أعلنت دار الإفتاء المصرية أن غدا هو أول أيام شهر رمضان المعظّم، أعاده الله علينا وعليكم وعلى الأمة بالكلمات الثلاث التي لم ولن تنفصل أبدا: الخير واليمن والبركات.. فأهلا رمضان.. اكتست الشاشات بالأقمار والفوانيس وعزفت الموسيقى الرمضانية وانطلقت الحناجر الموسمية تنشد: "رمضان جانا وفرحنا به"، و"مرحب شهر الصوم مرحب" بينما كنت أنا أعدّ حقيبتي الصغيرة عازما على السفر لقريتي الصغيرة لأستنشق عطر رمضان بين أحضان العائلة وعلى مائدتها، وأترنم مع الأذكار بالذكريات، أحصي مع ساعات اليوم سنين العمر، وأتأمل مع نمو شمس النهار نمو الحياة معها، فأهلا رمضان.. كان القطار الذي استقللته من "باب الحديد" حتى "دمنهور" يعلن العصيان على كل المكتوب والمعلوم والمحفوظ من أن تاريخ انطلاقه قد مر عليه ساعة بينما القطار ينظر للساعة بازدراء وتثاقل ثم يتثاءب، وبعد أن استجاب الله دعاء أحد الصائمين بصدق، فقد انطلق القطار أخيرا بعد ساعة من موعده "المقرر" الذي أصبح "ملغيا".. ورغم أن موعد وصوله "المقرر" كان قبل المغرب بساعتين على الأقل، فإن المغرب يبدو أنه بكّر قليلا هذا اليوم، فها هي شمس اليوم الأول من رمضان تميل للغروب وتودّع الصائمين وتبشرهم باقتطاف أول ورقة في نتيجة رمضان وارتشاف أول كوب من قمر الدين، ونحن في قطارنا "السريع" نخالف رغبة الجميع ونستحلفها بالله أن تتأخر قليلا، ما لفت نظري هو كمية التمر والعصائر والسندوتشات وزجاجات المياه التي كانت تلقى عليّ من نوافذ القطار في كل محطة يتوقف فيها.. فأهلا رمضان. نزلت أخيرا من القطار قبيل المغرب بدقائق تاركا مائدة القطار الضخمة للمحظوظين من أصحاب المحطات القادمة!، وسرت على قدميّ مسرعا لدقائق في المدينة شبه الخاوية، ولكنني في النهاية التمست العذر للمؤذن في عدم انتظاري حيث لا بد من تضحية البعض من أجل إسعاد الكل، والكل ينتظر المغرب، وأنا الوحيد الذي أتمنى لو تأخر قليلا لأصل إلى بيتي مثلهم وأنتظره بلهفة شأن الصغار والكبار على السواء، ولكن ها هو الأذان يعلو كصوت وحيد في مشهد مهيب من الفضاء والهدوء والعطر الرمضاني المنسكب من السماء إلى الأرض.. فأهلا رمضان.. أسير متعجلا لا لألحق بالطعام ولكن لألحق بالصحبة، وأشارك الأيدي الدافئة فرحة الاجتماع في طبق واحد، فإذ بأحد الشبان يستوقفني ويمد يده لي مع ابتسامة رقيقة بحقيبة صغيرة قائلا "تقبل الله منا ومنكم"، أخذت الحقيبة مأخوذا ببشاشة وجهه، فوجدت فيها بعض التمر والسندوتشات والعصائر.. فأهلا رمضان.. لم أكد أسير خطوات حتى وجدت أحد الشبان ينادي عليّ فألتفت فإذ به يخرج من محل العصير حاملا كوبا من العصير قائلا: "كل سنة وحضرتك طيب"، أخذت الكوب مأخوذا بهذه الطيبة التي تشعّ من عيني الشاب وارتويت بها قبل أن أرتوي من كوبه، ثم أعطيته إياه مصحوبا بالشكر ودعوة خالصة بالبركة.. فأهلا رمضان.. أسير خطوات أخرى لأجد كهلا يهرول نحوي مقسما عليّ بالله إلا ذهبت معه لنفطر سويا، فلم أمسك بسمة رضا وامتنان اجتاحتني وأنا أعتذر له بقرب البيت.. أسير مملوءا بالرضا والرحابة والروعة، وفي مثل هذا الجو والمشاعر والروحانية والتحابّ والتراحم والتكافل لم أستطع إلا أن أملأ رئتيّ بأكبر قدر من رمضان.. فأهلا رمضان.