروح، والقيم. الضلع الآخر للموت في قصة "الضلع الآخر للموت" يرُهقنا "ماركيز" بتفاصيل عن بطل القصة الذي يموت شقيقه، ويتكشف للبطل أنه قد يكون لديه رابطة غير عادية بأخيه، قد تجعله يتفسخ ويتحلل وهو حيّ، فور أن يبدأ التحلل لدى أخيه تحت طبقات الأرض!. "فكّر أن الفرضية الأخيرة هي الأكثر احتمالاً، واستسلم لانتظار مجيء ساعته الرهيبة، صار لحمه طرياً، دهنياً، وظن أنه يشعر بأن مادة زرقاء تكسوه بالكامل، تشمم نحو الأسفل وصول روائحه البدنية، لكن فورمول الحجرة المجاورة وحده هو الذي هزّ أغشية الشمّ لديه برجفة جليدية لا يمكن الخطأ بها". الجمال سبباً للتعاسة والبكاء تعدّ قصة "حوّاء في هرّتها" قصة فريدة في مضمونها ونهايتها، وطريقة السرد المتّبعة؛ فهي تحكي عن معاناة امرأة جميلة جداً: معاناتها من جمالها الذي لم تأخذ منه إلا التعاسة والكآبة، ولكم ودت لو كانت قبيحة لا يأبه بها أحد، أو أن تكون رجلا مثلاً!. "بدا كما لو أن شرايينها قد سُكنت بحشرات صغيرة وساخنة، تستيقظ مع اقتراب الفجر، يومياً، وتذرع بقوائمها المتحركة، في مغامرة تحت جلدية ممزقة". وتتحقق رغبة المرأة في أن تتخلى عن جمالها، وتغدو طيفاً يتحرك بحرية في البيت بعد اختفاء جسدها، مما يجعلها تحنّ إلى جسدها السابق، ثم تفكر في أن تتسلل إلى الهرّة القابعة هنا، وتتقمص جسدها، وتتحرك من خلالها، قبل أن تنتهي القصة بمفاجأة غير متوقعة لن أقولها هنا. "عينا كلب أزرق" "عينا كلب أزرق" تتحدث عن لقاء بين شخصين في الأحلام، المشكلة هنا أن الرجل عندما يصحو من نومه لا يتذكر تفاصيل الحلم الذي يتكرر باستمرار، وهي تيمة رومانسية صاغها "ماركيز" بشكل كئيب، وحالم. هذا الجو الحالم نراه حتى في عناوين القصص الغريبة، والمعبرة جداً عن فكرة القصة وجوهرها، مثل: "نابو"، "الزنجي الذي جعل الملائكة تنتظر"، "أحدهم يفسد تنسيق هذه الأزهار"، "مونولوج إيزابيل وهي ترى هطول المطر في ماكوندو". وهي أسماء معبّرة عن الجوّ السحري الفائق الذي يطرحه "ماركيز" بشكل مرح أحياناً، وكأنه يتتبع الشخصية باستمتاع، ويرغب -مثل القارئ- في معرفة مصيرها، وتارة بشكل كئيب وحنون وكأن معرفته المسبقة تلك بمصير الشخصية أمراً لا يبعث على السعادة! امرأة مهنتها رؤية الأحلام في قصة "طائرة الحسناء النائمة" نلمح حادثة شخصية صاغها "ماركيز" في شكل قصة، عن اهتمامه بفتاة حسناء نائمة بالطائرة، وإعجابه بها، ومحاولاته من أجل التعرف عليها، وتنتهي النهاية نهاية غريبة جديرة بالكاتب الكولومبي، ونفس الحال بالنسبة لقصة "بائعة الأحلام" -وهي تختلف تماماً عن الكتاب الذي صدر عن ورشتته للسيناريو- والتي يحكي فيها عن امرأة ترى الأحلام، وتعرف مصائر الناس.. هذه هي مهنتها في الواقع، ويبدو جيداً من النهاية أن "ماركيز" قد قابل المرأة فعلاً، وتأثر بها!. في قصص "ماركيز" نرى حياة من نوع خاص؛ حياة مكثفة، سريعة، مدهشة بمقدماتها ونهاياتها، تتطلب من القارئ أن يصبر في القراءة من أجل أن يرى ما يراه الكاتب، ولعله يستشعر نفس الدهشة الجميلة التي تصيبه، وهو يقصّ ويروي!