عندما تتحول الشوارع الواسعة إلى حوارٍ ضيقة... والجامع الكبير إلى زاوية مسجد صغيرة... ومراكز التجميل إلى كوافير بسيط ينشر "مناشفه" بالخارج لضيق مساحته.. والأسواق الكبرى إلى محل بقالة صغير يرفع شعار «الشكك ممنوع».. اعلم أنك لم تدخل إحدى المناطق العشوائية المعروفة فى القاهرة.. كالدويقة وعزبتى بخيت وخير الله، ولكنها عشوائيات الأحياء الراقية التى غالبا ما تخفيها الأبراج العالية المطلة على النيل المعروفة بتمتع سكانها بمراكز اجتماعية ومالية مرموقة. ولكن بمجرد أن تبحث فى داخلها تجد «قرى» صغيرة لا يعرف سكانها معنى الرقى سوى من خلال عناوينهم المدونة ببطاقاتهم الشخصية، التى تؤكد أنهم من سكان «المعادى.. الدقى.. العجوزة..ماسبيرو»، ولكن فى الحقيقة ما هم إلا جزء مهمل من تلك الأحياء الراقية. مترو الأنفاق وحده قام بتقسيم حدائق المعادى إلى منطقتين، إحداهما لا يوجد بها أى عمارات سكنية، حيث يغلب عليها فيلات فخمة تتوسط الحدائق الخضراء التى تملأ المنطقة، والتى تبدو واضحة على سبيل المثال فى ميدان الحرية الذى يغلب عليه اللون الأخضر لكثافة أشجاره التى تخفى وراءها فيلات لا تزيد كل منها على 3 طوابق، والأخرى تكتشفها بمجرد عبور سلم المترو إلى الجهة الأخرى حيث «بلوكات» حدائق المعادى السكنية ذات اللون الواحد، والسوق المجاورة لسلم المترو مباشرة.. التى تعبر عن طبيعة السكان البسطاء الذين يقفون بالساعات فى طابور الخبز الممتد بطول الحارة الضيقة أمام الفرن البلدى الوحيد. وكأى منطقة شعبية ينتشر فى هذا الجانب من حدائق المعادى العديد من المقاهى والورش، التى تسببت فى العديد من شكاوى السكان، فبمجرد سؤالهم عن أكثر المشكلات التى تؤرقهم أجابت رحاب محمد، إحدى سكان المنطقة: «تعدد المقاهى من أكثر المشكلات الموجودة هنا حيث يفصل بين كل مقهى مساحة لا تتعدى بضعة أمتار، وبالطبع لا يغلق أى منها أبوابه إلا مع شروق شمس اليوم التالى أى أننا مجبرون على سماع تعليقات زائرى المقاهى وزهر الطاولة طوال الليل.. خاصة أننى أسكن بالطابق الأرضى وبجوارى مقهى حرمنى من فتح نافذتى المطلة على الشارع تماما»، أما فوزى حسن – صاحب محل بقالة - فيقول: «الشوارع هنا ضيقة للغاية وفى الوقت نفسه ينتشر العديد من ورش الحدادة التى تزعجنا دائما بأصواتها العالية والحديد المتطاير منها على المارة». وبسؤاله عما يعرفه عن الجهة الأخرى للحدائق أشار إلى أنه لا يعرف عن الجانب الآخر سوى أنه منطقة «هاى» كلها فيلات وناس لا يعرفون عنهم شيئاً سوى أنهم جيران يحملون فى بطاقاتهم الشخصية نفس العنوان الخاص بهم مع اختلاف اسم الشارع فقط «فهم من سكان حدائق المعادى.. ونحن أيضا». نفس الشىء يتكرر فى حى المعادى بأبراجه العالية المطلة على كورنيش النيل مباشرة، والتى لا يقل ارتفاع الواحد منها عن 20 طابقاً، وشوارعه المسماة بالأرقام مثل شارع «26»، ومنطقة المعادى الجديدة التى لا تقل فى رقيها عن المعادى نفسها، بل تكثر بها الفيلات. ولكن كل هذا لم يمنع أن تكون تلك الأبراج العالية ساترا لمنطقة عرب المعادى، تلك المنطقة العشوائية ذات الأسواق الشعبية والمبانى السكنية الملتصقة ببعضها، والمزلقان الذى يفصل تلك المنطقة عن شارع الجزائر الذى يعود بالمنطقة مرة أخرى للرقى، بالإضافة إلى ذلك فإنه لا يفصل بين المعادى ومنطقة دار السلام سوى مسافة بسيطة جدا على الرغم من الاختلاف الكبير بين مستوى المنطقتين. وتعد منطقة العجوزة من أكثر المناطق التى ظهر فيها التناقض واضحاً، حيث تجد شارعاً كبيراً به مدرسة لغات مثل مدارس القومية، امامها مستشفى العجوزة المطل على الكورنيش مباشرة، وفى ظهرهما شارع البطل جمال الدين خلوصى الذى يمتد من الكورنيش إلى داخل منطقة العجوزة بمسافة كبيرة، وهو الشارع الذى لا يستوعب السيارات الفخمة التى تمر من خلاله، ليس فقط لأنه يضم بيوتاً سكنية فقط، وإنما أيضاً لأن به سوق خضار تقام يوميا فى عرض الطريق الذى تحول إلى حارة ضيقة تمر بها السيارات بالكاد، والبشر «بالجنب». ولذلك ظهر جامع كبير مثل «الرشد» كنغمة نشاز وسط الشارع المجاور ل«جمال الدين خلوصى»، بالإضافة إلى محال «الكوافير» البسيطة ذات الأبواب الضيقة، التى لا تعدو هى الأخرى أن تكون غرفة بسيطة من غرف مراكز التجميل التى تقع فى شارع الشيخ المراغى المجاور للمنطقة، وبالطبع كل له زبائنه، فبجوار شارع المراغى يوجد نادى العجوزة الذى يرتاده أصحاب المستويات الراقية للمترددين عليه. ومن خلف مبنيى وزارة الخارجية وماسبيرو المطلين على كورنيش النيل تبدأ منطقة بولاق أبو العلا، التى عرفت بكثرة المنازل المنهارة بها، فلا أحد ينسى العقار رقم 5 حارة فولى الصباغ الذى انهار فوق رؤوس سكانه فجراً، تلاه انهيار منزل آخر بنفس الحارة، تلك المنطقة التى صدر لمعظم منازلها قرارات إزالة لم تنفذ إلا للبيوت التى انهارت بالفعل فوق سكانها. وبالرغم من أن هويات بعض السكان الشخصية تشير إلى سكنهم فى «كورنيش النيل»، فإنهم لا يعرفون عن الكورنيش سوى أنه الوسيلة الوحيدة للترفيه لديهم، بعد أن يمروا من خلال حواريهم الضيقة غير الممهدة والتى لا تتسع لمرور أى سيارة. مسافة بسيطة تفصل بين بولاق وماسبيرو وبين دار الكتب المصرية المطلة أيضا على الكورنيش وبين سوق وكالة البلح التى تتردد عليها الفئات البسيطة من الناس الذين يسعون لشراء ملابسهم وجهاز بناتهم «بنصف الثمن»، والتى لا يبعد عنها كثيرا «أركاديا مول» على الكورنيش مباشرة، وهو يعتبر سوقاً تجارية أيضا، ولكن لزبائن يسعون للتميز بشراء كل ما هو غالٍ.