عندما وطئت قدماي "بورسعيد" وقادتني عبر شواطئها وأحيائها، أوقعتني في فخّ سحرها وتملكت كل حواسي منذ الوهلة الأولى؛ فهي عرين المقاومين البواسل، الذين تشتمّ رائحة بطولاتهم في كل نسمة هواء وأنت تتجول بين أركانها. واجهات مبانيها القديمة ما زالت تحمل عبق التاريخ، والحديث عنها غاية في الجمال والروعة، الشوارع نظيفة، وهواء الكورنيش يشفي العليل. أردت أن أتوغّل أكثر في قلب بورسعيد، وكلما حطّت قدماي على شبر بها أشعُر بغبطة تجاه أهلها، الذين يعيشون في نعيم هذه المدينة، وفجأة كشّرت عن أنيابها، وكشفت عن وجهها الآخر؛ عندما وجدت نفسي بين منطقتين غاية في العشوائية هما "زرزارة" و"عزبة أبوعوف"؛ الأولى عبارة عن عشش صفيح تتقاسم الفئران المعيشة فيها مع ساكنيها من البشر، والثانية يعيش أهلها داخل إسطبلات وحظائر الخيول والمواشي!. الحياة هناك مثل الموت! الحياة في المنطقتين مثل الموت؛ الآدمية مفقودة، الخصوصية معدومة، ساكنوها لا يعرفون معنى الأمان، الأمراض تنهش أجسادهم الضعيفة، الفقر حليفهم الدائم.. ليس هذا كل شيء، ولكن هناك الكثير من الهموم والمآسي التي حاولت إلقاء الضوء عليها. ذهبت إلى "زرزارة" التابعة لحي الضواحي؛ فوجدتها عبارة عن عشش من الأخشاب والصفيح، متناثرة بشكل عشوائي، وشوارعها عبارة عن بِرَك ومستنقعات لمياه الصرف الصحي، والحشائش وأشجار البوص -التي تُشبه الغابات المخيفة- منتشرة في كل مكان، الأهالي يجلسون أمام عششهم، والأطفال يلهون في أكوام القمامة. تحدثت إلى أحد سكان المنطقة، ويُدعى "منصور أبوحسن" فقال: "جئت إلى المنطقة منذ ما يقرب من 35 سنة مع المهجّرين العائدين عام 1974، وكانت عبارة عن أرض فضاء، فأقمنا بها الخيام والعشش، بعد أن فقدنا منازلنا، وعدم تنفيذ المسئولين لوعودهم بتوفير مساكن بديلة". العشش تتحول لجمرة من النار في الصيف وفي الشتاء تكون بٍركة من الطين 4000 عشة يسكنها 25 ألفاً تكاثرت العشش حتى وصل عددها إلى أكثر من 4000 عشة على مساحة 30 فداناً، ويقطنها ما يزيد عن 25 ألف نسمة، وهذا الرقم في تزايد مستمر، خاصة مع تزايد معدل هجرة أبناء المحافظات الأخرى إلى بورسعيد للعمل بها، والإقامة ب"زرزارة" بسبب ارتفاع أسعار الشقق السكنية "الآدمية". وأضاف: "نعيش كالأموات؛ فالعشش تتحول إلى جمرة من النار في فصل الصيف، وفي الشتاء تكون بٍركة من الطين، فأسقفها من الأقمشة القديمة والصفيح، وجدرانها من الأخشاب المتهالكة المليئة بالثقوب، والعشة الواحدة يقيم بها أكثر من 5 أفراد على الأقل، في حين أن مساحتها لا تزيد عن ثلاثة أمتار مربعة، وأكثر ما نُعاني منه هو انتشار الفئران والثعابين، والتي تُقاسمنا السكن بالعشش، وتتكاثر بشكل بشع في الحشائش، وتهاجمنا ليلاً لتنهش أجسادنا، وتنتشر الأوبئة بيننا، فلا يخلو جسد أحد من الأهالي من عضة فأر أو لدغة ثعبان!". مجرمون ومتطرفون دينياً تناولت سيدة أُخرى من "زرزارة" وهي "سميحة إبراهيم" أطراف الحديث وقالت: معظم سيدات المنطقة يعملن كخادمات في المنازل، وهي المهنة التي انتشرت بينهن؛ بعد تفشي البطالة بين الرجال مع اقتراب إلغاء المنطقة الحرة ببورسعيد، وتحوّل الكثير منهم إلى مجرمين و"مسجّلين خطر"، والبعض الآخر سلك طريق التطرف الديني، وهو ما يفسّر انتشار النقاب بصورة كبيرة جدا بين سيدات "زرزارة". كما انتشر أيضاً زنى المحارم؛ بسبب انعدام الخصوصية داخل العشة الواحدة، والزنى عموماً بين السكّان، بعد تلاشي الأخلاقيات أمام مرارة المعيشة وغياب التوعية. وأضافت: "أعيش أنا وأسرتي المكونة من 6 أفراد داخل عشة صفيح، كل مكوناتها سرير مُتهالك، وقطعة قماش على أرضها، ولا تصلها الكهرباء أو المياه النظيفة، ونعتمد على "اللمبة الجاز" وشراء مياه الشرب أو الحصول عليها من المناطق المجاورة، أما "دورة المياه" فعبارة عن صندوق من الصفيح ملاصق للعشة، ومتصل بالشارع ليلقي الصرف به، ولذلك فالشوارع تحولت إلى ما يشبه دورة مياه كبيرة، فكل الصرف الصحي الخاص بالسكان يُلقى بها".
أوضحت: "المنطقة أصبحت مأوى للبعوض والحشرات السامة، التي أصابتنا بالأمراض الجلدية، وحساسية العين، ودمرت صحة أطفالنا، حيث يلهون في مياهها ويسبحون في قاذوراتها، وكثيراً ما تشتعل الحرائق بالعشش، دون أن تُسعفنا سيارات الإطفاء؛ لأنها لا تستطيع الدخول إلى حواري المنطقة الضيقة". نتيجة انتشار مياه الصرف الصحي داخل وخارج العشش أصبحت الأطفال وجبة للفئران الأطفال وجبة للفئران! ويقول "شهاب سمير": "أُصيبت ابنتي الصغرى بمرض الطاعون، بعد أن تحوّل ذراعاها إلى وجبة للفئران، أما زوجتى فأصيبت بالعمى، نتيجة انتشار مياه الصرف الصحي داخل وخارج العشة التي نقيم بها، وأضطر للسهر طوال الليل بجوار أُسرتي؛ لحمايتهم من هجوم الفئران، وأشار إلى تخلي المسئولين عنهم، وعدم توفير مساكن آدمية لهم أو حتى تطهير المنطقة، التي تحوّلت إلى مقلب لقمامة سكان المناطق المجاورة". أما "وفاء سيد" فأوضحت أنها عجزت عن الانتقال هي وأسرتها للإقامة خارج "زرزارة"؛ لأن أقل إيجار شهري لشقة سكنية يزيد عن 400 جنيه، وهي لا تقدر على توفيره، خاصة أن زوجها عاجز عن الحركة؛ بعد أن أُصيب بجلطة أقعدته عن العمل، وتحاول تدبير نفقات معيشتها بالعمل كخادمة في منازل وشاليهات بورسعيد. اغتصاب وانتحار وأشارت إلى أن ابنتها الكُبرى حاولت الانتحار أكثر من مرة؛ بعدما تعرضت للاغتصاب، وهي عائدة من عملها ليلاً، فالأمان مفقود بالمنطقة، بعدما تحولت إلى مأوى للمدمنين والمجرمين، الذين يفرضون إتاوات على الأهالي، والمتطرفين دينياً الذين يفرضون النقاب على النساء، وحتى على تلميذات المدارس الصغيرات بالقوة في بعض الأوقات. ويستطرد "أيمن قنديل" قائلاً: تزوجت منذ شهرين فقط، بعد أن قُمت ببناء عشة من الأخشاب بجوار عشة عائلتي، ولم أستطع توفير مسكن ملائم خارج هذه المنطقة العشوائية؛ لأنني أعمل بائع ملابس متجول، ومكسبي اليومي لا يزيد عن 10 جنيهات، علاوة على الديون التي أقوم بتسديدها، بعد أن حصلت عليها لتوفير نفقات الزواج، وأضاف: رغم أنني من أبناء بورسعيد، لم أستطع الحصول على شقة حتى الآن، رغم أن المحافظة تُعلن كل يوم عن توفير شقق للشباب. سبب الروائح الكريهة هو عمل أهل "عزبة أبوعوف" في تربية المواشي وجمع القمامة منطقة الروائح الكريهة بعد ذلك تركت "زرزارة" واتجهت إلى منطقة "عزبة أبوعوف" الواقعة على بحيرة المنزلة غرب بورسعيد، وعلى مسافة 2 كيلو متر قبل الوصول إليها هاجمتني الروائح الكريهة التي تنبعث منها، وعندما وصلت إليها وجدت أن سبب هذه الروائح؛ هو عمل أهلها في تربية المواشي وجمع القمامة، كما تنتشر بها إسطبلات الخيول، حيث يعمل عدد من السكان كعربجية وسائقي "كارو". التحرك داخل المنطقة غاية في الصعوبة؛ فالحواري مليئة بروث الحيوانات وجُثث النافق منها، الكارثة الأكبر التي وجدتها هناك، أن إسطبلات الخيول والمواشي هي نفسها مساكن لأهالي المنطقة. التقيت برجل مُسنّ يُدعى "عم حسن" وقال: "المنطقة عمرها أكثر من مائة عام، حيث كانت مقراً لإسطبلات خيول الأجانب الذين كانوا يقيمون ببورسعيد، ولكن مع خروج الأجانب، استمرت الإسطبلات في أيدي العاملين بها، لعدم توفر مساكن، فأقاموا بها وتوارثوها وحوّلوها إلى حظائر لتربية الجاموس والماعز، والخيول التي تُستخدم في جر الكارو والحناطير". وقد تحوّلت شوارع المنطقة -التي يوجد بها أكثر من 1000 حظيرة وعشة- إلى مقالب للقمامة، حيث يعمل بعض السكان في جمعها وفرزها. وأصبحت الحياة بالمنطقة لا تُحتمل؛ فسكانها مصابون بالأمراض الصدرية والجلدية وغيرها، بسبب العيش مع الحيوانات. الطفل مات تحت أقدام البقرة وأوضحت "نبيلة المرسي": "أقيم مع أسرتي داخل الحظيرة، حيث نقتسمها مع المواشي، ونتحمل كل ألوان العذاب؛ لأنه ليس لنا مأوى غير ذلك، وقد توفّي ابني الأصغر منذ عامين بعدما دهسته الأبقار وهو نائم بالحظيرة، وأخاف أن يتكرر ذلك مع بقية أبنائي". وأشارت إلى انتشار الكلاب الضالة والذئاب، التي تتجمع حول الحيوانات النافقة، وتمنعنا من الخروج بمجرد حلول الظلام. المال والجهد في خبر كان! حُمّلت كل هذه المشاكل وقمت بعرضها على "محمد عبد العال" -مدير إدارة البحوث والإسكان ببورسعيد- باحثاً عن أسباب لتقاعسهم عن انتشال هؤلاء البؤساء مما هم فيه فقال لي: "إن أعداد العشش في تزايد مستمر؛ فمثلاً قمنا بعمل حصر لمنطقة "زرزارة" قبل خمس سنوات وكان عدد العشش الموجودة بها وقتها حوالي 2500 عشة فقط، ولكنها وصلت الآن إلى أكثر من 4 آلاف عشة، والبعض يلجأ لإقامة عشة للحصول على سكن بديل أكثر من مرة، وهناك من يأخذ سكناً ثم يبيعه، ويعود لمكانه... وهكذا، وأغلب قاطني هذه العشش هم من غير أبناء بورسعيد، ولا تنطبق عليهم قواعد الإسكان، وقال إن مناطق "زرزارة" و"أبوعوف" وغيرها تحتاج إلى جهد ومال لتطويرها". وحتى يتوفر الجهد والمال -كما قال السيد المسئول- فليذهب البسطاء والبؤساء إلى الجحيم! فهم لا يستحقون الحياة أصلاً؛ فمثلهم مثل الفئران والمواشي التي يعيشون معها، ولكن حذارِ.. فقد يتحولون في لحظة إلى قنابل موقوتة تنفجر في وجه المدينة الجميلة وتلطّخه دماً، فإذا أراد المسئولون ذلك فلينتظروا حتى يتوفر الجهد والمال!