من يصدّق أن أجر المربّية أو الشغّالة الفلبينية في مصر أصبح يتجاوز راتب وكيل أول الوزارة في مصر؟ ومن يصدق أن في مصر التي قيل لنا يوماً ما إن "دبة النملة" مسموعة فيها ومرصودة، أصبحت سوقاً خفيّة للعمالة الأجنبية تتحكم فيها عصابات من السماسرة والوسطاء، وهذه العصابات هي التي تحدّد الأسعار التي باتت تراوح بين 400 و800 دولار في الشهر. حسب الجنسية؛ فالأسعار المتدنية للقادمات من الدول الإفريقية وأمريكا اللاتينية، والمرتفعة للقادمات من جنوب شرق آسيا. هو عالم حافل بالحِيَل والألاعيب التي تستثمر الفوضى والتسيّب في المجتمع المصري، كما تستثمر تركيز أجهزة الأمن على ما هو سياسي، وتغفل ما عداه؛ ذلك أن كل ما يتحرك في داخل ذلك العالم يتمّ خارج القانون؛ فلا التجارة مشروعة ولا "البضاعة" لها سند من الشرعية. ولأن الذين يتعاملون مع السوق على وعي بتلك الخلفية؛ فإنهم يتكتّمون الأمر، ويغضّون الطرف عن الكثير من حوادث الابتزاز والهروب والاحتيال والسرقة التي يتعرّضون لها، خشية استدعائهم إلى مقرّات الشرطة أو النيابة لمساءلتهم. الذي لا يقل أهمية عن كل ذلك أن جيش العمالة غير الشرعية يزحف على مصر مستغلاً الثغرات التي أشرت إليها، ومستفيداً من وفرة السيولة لدى فئات القادرين، الذين أصبحوا يتنافسون على اقتناء المربّيات والشغّالات الأجنبيات، ويُبدون استعداداً لدفع أجور تعادل أضعاف ما يتقاضينه في الدول النفطية الغنية (متوسط الأجر 200 دولار في الشهر). في الوقت ذاته فإن جيش العاطلين في مصر ينضاف إليه كل يوم أعداد جديدة، والتقديرات المتداولة تتحدث عن أن عددهم وصل إلى نحو ثلاثة ملايين شخص. لقد أتيح لي خلال الأسابيع الأخيرة أن أتعرف على بعض جوانب ذلك العالم؛ خصوصاً ممارسات مافيات السماسرة، الذين تخصّص بعضهم في جنسيات معيّنة، يستجلبون الفتيات منها بترتيب مع مكاتب أو أشخاص في العواصم الآسيوية والإفريقية، وأحياناً يزوجوهن من شباب مصريين للاحتيال على شروط الإقامة. وقيل لي إن هؤلاء يحققون مكاسب كبيرة من وراء تلك التجارة؛ لأنهم يوزّعون المربّيات على عدد من البيوت ويتقاضون نسبتهم من الأجر، وبعد شهرين أو ثلاثة يعيدون توزيعهن على مجموعة أخرى من الزبائن. ويتقاضون نسبتهم مرة ثانية، ويظلّون يكررون العملية وينقلوهن من بيت إلى بيت على مدار العام.. وهكذا. وقيل لي إن من أولئك السماسرة من يلجأ إلى الكنائس التي يتبعها أولئك الفتيات؛ لأنها تُعلّق على أبوابها قائمة بأسماء وجنسيات وأرقام هواتف الوافدات أو الهاربات من البيوت، اللاتي يبحثن عن أجور أعلى، كما أن لهم عيونهم في النوادي الكبرى التي يتصيّدون منها المربيات المرافقات للأطفال. وسمعت في دولة الإمارات شكاوى بعض العائلات التي قضت عطلاتها وعادت بغير المربّيات اللاتي اصطبحتها، بعدما تعرّضن للإغواء بالأجور المضاعفة والاختطاف من جانب السماسرة. لم يستغرب وزير الدولة للتنمية الإدارية الدكتور أحمد درويش من وصول أجر المربية الآسيوية إلى 800 دولار في الشهر (نحو 4500 جنيه)، ومنه عرفْتُ أن ذلك المبلغ يعادل الراتب الشهري لوكيل أول الوزارة. وكان تعليقه أن هذه مفارقة كاشفة تسلّط الضوء على عدة أمور؛ أولها أن ثمة طلباً متزايداً على العمالة الأجنبية في هذا القطاع بقدر ما أن هناك إعراضاً عن العمالة المحلية، وثانيها أن نظام الأجور عندنا يشوبه خلل يحتاج إلى إعادة نظر؛ بحيث يصبح الأجر مرتبطاً بطبيعة الوظيفة التي تؤدى وليس بالشهادة التي يحملها الشخص. الأمر الثالث أن موضوع استقدام العمالة الأجنبية في البيوت يحتاج إلى تنظيم قانوني يعالج الفوضى الحاصلة، ويسدّ الثغرات التي سمحت بنشوء تلك السوق. أما الأمر الرابع؛ فهو أن مصر إذا أرادت أن تقضي على الظاهرة؛ فينبغي أن توفّر البديل المحلي المعقول من خلال العناية بتدريب العمالة المصرية والارتفاع بمستوى مهاراتها، مع إعادة النظر في منظومة القيم الاجتماعية السائدة التي تحطّ من قدر بعض المهن الشريفة، وتؤثر البطالة على الاشتغال بها، حين انتهى الوزير من كلامه، تسرّب إليَّ الشعور بالإحباط، لأنه أقنعني بأن المشكلة لا حل لها في الأجَل المنظور. الشروق 22 مايو 2010