»يوم نودع باب القلعة في رحلتنا لملاقاة الموت.. سنلقي آخر نظرات فوق مدينتنا ونقول لها: في أرجائك يا بلدتنا لم نستمتع بالضحكات لكنا قدّمنا ما نملك كي نمنحك الفرحة« هكذا اختار الكاتب مصطفي زكي أن يبدأ مجموعته القصصية »مشهد من ليل القاهرة« الصادرة عن دار العين حديثا، بأبيات للشاعر التركي ناظم حكمت، ربما تحمل هذه الأبيات أكثر من تصدير للمجموعة، فهي مفتاح لقراءة المجموعة ككل، إذ تسيطر جدلية العلاقة مع المكان علي نصوص زكي الكاتب السكندري؛ بداية من عنوان المجموعة الذي يتحدث عن »جانب مظلم من القاهرة«؛ وحتي مشاهد عدة تدور تحت تروس المدينة القاسية؛ بين توديع الأحباء وفراق الأماكن وأحلام تتحطم وضحكات لم تسمع في أيا من قصص المجموعة. مصطفي زكي كاتب سكندري ولد عام 1980 درس الفلسفة بجامعه الأسكندرية، مشهد من ليل القاهرة» هي أولي كتبه. تنقسم المجموعة إلي قسمين تتصاعد القصص فيهما وفقا لمنحني درامي يتصاعد ليقص علينا حدثا عاما لا يحكيه أي من رواة المجموعة؛ وهو مشهد يزداد ظلمة في حيوات أبطالها، الأمر الذي يشعرك أنك تقرأ متوالية قصصة، إذ تتكون المجموعة من ست عشرة قصة اختار زكي للقسم الأول منها عنوانا هو »وَجد« ويضم ثماني قصص؛ ثم »غبش - شده الظلمة « وهو عنوان القسم الثاني ويشكلان معا مرثية تحتفي بحالة الحزن والرحيل. هذا التقسيم الذي اختاره زكي يشعرك أن للمجموعة معني فوقيا لن تصل إليه، إلا بقراءة المجموعة كاملة متتالية، وبقراءة النصوص جميعا كنص واحد أكبر، فقصصه التي يغيب عنها اسم الأبطال دائما تروي قصة الخروج من المدينة الساحلية أو العودة إليها بخيبة؛ بداية من بطله الذي يعود من الحرب، وقد فقد الأشياء القديمة كلها كما قال لحبيبة ترسمها قطرات المطر تحت شتاء الأسكندرية في قصة »أمطار في حديقة بعيدة« إلي آخر يغادر الأسكندرية بحثا عن حلمه في القاهرة لينتهي به الحال عاملا في سينما قاهرية يشاهد الأفلام بحسرة في قصة »مشهد من ليل القاهرة« إذ يصف الراوي الحال التي وصل إليها بطل القصة »كان يخسر جزءا من بحره كل يوم.. يتبخر.. يذهب بلا عودة.. يفتقد رائحة اليود.. بالأمس شعر بملم« الرمال داخله.. وأدرك أن القاع أصبح قريبا.. وأن البحر استطاع الفرار.. وتركه وحيدا«. في هذه الكلمات تلمس احتفاء المجموعة بالنهايات المأسوية والهزيمة المطلقة، فلا تستطيع فتاة »ارتعاشات غروب خافت« النجاة من واقعة اغتصاب يرويها رفيقها؛ بعد أن عجز عن الدفاع عنها في مواجهة رجل لا يخلو جبينه من »زبيبة الصلاة الضخمة« في دلالة واضحة للحال التي صار عليها المجتمع كله. استخدم زكي سردا تقليديا ولغة شعرية كلاسيكية، لم تخل من قدرة عالية علي الوصف؛ تشعرك أنك أمام قصص كانت لتصبح مشاهد سنيمائية، لكن ومع اهتمامه بالوصف والتيمات البصرية في المجموعة لم تخل من بعض الغموض؛ فبعض قصص المجموعة لا يكتمل فيها الحدث ولا يسرد الراوي خلفياته وتشعرك أنها مجرد نصوص كتبت للاحتفاظ بالحالة دون تفاصيل. حيلة الغموض نجحت في بعض القصص مثل قصة »خلاص« (من الجزء الاول وجد) التي تدور في أجواء ريفية لا يحدد الكاتب مكانها فقط يكتفي بوصف دقيق لكوخ يضم رجلا وإمرأة يطاردهما الجميع، وتبدأ القصة في قبيل وصولهم لأبواب الكوخ وإحاطتهم إياه من كل جهة، ليختار الكاتب لقصته نهاية علي طريقة الكاتب الكولومبي جابريل جارثيا ماركيز في روايته »مائة عام من العزلة« بارتفاع المرأة عن الأرض؛ ربما في دلالة علي خلاصها من جسدها البشري، وتحولها إلي طاقة نور تصيب الجميع بصدمة. يزيد الأمر التباسا وغموضا وجود قصة بنفس الاسم في الجزء الثاني من المجموعة (غَبش)، لها رائحة الريف أيضا، وإن كانت بطلة خلاص الأولي قد تحررت بصعودها إلي السماء، إلا أن بطلي خلاص الثانية قد حرقا أحياء بعد أن أمسكا متلبسين بجرم لا يذكره الكاتب، فقط نراهما في آخر القصة ملطخين بالسباب والطين، ربما تبدو النهاية مأسوية لكن الكاتب يقدمها باعتبارها خلاصا آخر إذ يقول علي لسان البطل : »أغمضت عيني.. لأراها أمامي تدنو مني ببطء.. وتبتسم ابتسامتها الندية.. تمسك بيدي.. وتأخذني بعيداً, لنتواري معًا خلف الأفق«. وأخفقت حالة الغموض في قصص أخري مثل »وصول« التي لا تمسك فيها فقط إلا بحالة أب مطارد، يتمني أن يفلت من شيء ما، يخشي الرد علي هاتفه المحمول، ولا يمكنك فهم أية ملابسات أخري. أما قصة »صلوات لتمثال حجري« فتتداخل فيها الأزمان والأماكن ليسرد الراوي مشهدا لعقاب بطل فرعوني، انتقدت إلهه الذي استأثر بحبيبة البطل لنفسه، لكن القصة تعج بمفردات العصر الحديث (القطار- السيارة والزحام الخانق) مما يعطيها ملمحا فنتازيا. ككتاب أول نجحت »مشهد من ليل القاهرة« في تقديم حالة شجية ما أن تدخلها حتي يصعب عليك الإفلات منها، حتي مع حالة الغموض التي اكتنفت بعض قصص المجموعة.