في البداية أؤكد أن هذا المقال ليس ساخراً بالمرة.. بل هو مفعم بالألم؛ فحادثة الانتحار الأخيرة بالشنق أسفل كوبري قصر النيل والتي قيل إن الحب كان سبباً فيها؛ لهي حادثة مؤلمة ومؤسية، ليس على المنتحر ولكن على ملايين الشباب الذين يقتلهم اليأس والإحباط، فنمر عليهم فلا نراهم وهم قتلى تسيل دماء أحلامهم تحت كباري مصر السريعة.. هذه محاولة جادة لإنقاذ أنفسنا؛ لأنه لا أحد سينقذنا اليوم.. فلكل امرئ شأن يغنيه. أولاً: الحب "الحب".. هذه النعمة الربّانية التي تهب الحياة، "الحب".. الذي هو في الأرض بعض من لوازمها لو لم نجده عليها لاخترعناه.. "الحب".. ذلك الشعور الجميل المستمد من السماء.. هل يقتل الحب؟؟ هل تصبح الحياة يوماً سالبة للحياة؟ الإجابة اليقينية الجازمة هي: لا.. الحب شعور يغذّي صاحبه ويدفعه للحياة والسعادة، لا يدفعه للموت والشقاء. فما الأمر إذن؟ الأمر أن الحب كشعور راقٍ منعزلٍ عن الحياة هو كالزهرة الجميلة التي لا تحتمل قسوة الحر ولا صخرية التربة ولا جفاف الماء من حولها، فتذبل، في حين يغالب الشوك والصنوبر والمطاط كل ذلك، فتموت الزهرة الضعيفة إلى جانبه بينما هو يتعملق. ربما الحب لم يحتمل صعوبات الحياة.. ربما لم يحتمل قسوة الظروف.. ربما ازداد عطش الزهرة إلى حد الذبول.. ولكن هنا يبرز السؤال: من قال إننا يجب أن نكون مثل الزهرة؟ بالطبع لا.. لا ظروف الجو العام ولا تربة المجتمع من حولنا تقبل أن نكون أزهاراً تذبل مع أول موجة حر.. لقد تحوّر المصري على مدار تاريخه فلم يعد زهرة؛ لأنه لا الطقس ولا التربة ولا الظروف تقبله كزهرة، فوجب عليه أن يكافح ليعيش.. يقوّي جذوره، يزيد فروعه، يخلق حيلاً دفاعية يحافظ بها على وجوده.. ويحمي نفسه من تقلبات مزاج "الطبيعة". نصيحة لكل شاب أن يجعل من الحب قوة نفسية توازن ضعف الإمكانات وقسوة الظروف وقلة الحيلة.. عليه أن يربط قلبه بمن يمنحه هذه القوة.. عليه أن يحب ربه ويحب نفسه ويحب أن يعيش كما يريد. ثانياً: الانتحار الانتحار قرار ضعيف؛ بل هو أضعف قرار يُتخذ.. إنه بالضبط مثل الجري في "الخناقة" أو الغياب يوم الامتحان، هو هروب.. والهروب ليس حلاً، بل هو جهل وقلة عقل؛ أن تهرب من مشكلة مؤقتة لتضع نفسك في مشكلة دائمة.. كلنا نعرف أن قاتل نفسه في النار؛ فهل نار الدنيا -أياً كانت درجتها- تعدل نار الآخرة الموقدة التي تطّلع على الأفئدة؟! لماذا يقصر الإنسان نفسه في شرنقة ضيقة يحلم أن يجد فيها كل ما يريد.. هل يمكن لها أن تمنحه الحياة؟ بالطبع لا.. إنها ستظل تضيق عليه وتضيق وتضغط على أعصابه حتى تقتله أو ينفجر.. ولكنه المذنب في النهاية؛ لأنه من فعل ذلك بنفسه.. اختار الضيق وترك السعة.. لم يجُلْ ببصره بأبعد من حدود بؤبؤ عينه.. لم يفكّر.. ولذا شنق نفسه بيده.. وماذا عليه لو أنه حلم.. لو أنه ارتبط بمبدأ كبير.. بفكرة عظيمة.. لو أنه اختار الحياة بكل مفرداتها التي لا حصر لها.. ألم يكن ليجد لها طعماً أحلى ومذاقاً أشهى ولذة في معاناتها؛ لأنه على قدر أهل العزم تأتي العزائم.. ثالثاً: كوبري قصر النيل أظن الآن أن كل عاشقَين اختلسا من أهلهما "خروجة" لينعما بدفء الحب المسترَق، لن يشعرا بعد ذلك اليوم بمشاعر حب صافية؛ إذ ستخيّم عليهما ظلال الموت من حولهما على كوبري الحب العتيق.. أظن أنهما لن يغرقا في أحلام المراهقة إلى بعيد.. ستجبرهما الذكرى على أن يضعا المستقبل الواقعي أمام أعينهما.. هنا شاب مات ضحية الحلم والخيال.. فهل نفكّر بعقولنا ونقرر لأنفسنا أن نعيش كما ينبغي، أم تكون النهاية هي حبل وجسد مدلّى أسفل أقدام العشاق.