القدس المحتلة مثلها مثل أي مدينة في العالم، لا تجد لافتات تدلّك على المناطق القديمة التي تمتاز بالأصالة، وتحوي تراث وحضارة المكان بدون تزييف أو تحريف، وتتضمن أسراراً لا يعرفها سوى سكان المكان، فما هي الأسرار المميزة للقدس القديمة التي لا يعرفها أحد سوى سكانها الذين عاشوا بها هم وأجدادهم من قبلهم منذ مئات وربما آلاف السنين؟ هنا يتحدث الصحفي الإسرائيليي بصحيفة معاريف (دوفي زخاي) عن جولة فريدة قام بها إلى حواري وأزقة القدس القديمة، حيث لا يصل إليها سياح.، وكان في وصف الصحفي الإسرائيلي لما شاهده اعترافاً ضمنياً بعروبة القدس. لذلك سنترككم تتجولون معه وتلقون نظرة على الحواري والأزقة التي يفوح منها عبق التاريخ، وتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك عروبة تلك المدينة المقدسة، وقدرتها على الصمود في وجه المخططات الصهيونية الرامية إلى تهويدها. "في صباح مقدسي بارد كان سوق البلدة القديمة بالقدس لا يزال فارغاً، وحواري القدس لا تزال خالية من المارة، والمحال مغلقة بأبواب حديدية، ولكن رويداً رويدا بدأت المحلات تفتح أبوابها المغلقة، وبدأت الحياة تدبّ في المدينة، وحينها ترى كل أصحاب المحلات التي فتحت أبوابها يحملون بشياكة فناجين القهوة الصغيرة، ويتبادلون التحية مع جيرانهم ومع القهوجي الذي يقدم لهم الشاي والقهوة، والذي يتنقل بينهم بخفة حركة بدون أن تسقط منه ولو قطرة واحدة من الفناجين التي يحملها. وبمجرد أن دخلت حارة النصارى لم أتمكن من مقاومة رائحة الخبز الطازج المنبعث من مخبر "شوارس بيكري" العتيق الموجود هنا منذ 400 عام، والذي توارثه صاحبه أباً عن جد، وأنا ما زلت أتذكر طعم السمسم الذي لم يفارق فمي طوال اليوم. ثم بعد ذلك توجهت إلى محل قديم وصغير يمتلكه شخص من أصل أرميني يُدعى (لفون دلاليان) يقوم ببيع مختلف أنواع الشيشة (النارجيلة باللهجة الشامية) والتبغ، حيث أوضح لنا أن أفضل أنواع الشيشة تأتي من مصر وسوريا. وذكر لنا أنه لا يُسمح لأي شخص آخر باستعمال شيشته الخاصة؛ لأن أي شخص محترف في تدخين الشيشة يمتلك شيشة خاصة به ويعتبرها شيئاً شخصياً خاصاً. بعد ذلك توجّهنا إلى محلات بيع الأحجار الكريمة، ثم إلى مطعم "زياد"، وهو محل صغير وضيق جداً، ولا يوجد على بابه لافتة، ولكن جميع سكان المنطقة يعرفونه جيداً، ويعرفون أنه يقدّم أفضل حمص وفلافل على الإطلاق، وعلى طاولاته الضيّقة التي تستوجب عليك شدّ بطنك لكي تتمكن من الدخول والجلوس عليها، ينقضّ الزبائن الجوعى على أطباق الحمص والفلافل الحارّة ولا ينسون طبعاً (فحل البصل)، ولكن بعد أن أكلنا في هذا المطعم أدركنا أن هذا الطعم الرائع يهون من أجله المجهود البدني الذي بذلناه حتى نتمكن من الجلوس على إحدى طاولاته. وبعد أن خرجنا من مطعم "زياد" كان السوق قد اكتظّ بالنسوة، وزادت أعداد العربات الصغيرة المُحمّلة بالبضائع التي يقوم بدفعها العاملون في المحال، الذين يقومون بالصياح الدائم لتحذير المارة، وشاهدْت النساء العربيات وهن جالسات على نواصي الحارات يَبِعْن الفاصوليا الطازجة والكسبرة والنعناع. وفي شارع "الخانكة" يمكنك مشاهدة مأذنة المسجد الذي يحمل نفس اسم الشارع، وفي إحدى الحارات المتفرعة منه يوجد فرن بدائي عام يعمل بالحطب يأتيه الناس بطهي ما اشتروه من السوق مقابل مبلغ يُدفع لصاحبه. وفي نهاية جولتنا توجهنا إلى مصنع الطحينة البدائي الذي يصنع أفضل طحينة في العالم، والذي يعود إلى مئات السنين أيضا، والذي يبيع الطحينة في عبوات بلاستيكية لا يوجد عليها اسم؛ لأنه لا يحتاج إلى دعاية أصلاً. كانت جولة (دوفي زخاي) هذه في حواري القدس القديمة التي لا يعرفها أحد سوى أهلها، والتي تشبه في تركيبتها وفي طباع أهلها إلى حد كبير حواري القاهرة القديمة في الموسكي والعتبة وباب الشعرية والسيدة زينب وغيرها.