"الإحصاءات السكانية للمسلمين" أو "Muslim Demographics" سيطالعك هذا العنوان في الكثير من المواقع والمنتديات، ومع العنوان ستجد فيديو من الموقع الشهير "يوتيوب".. الفيديو باللغة الإنجليزية، وصانعه يتكلم بلغة رزينة، بالأرقام والإحصائيات بشكل يغري بتصديق كل ما فيه، ولقد تعوّد العقل البشري عامة أن يحترم المعلومات التي ترده في صورة إحصاءات، فهي تعطيه إيحاءً بالجدية والمصداقية.. فما الموجود في هذه الإحصاءات؟! يبدأ الفيلم بعرض إحصائيات عن الدول الغربية، فيتكلم عن معدل الخصوبة الواجب حدوثه كي تستمر الأمم في التواجد، ثم يعرض معدلات الخصوبة في بعض الدول الغربية، موضحاً كيف أن هذه المعدلات المنخفضة ستؤدي إلى انقراض هذه الأمم. وعلى الفور ينقلب الفيديو المُنفّذ بعناية، فحتى الموسيقى الغربية الرتيبة الرسمية، ستنقلب لموسيقى ذات رِتم عربي، وستظهر جملة تحذيرية.. أوروبا التي نعرفها ستختفي من الوجود.. لماذا؟! والإجابة كانت الهجرة الإسلامية، حيث يستمر الفيديو في نصفه الثاني في تعديد زيادة تعداد المسلمين وتفوّقهم على تعداد المواطنين في أوروبا بل وأمريكا كذلك، وكيف أن أوروبا بهذا الشكل ستختفي.. ثم تبدأ مجموعة من الجمل التحذيرية، تحذّر من أنه في ظرف 5 - 7 سنوات سيكون الإسلام هو الدين الحاكم للغرب.. لينتهي الفيديو بجملة تحريضية صرفة.. THIS IS A CALL TO ACTION، أو "هذا نداء للتحرك". ليست بشارة.. بل هو تحذير ردود الفعل حول الفيديو هي ما يستحق إلقاء الضوء عليه، فالشباب العربي عبر المنتديات والمواقع احتفوا به أشد الاحتفاء، بل وأبرزوه بشكل يؤكد على عدة معانٍ مفادها أن النصر والسيادة التي يستحقها المسلمون أخيراً بانت في الأفق. بل لقد تبرّع بعض الشباب بوضع ترجمة عربية على الفيديو، ولم يكتفوا بالترجمة العادية، بل زوّدوها بوسائل إيضاح عند بعض الجُمل، لتحتفي مثلاً بأن (الإسلام هو الأسرع انتشاراً بين الأمم)، بل تحتفي بأن الإسلام سيغزو هكذا (بغير سيوف وبغير بنادق، وبغير حروب).. والغريب أن من ترجم الفيديو اكتفى بترجمة ما اعتبره بشارة للمسلمين بالسيادة، وجاء عند الجزء الذي يحذّر به صانعو الفيديو أوروبا من الإسلام، ولم يترجمه بل اكتفى بأن يؤكد أن هناك تحذيراً هنا وكفى.. وصدر الفيديو بعنوان مثير "أوروبا ستصبح ولاية إسلامية قريباً بالدليل". لقد تجولت في أكبر عدد ممكن من المواقع العربية والمنتديات، بل بعض المواقع الجادة التي تناولت الفيديو بالتحليل، وبكل أسف لم أجد سوى صيغة التهليل والفرحة بالبشارة، ولسان حال كافة المسلمين الذين تكلموا هو "وشهد شاهد من أهلها". لا وقت للعمل.. دعونا نحتفل والحقيقة أن قليلاً من التدقيق سيوضح لنا كارثتين حملهما لنا هذا الفيديو: الأولى هي مدى الارتياح والاستكانة التي بثها بين جموع شباب المسلمين، فها هو "السلاح الديموغرافي" –كما يطلق على الزيادة السكانية المؤدية لسيطرة عرق معين على الأعراق الأخرى في مكان ما- يجد لنا كافة الحلول، فلا حاجة لنا الآن لأن نُعدّ لهم ما استطعنا من قوة في كافة المجالات، فلا حاجة لأن نتقدم تكنولوجياً أو سياسياً أو عسكرياً.. لا حاجة لنا بأن نقف موقفاً حاسماً داخل بلادنا لنرسي بها قواعد الديمقراطية، كي نؤسّس لمستقبل حقيقي نستطيع أن نكون به قوة فاعلة في العالم.. لا حاجة لنا لأي تحرك، فها هي الزيادة السكانية في أعداد المهاجرين لأوروبا ستفعل عنا كل شيء، وستحوّل أوروبا وأمريكا أيضاً إلى ولاية إسلامية.. لقد قدّم الفيديو للمسلمين -الشباب على وجه الخصوص- الحلّ الذهبي للتواكل، والاعتماد على حل لا يتطلب مجهوداً، فلم يعد لدينا ما نفعله سوى أن نجلس ونراقب مهاجري أوروبا وهم يتكاثرون؛ لكي يزداد الإسلام قوة. هم يحرّضون ضدنا ونحن نهلّل! الثانية هي أن الفيديو يحمل نبرة تحريض واضحة وضوح الشمس، هذا الفيديو وُضِع لإثارة القلق، بل وربما الغضب والعنف ضد المهاجرين المسلمين في الدول الغربية.. وُضِع كي يشعر كل غربي يطالعه بالضيق من جاره المسلم الذي أتى ليغيّر وطنه بل ويحتله.. وهو اتجاه ليس بغريب، بل إن هناك الكثير من الصحفيين والناشطين الأجانب اتخذوا من هذه الدعوى هدفاً خاصاً لهم، كدانييل بايبس –المؤلف والصحفي الأمريكي- الذي انطلق محذراً في كافة مقالاته من الزيادة الإسلامية بالغرب، بل إن البعض يشير –بشكل لم يتم تأكيده- إلى أن المعلومات الواردة في الفيديو قد أُخِذت عن بعض مقالاته ومقالات كتّاب آخرين نُشِرت عن "مركز السياسات اليهودية". والحقيقة أن الفيديو لم ينكر للحظة أنه تحذير مباشر للغرب من الإسلام والمسلمين في الغرب، وقدم التحذير في عبارات واضحة تماماً.. ورغم كل هذا، نهلل لكل ما ورد في الفيديو، ولا نأخذ ولو دقائق قليلة نتميز فيها بصفة الشك، لنَشك بالأرقام والإحصائيات الواردة به.. راديو الBBC يخصص حلقة للفيديو بكل أسف غيرنا هو من قرر أن يتميز بفضيلة الشك، ويبحث عن صحة الأرقام الواردة في الفيديو، فقد أقدم راديو الBBC على تقديم حلقة تحت عنوان: "Muslim Demographics: The Truth" أو "حقيقة الإحصاءات السكانية للمسلمين". في هذه الحلقة تم إيضاح المغالطات الكبيرة في الأرقام التي أوردها الفيديو الأول، بل تم إجراء مقابلات مع بعض المسئولين عن مراكز الإحصاء في بعض الدول الأوروبية؛ ليتم التأكد من الأرقام الصحيحة.. ليتضح أن كافة ما ورد من إحصاءات في الفيديو الأول عارٍ تماماً من الصحة.. فعلى سبيل المثال في فرنسا اكتشفوا أن معدل نمو المسلمين ليس 8.1 كما روّج الفيديو، بل إن الجاليتين (الجزائرية والمغربية) -أعلى جاليتين إسلاميتين في فرنسا- معدل نموهم 2.38 فقط. وفي بلجيكا نسبة المسلمين ليست 25% من السكان، بل طبقاً لإحصاءات 2008 فهي 6% فقط. أما ألمانيا فقد نفت تماماً معدلاتُ مواليد المسلمين بها فكرة أن تتحول ألمانيا إلى دولة إسلامية بحلول عام 2050. والأهم أن تقرير الBBC نفى ما ذكره الفيديو عن صرخة الفاتيكان بأن الدين الإسلامي هو الأكثر انتشاراً في أوروبا؛ فطبقاً لكتاب الفاتيكان السنوي لعام 2008 نجد أن معدّل نمو المسلمين حول العالم 19.2%، في حين معدل نمو المسيحيين حول العالم 33%. وفي النهاية اختتم التقرير بأنه لا أحد يمكن أن يعرف كم عدد المسلمين الذين سيتواجدون في أوروبا عام 2050، حيث تخضع هذه الإحصاءات إلى عوامل كثيرة متغيرة، تختلف من عام إلى آخر.. الكثير من السم.. القليل من العسل إذن الفيديو مجرد محاولة فردية أو منظمة؛ لإثارة مزيد من الذعر من المسلمين، ولتكريس حالة الإسلاموفوبيا التي يعاني منها الغرب حالياً. هذا منطقي ومفهوم في ظل ما يعتبره بعض رجال السياسة والإعلام في الغرب حالة صراع حضارات، ولكن أن نحتفي نحن ونروّج لمثل هذه المحاولات فبكل أسف هذا يثبت أننا ما زلنا نتعامل تبعاً لثقافة القطيع، فيكفي أن يصرخ أحدهم -بحسن أو سوء نية- هذا طريق النصر للإسلام، حتى يهتف الجميع خلفه، ويسيروا وراءه حتى لو كان اتجاه هذه المسيرة هاوية عميقة لا قرار لها. السم في العسل هو مصطلح مناسب تماماً، لتعامل بعض مؤسسات الغرب معنا، والكارثة أننا أوشكنا على حالة تسمم بيِّنة من كثرة ما أكلنا من عسل الغرب. لمشاهدة الفيديو الأصلي