وقفت بضع دقائق تنظر إلى جدران البيت المتهالكة، مشهد يتكرر كثيرا، تأتى هى مرارا إلى البيت رغم اعتراض الجميع، وبالأخص امها: "بالله عليك، ما الذى يدفع إليك بذكرى تلك الأيام السوداء، أيام الفقر والحاجة!!. انتِ دائما هكذا تزهدين الترف وتتعطشين إلى "وجع القلب" ولكنها يوما ما استمعت إلى حديث أمها، وما انساقت إلى غضبها، وما وعى عقلها الصغير سببه.. وما كفّت يوما عن الذهاب إلى بيتهم القديم. كل ما فى البيت له عندها من الذكرى ما يصعب عليها نسيانه تغمض عينيها.. تتذكر الماضى، السُلم -أو ما بقى منه- أول أصدقائها وأوفاهم فى نظرها، فما ملّ يوما من اللعب معها تخرج من منزلها، فتراه، وتلقى عليه التحية بابتسامة، وتقفز هابطة إياه. ولسانها يتحرك بالعدّ "واجد، إثنان، ثلاثة .... ثم درجة مكسورة" "أربعة، خمسة، ستة، سبعة.... وأخرى مهشمة" لكم أحبت أحبت تلك اللعبة، لعبة اخترعها عقلها الصغير. تفتح عينيها فيتلقى بصرها بالسقف الخشبى.... تضحك ملئ شدقيّها وكأنها ما تراه يسقط غبارا على كتف أخيها، فيزيحه فى غضب ما يلبث أن يزول حين يرى ضحكتها الصافية "كدة برضه يا امل؟؟ كل يوم تضحكى عليّه كدة؟؟!!".
تختلط ابتسامتها بدمعة حين تتذكر كلمات ضياء، كم اشتاقت إليه ... مازالت تتذكر يوم أن قال: "سأعود يا أمل... سأعود بحلواكِ المفضلة.. الكثير منها" وظلّت تنتظر وتنتظر وتنتظر قالوا انه سافر إلى بلد بعيدة ليعمل هناك. ما اسمها تلك البلدة؟؟ أغمضت عينها تحاول أن تتذكر لا إنها لا تتذكر ذهب ضياء ولم يعود.............. بعد دائما هى تضيف كلمة "بعد"، لم يعد بعد "ولكنه سيعود"، وفتحت عينيها الضيقتين تتذكر تلك الكلمة التى تصحو عليها وتنام، وصرخت بصوت مكتوم: "لا أريد حلوى ... عُد يا ضياء" وجلست تفكر بعقلها الصغير مغمضة العينين "لماذا لا يعود ضياء ومعه الحلوى؟؟؟" "يارب مش لازم يشترى كتير.. كفاية واحدة ولا اتنين ويرجع بقى" تقول أمها أن لولا سفره لما استطعنا أن نقيم فى منزلنا الجديد فترد فى عند طفولى "و من قال إنى أردت منزلا جديدا؟؟". تفتح عينيها على يد أمها، تقبض على كفها، تؤنبها على المجئ إنها دائما تفعل هذا، تقبض على كفها. وتمشى فى شبه غضب... أو ملل وتنظر أمل إلى الخلف فى حزن، وتسأل سؤالا لا تَملّه "متى يعود ضياء يا أمى؟؟" تسأل وكأنها تتوقع إجابة، فأمها دائما تمضى دون ان تجيب، وكأنها لا تسمع . تتقدم امل وأمها ممسكة بيدها، تتقدم وهى مازالت تنظر خلفها.. إلى أطلال البيت القديم.. إلى ذكرياتها تتقدم وما يزال رأسها الصغير مُلتفت إلى الوراء تنظر بعين يائسة إلى الديار. تتوسل إليها أن تختطفها من كفّ أمها القابض عليها، وترجوها فى استعطاف. تستحلفها بذكرى ضياء... وتسألها: "هل يعود؟؟؟؟" والدار.. تبتعد.
رولا عادل التعليق قصة جميلة عن العالم التي تجيد رولا التعامل معه؛ عالم الطفولة النقية قبل أن تلتوي تحت صغوط الحياة التي يخضع لها الكبار. أسلوب رقيق ودقيق وعميق يمكن أن يحمل أبعادا رمزية والأخطاء اللغوية قليلة. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة