- السلام عليكم هذا كل ما قاله نادر بعد عودته للمنزل على الرغم مما في عيون والديه من نظرات الترقّب والفضول للتعرف على نتيجة المقابلة.
وبما أن المثل المصري يقول "إن لم يشتكِ المريض؛ فحالته تدل عليه"؛ فقد قرأ الوالدان في وجه ابنهما حسرة تدل على أن صحبته للبطالة ما زالت قائمة.. وتعامل كل منهما مع الموقف بشكل مختلف؛ الأم أسرعت إلى المطبخ وهي تهتف بصوت فشلت أن تمحو منه نبرة الحسرة والألم: - هيا يا أميرة أنت ولبنى ساعداني في تجهيز الطعام. أما الأب فتجهّم وجهه، وحاول التظاهر بالانشغال في تصفّح الجريدة التي كان يحملها ولده، وراح عقله يسترجع صورة نادر وهو يُبلغه بنجاحه في السنة النهائية من تعليمه الجامعي.. وقتها لم تسعه الدنيا من الفرحة، وتخيّل أن الحياة قد ابتسمت أخيراً، وباتت الظروف مواتية للخروج من الساقية الدوارة التي يعتقد أن الظروف أجبرته على الدوران فيها لسنوات طويلة..فابنه الأكبر سوف يعمل ويتحمل مسئولية نفسه، وربما ساهم في بعض مصاريف المنزل ورفع عن كاهله بعض أعبائه. والأهم من هذا أن الرجل سيرى بعينيه نتيجة اجتهاده، ويحقق الحلم الذي راوده منذ ولادة نادر.. بأن يراه ناجحاً في عمله وحياته الخاصة.
وبعد شهور على التخرج، راحت السكرة وأتت الفكرة؛ فالظروف تزداد صعوبة.. وفرص العمل شحيحة؛ فتقلصت أحلام الرجل لولده، من ترقّب نجاحه الباهر إلى الأمل في أن يعتمد على نفسه فقط؛ لكن حتى هذه الآمال تآكلت تحت ثقل أيام البطالة الكئيبة، وأصبحت أقصى أمانيه أن يجد الفتى عملاً -أي عمل- ينشغل فيه بدلاً من جلوسه الطويل في المنزل الذي ينتج عنه -في كثير من الأحيان- مشاجرات كلامية بينه وبين أختيه يعقبها حالة صمت طويلة يشترك فيها الجميع.. يقضيها الابن في منفاه الاختياري نائماً في سريره ملقياً بالغطاء على وجهه.. أو منكبّاً على أوراقه يمارس هوايته القديمة في الرسم.
أفاق عم صلاح على صوت زوجته وهي تقول: - الطعام معدّ. فقام ليطوي الجريدة ويضعها جانباً؟ إلا أن عينيه وقعت على إعلان بارز بعنوان "فرصة العمر"؛ فأخذ يمر بنظره على سطوره الأولى وسرعان ما اندمج في قراءته، وعاد للجلوس من جديد؛ فعاودت أم نادر هتافها بعد أن اجتمع كل أفراد الأسرة على المائدة قائلة: - الطعام.. الطعام معدّ يا أبا نادر.. ثم أضافت في تساؤل: ما الشيء الذي أخذ عقلك في الجريدة؟ اتجه رب الأسرة إلى المائدة وهو يردّ في صوت ساخر مرح: - اسمعي يا سيدتي.. إحدى الشركات تقدم فرصة العمر للموهوبين، وتعلن عن مسابقة لتصميم شعار لها، والفائز يحصل على عشرة آلاف جنيه.. تصوري!! ثم جلس الأب ومد يده إلى الطعام؛ فقال نادر الذي بدا من صوته أنه لم يخرج بعد من إحباط مقابلة العمل: - هل هناك بالفعل أحد على استعداد لدفع هذا المبلغ لأصحاب المواهب؟! كاد الأمر ينتهي عند هذا التعليق؛ لولا أن الابنة الصغرى لبنى صاحبة العشر سنوات قالت: - عشرة آلاف جنيه كاملة.. هذا المبلغ ماذا يمكن أن أصنع به؟ نطقت الطفلة عبارتها في شغف طفولي.. كثيراً ما نحرم أنفسنا منه مع تقدّمنا في السن؛ على الرغم من أنه حافز قوي للأفكار العظيمة؛ فشغف الطفولة لا يخضع للحسابات ولا يعرف العقبات.. لهذا كان تأثير عبارة الطفلة الصغيرة عظيماً. لقد أشعلت جذوة الخيال برؤوس أفراد العائلة.. فسكت الجميع وساد الصمت المكان؟!
* * * أخفى الصمت -المؤقت- عشرات الأفكار والخواطر التي هاجت وماجت في العقول.. ولكن أميرة -ابنة السبعة عشر عاماً- كانت أكثرهم جرأة في الإعلان عما بداخلها؛ على الرغم من أن الجرأة لم تكن من صفات العذارى إلى وقت قريب، عندما قالت: - هذا المبلغ أستطيع أن أشتري به هاتفاً خلوياً ذا كاميرا أمامية وأخرى خلفية، بالإضافة إلى زجاجة عطر شهير، وربما معطف شتوي من الفراء. وصمتت لحظة ثم استطردت مسرعة: - وبالتأكيد حذاء ذو رقبة عالية. كان هذا التصريح من الفتاة كافياً لتنفلت الأحلام من عقالها، وتخرج إلى الضوء؛ فقالت الأم في حسرة: - أو نطلي الشقة كلها بطلاء فاخر؛ فقد مرّ على آخر طلاء ثماني سنوات. صمتت لحظة ثم أضافت في جذل طفولي لا يتناسب مع سنها أو لهجتها السابقة: - وربما نجحنا في استبدال الصالون المتهالك بآخر حديث وأنيق. دخل الأب أيضاً على خط الأمنيات، وقال: - كنت ذهبت للعمرة يا أم نادر واصطحبتك معي. أما الطفلة فقد فجّرت بالونات الأحلام بتساؤلها حيث قالت: - إن هذا المال يمكّنني من الذهاب يومياً إلى الملاهي، وتناول الغداء في محلات الوجبات السريعة في وسط المدينة، وامتلاك لعبة الطائرة ذات المحرك وجهاز التحكم عن بعد. يا للغرابة.. حتى أحلام الأطفال تتغير بمرور السنين، كانت البنات في سن الطفولة فيما مضى يفضّلون الدمية ذات الضفائر.
ولأن كل عاشق يبحث عن ليلاه؛ فقد انشغل نادر بالتفكير في الإجابة عن نفس السؤال.. من الممكن أن أحقق لكل فرد من العائلة ولو جزءاً بسيطاً من أحلامه الصغيرة.. ومن الجائز أن أدعو أصحابي المقربين إلى الغداء في مطعم الأسماك الشهير فأكون أول من ينفذ الوعد الذي قطعوه على أنفسهم بأن يلتزم كل من يدخل جيبه منهم أول مبلغ محترم بدعوة باقي المجموعة لتناول الطعام في هذا المطعم..
وحتى الآن لم يوفِ أحدهم بوعده..! وبالتأكيد سأرتدي حُلة كاملة ورباط عنق أنيق كما كنت أتمنى منذ صغري. والأهم من كل هذا أن فوزي بالجائزة يثبت للجميع أني لست فاشلاً؛ بل قادر على النجاح وإثبات وجودي في الحياة.
ولأن كل فكرة عظيمة تبدأ بخاطرة؛ فقد راح عقل نادر يدور بقوة في اتجاه الاشتراك في هذه المسابقة؛ فالأفكار تصنع الأفعال كما أخبرنا "فرانك أوتلو" حين قال: راقب أفكارك لأنها ستصبح أفعالاً.
الآن بات الفتى على وشك أن يتخذ قرار الاشتراك.. لكن مهلاً.. فالأفكار السلبية سارعت لتقاوم هذه الخاطرة الايجابية، وانتصرت..
وسرعان ما غادر المائدة وتناول الجريدة هارباً من فكرة الاشتراك في المسابقة -لعله يجد بها ما يأخذه بعيداً عن هذا الأمر- وبالفعل وقعت عيناه على مقال بعنوان "واجه المثبّطين"، وبعد ثوانٍ كان مستغرقاً في القراءة ونسي تماماً المسابقة وأحلامها.. مؤقتاً!.
* * * في مساء نفس اليوم التقى نادر مع أصحابه على المقهى كعادتهم الأسبوعية وحضر من مجموعة الأصدقاء في تلك الليلة ثلاثة منهم، وراحوا يتحدّثون في أمور شتى، من الرياضة إلى الفن ثم السياسة، كان الاختلاف واضحاً بينهم؛ فهادي ينتقد كل شيء في البلد، ويوافقه سمير، أما أشرف فكان يدعو دائماً إلى التمسّك بالأمل.
وقبل أن يصل الكلام فيما بينهم إلى مرحلة التصادم، حاول نادر تلطيف جوّ المناقشة الملتهب؛ فروى لهم قصة الإعلان والجائزة، وبعدما سرد الحكاية أضاف مازحاً: - أنا أفكر في التقدم للمسابقة، خصوصاً وأنتم تعرفون موهبتي الفنية العالية..! لم ينطق نادر بعبارته الأخيرة إلا على سبيل الدعابة، ولم يقصد الجدية أبداً.. لكنه فؤجئ بها تشعل وطيس المعركة الكلامية من جديد بين الفريقين المتباريين فقال سمير: - إنها بالتأكيد مجرد تمثيلية والفائز بها معروف منذ عدة سنوات. وقال هادي: - إنها تشبه مسابقات الهواتف الخلوية، تغريك في البداية، ثم تستفزك. ثم أضاف وقد شعر أنها فرصة للانتقام من أشرف: - وما رأيك أنت يا أستاذ أشرف؟ ردّ أشرف بهدوء: أرى أن يتصل نادر برقم الهاتف الموجود بالإعلان ويستفسر عن تفاصيل أكثر؛ فإذا تأكد من مصداقيتهم يتقدم للاشتراك. وما إن أتمّ كلامه حتى أطلق هادي ضحكة ساخرة وضرب كفاً بالأخرى وهو يقول في جذل مصطنع: - هل هذا هو الأمل الذي تحدّثنا عنه؟ إنه مجرد وهم، أتريده أن يتجرّع مرارة الخسارة والندم؟ رد أشرف بنفس الهدوء: - إن نادر يهوى الرسم والتصميم منذ زمن, نحن نعرف جيداً مدى مهارته؛ فماذا سيخسر لو ابتكر الشعار المطلوب. لم يشارك نادر بالمناقشة؛ فقد كان يحلل ما يسمعه، وبدأت الفكرة -التي بدأت بمزحة- تتبلور في ذهنه. حقاً.. لماذا لا يحاول؛ فهو لو خسر لن يخسر كثيراً. فالوقت موجود.. والأوراق والأقلام متوفرة..
ولكن جاء صوت هادي ليقطع حبل أفكاره فانتبه إليه وسمعه يقول: - نادر صديقنا ونحن نحبه؛ لذلك لا بد من توعيته حتى لا يصطدم بالحقيقة.. فرسوماته بالفعل معقولة.. لكنها بالتأكيد ليست في براعة الرسّامين والمصممين أصحاب الخبرة من خريجي الفنون الجميلة، وإذا كنا كثيراً ما نطري عليه بالثناء المبالغ فيه؛ فهذا فقط لأننا أصدقاؤه. فضّت المناقشة عند هذا الحد، وتبادل الأصدقاء بعض الكلمات الخاصة بالتواعد على لقاء الأسبوع القادم، ثم انصرفوا.
وراح نادر يُفكّر فيما قيل، وأول ما جال بخاطره فقرة من مقال "واجه المثبطين" الذي قرأه بالمنزل قبل ذهابه للقاء أصحابه، يحذر فيه الكاتب من التأثير السلبي لبعض الزملاء عندما يقفون -عن قصد أو بدون- حجر عثرة في طريقنا نحو النجاح بحجة خوفهم علينا من الفشل، واستشهد المقال بعبارة للدكتور "غازي القصيبي" يقول فيها: أصدقاؤك قد يتعايشون مع فشلك، أما نجاحك فهم ما لا يستطيعون التعايش معه".
ثم توقّف الفتى طويلاً عند جملة هادي الأخيرة "إننا كنا نبالغ في إطراء أعماله؛ لأننا فقط أصدقاؤه". إن الاستماع لعبارات اللوم والتثبيط المتكررة تشبه تناول جرعة بسيطة من السم يومياً.. لا تشعر بضررها على الفور؛ لكنها ستقتلك في النهاية لا محالة كما يقول أنتوني روبنز.
أصبح نادر في حيرة من أمره، وتصارعت الأفكار المتناقضة مرة أخرى إلى أن قال لنفسه: - لقد قررت.. الأخذ بنصيحة كاتب المقال الذي قرأته في الجريدة؛ فأفضل طريقة لمواجهة الإحباط ودعاته هي: وضع الأمر موضع التحدي.
رائع.. رائع أيها الشاب؛ فهكذا يكون التحرك نحو العلى؛ فإنجاز ما يدعي الآخرون أنك لا تستطيع إنجازه لهو متعة عظيمة من متع الحياة.
إن الأحلام يجب أن تكون أقوى من تثبيط المثبطين. يجب أن تفوز. ولكن الطريق إلى تحويل الأحلام إلى حقائق ليس سهلاً على الإطلاق. وهذا ما عرفه نادر في الأيام التالية؟!!