2079 أسرة تعيش كل منها في حجرة واحدة.. لا تزيد مساحتها على 10 متر مربع، قد يكون هذا الرقم غير مثير للانتباه عند قراءته؛ إذا ظن قارئه أنه يشمل الأسر المصرية بصفة عامة، ومن المحتمل أن يكون مدهشاً إن كان يخصّ الأسر القاهرية. ولكن قد يكون "فاجعة" إذا عرفنا أنه مرتبط بمنطقة واحدة في مصر، هي منطقة "بولاق أبو العلا"، وما يثير الدهشة أكثر عندما تعرف أن العدد الإجمالي للأُسر في هذه المنطقة 3564 أسرة أعداد أفرادها 11809 نسمة. هذه الأرقام ليست من بنات أفكاري، أو تكهنات جزافية، ولكنها صادرة من محافظة القاهرة نفسها، والتي تقع في نطاقها منطقة بولاق أبو العلا، هذه الأرقام تحوّلت في ذهني إلى صور حية، وأثارت بداخلي العديد من الأسئلة، فكيف تعيش أسرة بأكملها داخل غرفة واحدة؟ وكيف يُمارسون حياتهم بها؟ حملت هذه الأسئلة وذهبت إلى هناك لعلّني أجد الإجابة. التناقض على كورنيش النيل
دخلت إلى منطقة بولاق أبو العلا من طريق كورنيش النيل، فشعرت بالتناقض الكبير بين فئتين من أبناء هذا الوطن، فواجهة الكورنيش تغلفها الأبراج العالية والفنادق الفخمة التي يسكنها "كريمة المجتمع"، ولكنها تُخفي خلفها أُناساً منسيين، فعندما تجاوزت مثل هذه المباني الضخمة، وجدت نفسي وسط عالم آخر ومختلف في كل شيء؛ البيوت أو بمعنى أدقّ "الصناديق الخشبية" متلاصقة.. تخترقها حواري ترابية لا تسع لمرور شخص واحد إلا بشق الأنفس، السكان يهيمون في الشوارع هرباً من ضيق المسكن.. الهموم تكسو الوجوه، والبؤس يعلن عن نفسه في كل نظرة عين من عيونهم، الشقاء يتلذذ وهو ينهش في أجسادهم المنهكة.
محروس: لم أستطِع الإقامة سوى في هذه الغرفة مقابل 50 جنيهاً شهرياً عندما اقتربت تعجّبت من تجاهلهم لي، ورفضهم الحديث في البداية، وفسّروا الأمر بعد ذلك بأنه من الحين للآخر يحضر إليهم مسئول لحصر أعدادهم، ويكيل لهم الوعود البراقة بحل مشاكلهم، ولا يحدث أي شيء، فملّوا الأمر، وتأكدوا في قرارة أنفسهم أن حالهم لن تتغيّر، وأنهم سيعيشون ويموتون كما تموت خيول الحكومة المريضة التي لا تستحق الحياة. المهم.. جرفتني أقدامي إلى أحد المنازل التي أوشكت على الانهيار، وبه أربع غرف.. بكل واحدة أسرة بأكملها، طرقت باب واحدة منها ليخرج لي أربعة أطفال بملابسهم الرثة، ومن خلفهم الأب والأم، حاولت جاهداً النفاذ من باب الغرفة لأجد نفسي داخل "قبر" بمعنى الكلمة؛ المكان بلا نوافذ.. يحوي سريراً وموقد نار للطهي ودولاباً صغيراً للملابس. دورة مياه مشتركة قال الأب -ويُدعى محروس نيازي: "أعمل سائق "كارو"، دخلي في اليوم لا يزيد على 7 جنيهات، ولم أستطِع الإقامة سوى في هذه الغرفة مقابل 50 جنيهاً كإيجار شهري، وفي هذا المنزل المتشقق الجدران، والذي لا يوجد به سوى دورة مياه واحدة، نشترك فيها مع باقي الأسر التي تقيم بنفس المنزل. ويقيم معي بالغرفة أبنائي الستة وزوجتي وأمي، ونضطر للنوم متلاصقين، تقاسمنا الفئران هواء الغرفة الذي لا يكفي استنشاقه لبقائنا على قيد الحياة دقيقة واحدة، لولا أننا ننام والباب مفتوح". وأضاف: "تسببت مشكلة السكن والإقامة بغرفة واحدة -وهو أمر منتشر بالمنطقة- إلى العديد من السلبيات مثل "زنى المحارم"، فكثيراً ما نسمع أن هذا الأمر يحدث بين الإخوة أو بين الآباء وبناتهم، وهو شيء بشع؛ يحدث طالما أن المنطقة يحكمها المسجلون خطر من ناحية، والمتطرفون دينياً من ناحية أخرى، والذين وجدوا الفرصة ليتلاعبوا بعقول البسطاء".
سميرة: أنام وسط أبنائي حتى لا يحدث ما نسمع عنه من زنى المحارم خرجت إلى حارة أخرى، وصعدت عبر سلم خشبي إلى غرفة من غرف هذه المنطقة البائسة، وكانت الأسرة التي تسكنها مكوّنة من ستة أفراد؛ ثلاث فتيات وولدان، وأمهم المصابة بعجز في قدميها أقعدها عن الحركة بعد وفاة الزوج، وأصبحت عاجزة أيضاً عن تدبير نفقات الأسرة، فلم تجد أمامها سوى أن تدفع أولادها وهم صغار السن للعمل في ورش الحدادة أو جمع القمامة، أما البنات فيبعن الورد على الكورنيش، ليضيع حلمها في إلحاقهن بالمدارس. الاستحمام بالتبادل داخل الغرفة وصفت لي الأم -سميرة- تفاصيل المعيشة داخل غرفتها قائلة: "يومنا يبدأ في السادسة صباحاً، حيث يستعد أولادي للخروج للعمل في نفس موعد عودة بناتي من عملهن الليلي في بيع الورد، ولا يوجد دورة مياه مستقلة لنا، بل مجرد عشة طيور نستخدمها لقضاء حاجتنا، وجبة الفطور لا تتعدّى طبقاً من الفول أتناوله مع أبنائي، لأقوم بعدها -زاحفة على الأرض- أحاول ترتيب الغرفة، التي لا يوجد بها سوى سرير متهالك، و"جركن" لتخزين مياه الشرب التي نحصل عليها من المناطق المجاورة". وأضافت: "إذا فكّرنا في الاستحمام، فيكون بالتبادل داخل الغرفة الخانقة، ولا نستقبل أي ضيوف بالغرفة سوى بالشارع أو على أي مقهى، وعندما يحل الليل أنام وسط أبنائي لأفصل بينهم حتى لا يحدث ما نسمع عنه من زنى محارم، وأحميهم أيضاً من هجمات المسجلين خطر والمدمنين؛ الذين يستبيحون الدخول إلى أي غرفة، ويسهل عليهم الأمر تقارب الأسطح وتجاور الغرف. وكل ما أتمنّاه في حياتي هو توفير سكن ملائم، ومساعدتي في تجهيز بناتي للزواج، واللاتي أشعر بالرعب عليهن، كلما كبرن أمام عيني؛ لأنني لا أقدر على حمايتهن".
الحياة في بولاق تفتقد أبسط حدود الأمان الغرفة تشبه فرن النار أما محمد الحسيني -من أبناء المنطقة- فقال: "إن فصل الصيف -بالنسبة لنا- يعني الجحيم بكل أنواعه؛ حيث تتحوّل الغرفة إلى ما يشبه "الفرن" المميت، وكتلة من اللهب لا يتحمّلها أحد، وأضطر للنوم بالشارع في أوقات كثيرة أنا وأولادي، طلباً لنسمة هواء نظيفة". وأضاف: "أعمل في بيع الذرة المشوي والترمس، وأدفع إيجاراً شهرياً للسكن 70 جنيهاً، ولم يلتحق أبنائي بالمدارس، أما زوجتي فهي مصابة بأمراض هشاشة العظام ولا تقدر على الحركة، ولا أستطيع تحمّل نفقات علاجها، وعندما أراد ابني الأكبر الزواج؛ لم أستطِع توفير سكن له، فاضطر إلى الزواج في نفس الغرفة التي نعيش فيها، لتزيد المأساة، ونعيش محرومين من أبسط الحقوق الإنسانية". واصلت جولتي بالمنطقة، وكلما توغلت في حواريها، وجدت أن البؤس صفة مشتركة بين أهلها؛ الوجوه تكاد تتشقق من الوجوم والنكد، الحياة تفتقد أبسط حدود الأمان، الأخلاقيات عندهم أوشكت على الاندثار تحت أنقاض الإهمال الذي يعيشون فيه، وتلاعب المسئولين بأحلامهم، فهل يصل إليهم مسئول صادق في تنفيذ وعوده، قبل أن يفقدوا ما تبقى لهم من ارتباط بوطنهم؟