عند الإصغاء إلى اليمين المتطرف الأوروبي، يسهل الاستنتاج أن القارة على وشك خوض صراع مرير ثان مع خصم تعود العداوة معه إلى قرون. يقول غيرت ويلدرز، رئيس حزب الحرية الهولندي، الذى يدعى أن العقيدة الإسلامية تشجع الإرهاب: «أول غزو إسلامى لأوروبا تم التصدى له فى [معركة] بواتييه عام 732. والغزو الثانى توقف عند أسوار فيينا عام 1683. علينا الآن أن نوقف الغزو الخفى الحالي». إنه كلام تحريضي. لكن جدال ويلدرز يرتكز على حجة يشاركه فيها الكثير من المفكرين اليمينيين التقليديين عند كلا طرفى المحيط الأطلسي. أوروبا، التى قوضت عزمها العلمانية والتساهل فى كل المسائل، سمحت طوال عقود بهجرة جماعية من دون قيود جدية. والحكومات، الأضعف من أن تدافع عن قيمها، أظهرت استعدادا لإسترضاء الرأى العام الإسلامى وعليها أن تتوقع الأسوأ. وجهة النظر هذه تزداد انتشارا منذ بعض الوقت تغذيها التوقعات التهويلية والافتراضية إلى حد كبير التى يطلقها كتّاب مثل مارك ستاين الكندي، مؤلف كتاب America Alone (أمريكا بمفردها) الذى لقى نجاحا كبيرا ومفادها أن الهجرة ومعدلات المواليد المرتفعة قد تعنى أن المسلمين سيشكلون 40 بالمائة من سكان أوروبا بحلول عام 2025. لقد صدرت تحذيرات مماثلة وعلنية من الدبلوماسى الأمريكى تيموثى سافادج الذى ادعى أن التوقعات بأن المسلمين سيصبحون الأكثرية فى أوروبا الغربية بحلول منتصف القرن «قد لا تكون مستبعدة» إن استمرت النزعات الحالية، مما سيزيد من احتمالات حصول نزاعات. وكتب المؤرخ البريطانى نيل فيرغسون أن «مجتمعا إسلاميا شابا فى جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط على وشك استعمار والتعبير ليس مبالغا فيه أوروبا المتقدمة فى السن». ويتوقع الصحافى الأمريكى كريستوفر كولدويل أن يكون المجتمع الإسلامى «الراسخ» و»الواثق» مستعدا لفرض رغبته على ثقافة أوروبية «غير واثقة» و»نسبية». المعلقون الأكثر تشاؤما، بمن فيهم ستاين والكاتب الأمريكى المحافظ تونى بلانكلي، يتكلمون عن نشوء «أوروبا عربية» معادية للمصالح الأمريكية وخاضعة للإسلام. هذه التحذيرات تتناغم مع المخاوف الشعبية من أن أوروبا أصبحت حاضنة للإرهاب العالمي. فمنفذو هجمات 11 سبتمبر خططوا لها فى ألمانيا، والإرهابيون المحليون كانوا متورطين فى الهجمات على مدريد ولندن. وتزداد المخاوف من أن أعداد المهاجرين المتزايدة والمقاومة للانصهار أو الاندماج ستسرق الوظائف وتضع ضغوطا على الخدمات العامة. ففى العام الماضي، تبين أن نحو نصف المشاركين فى استطلاع للرأى أجرته شركة «بيو» فى إسبانياوألمانيا ينظرون إلى المسلمين نظرة سلبية. فى إسبانيا، كانت هذه النسبة قد ارتفعت 15 بالمائة منذ عام 2004 لتصل إلى 52 بالمائة. وفى انتخابات البرلمان الأوروبى التى جرت فى شهر يونيو، فاز حزب ويلدرز ب17 بالمائة من الأصوات فى هولندا. كما أن الحزب الوطنى البريطانى المناهض للهجرة الذى حذر من «الأسلمة المطردة» للمجتمع البريطانى فاز بأول مقعدين له. وفى النمسا، فاز حزب الحرية اليمينى ب13 بالمائة من الأصوات، وهى توازى نحو ضعفى النسبة المعتادة. وقد تنبهت الحكومات الأوروبية اليمينية المعتدلة بمعظمها إلى المزاج العام، وبدأت بفرض قيود صارمة على الهجرة من البلدان الإسلامية وأماكن أخرى، وعززت رسالتها القائلة إن تركيا المسلمة غير مرحب بها فى الاتحاد الأوروبي. وإيطاليا بصدد إقرار قانون يفرض سجن مالكى العقارات الذين يؤجرون ممتلكاتهم لمهاجرين لا يملكون وثائق قانونية. الشهر الماضي، أعلن الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى أن النقاب هو «علامة خضوع» و»غير مرحب به على أراضى الجمهورية الفرنسية». لكن كل هذا يحجب واقعا بسيطا: فالكلام عن نشوء أوروبا عربية يستند إلى أدلة محدودة ومشكوك فى صحتها. فهناك دراسة لمجلس الاستخبارات الوطنى الأمريكي، أجريت عام 2004 وغالبا ما تتم الإشارة إليها، تحدد عددا من الاحتمالات الممكنة. الاحتمال الأكثر تطرفا هو أن عدد المسلمين فى أوروبا قد يزداد من نحو 20 مليونا اليوم أى 5 بالمائة من عدد السكان تقريبا إلى 38 مليونا بحلول عام 2025. لكن تبين أن هذه التوقعات ترتكز إلى «تقارير دبلوماسية وإعلامية فضلا عن مصادر حكومية وأكاديمية وغيرها». بعبارات أخرى، إنها مسألة تكهنات مبنية على تكهنات وحتى إن تبين أنها دقيقة، فهذا سيعنى أن عدد المسلمين سيشكل 8 بالمائة فقط من سكان أوروبا، الذين يقدر الاتحاد الأوروبى أن عددهم سيصل إلى 470 مليونا عام 2025. وفى الواقع، إن حصلت زيادة كبيرة فى أعداد المسلمين فى المستقبل، فإن حدتها تبدو مبالغا فيها. تقول جيتى كلاوسن، وهى خبيرة فى الشؤون الإسلامية أوروبا فى جامعة براندايس بمدينة بوسطن: «ثمة تضخيم متعمد، كما أشير مرارا، لكن الناس لايزالون يستشهدون بهذه الأرقام». التوصل إلى تقدير معقول للنسبة المئوية من المسلمين الذين يعيشون فى أوروبا الآن، ناهيك عن إطلاق توقعات مستقبلية، هى مهمة تكاد تكون مستحيلة. فعدد المهاجرين غير الشرعيين مجهول، ونظرا إلى حساسية المسألة، لا يقوم الكثير من البلدان، بما فيها فرنساوألمانيا، بجمع بيانات إحصائية عن ديانة المقيمين الشرعيين. صحيح أنه من المقدر للأقلية المسلمة أن تنمو بشكل مطرد فى أوروبا، لاسيما أن مهاجرى اليوم من الشبان بمعظمهم. فمعدلات الخصوبة لدى المهاجرين المسلمين لاتزال أعلى منها لدى غيرهم من الأوروبيين، وقد يستمر المسلمون بالتوافد إلى أوروبا بأعداد كبيرة. لكن المهوّلين يفترضون أن الأنماط السابقة ستستمر بالتأكيد. تقول غريس ديفي، وهى خبيرة فى الشؤون الأوروبية والإسلامية فى جامعة إكسيتير فى بريطانيا: «أسوأ النظريات المثيرة للهلع مبنية على الافتراض بأن السلوك الحالى سيستمر». لكى يفوق عدد المسلمين عدد غير المسلمين بحلول منتصف القرن، سيتطلب ذلك تناسلا على نطاق نادر تاريخيا أو استمرار الهجرة بوتيرة لم تعد مقبولة سياسيا الآن. الأمر الأكثر ترجيحا هو أن الضوابط الجديدة ستحد من وتيرة هجرة المسلمين. ومن المرجح أيضا أن تستمر نسبة المواليد بين المهاجرين المسلمين بالانخفاض، مثلما حدث فى السابق، مع ازدياد الرخاء وتحسن العناية الصحية. ما من إحصاءات متوافرة تشمل أوروبا بأسرها، لكن إحدى الدراسات تشير إلى أن معدلات الخصوبة لدى النساء من أصل تركى فى هولندا انخفضت من 3.2 عام 1990 إلى 1.9 عام 2005، وهى بالكاد أعلى من معدل الخصوبة لدى الهولنديات الأصليات. وخلال الفترة نفسها، انخفض معدل المواليد لدى النساء من أصل مغربى فى هولندا من 4.9 إلى 2.9. كما أن معدلات الخصوبة ترتفع قليلا فى بعض بلدان أوروبا الشمالية، مما يشكل توازنا مع أعداد المسلمين المتنامية. الخلاصة هى أنه نظرا إلى المتغيرات الكثيرة، لا يحبذ علماء الديموغرافيا إطلاق توقعات بشأن عدد المسلمين فى أوروبا فى السنوات المقبلة. يقول كارل هوب، كبير علماء الديموغرافيا فى مكتب المراجع السكانية بواشنطن: «سيتعين عليك أن تختلق هذه التوقعات». وفيما يتعلق بفكرة تحول المسلمين إلى أكثرية فى القريب العاجل، يقول إن الأمر «سخيف تماما». فضلا عن ذلك، فإن أسطورة نشوء أوروبا إسلامية تعنى وجود إسلام متحد، أى تكتل قادر على القيام بأعمال جماعية وربما خطرة. وفى الحقيقة، ما من حركات سياسية إسلامية نافذة فى أوروبا، سواء كان ذلك على نطاق القارة أو على النطاق الوطني، والخلافات التى تفرق بين المسلمين فى العالم، لاسيما بين السنة والشيعة، ظاهرة فى أوروبا أيضا. كل البلدان الكبرى فى أوروبا اجتذبت مهاجرين مسلمين من مناطق مختلفة فى العالم الإسلامي، وفى أغلب الأحيان من مستعمرات سابقة ذات تقاليد وتطلعات مختلفة. وسيواجه مسلم بريطانى من باكستان صعوبة فى التواصل مع مسلم فرنسى من الجزائر. ولن يكون لمسلم من أصل تركى من الجيل الثانى يعيش فى ألمانيا الكثير من القواسم المشتركة مع مغربى وصل حديثا إلى بلجيكا المجاورة. الفروقات الحادة موجودة أيضا داخل الحدود الوطنية. ففى ألمانيا، أكثر من واحد من بين كل 10 مسلمين ينتمون إلى الطائفة العلوية، التى لا يعترف بها المسلمون المنتمون إلى الطوائف الأكثر تقليدية. تختلف الأخلاقيات والمواقف أيضا بين مجموعة وأخرى. وقد أظهر استطلاع للرأى أجرته شركة «غالوب» حديثا أن أكثر من 30 بالمائة من المسلمين الفرنسيين مستعدون لتقبل المثلية الجنسية، مقارنة بصفر بالمائة فى بريطانيا. وما يقارب نصف المسلمين الفرنسيين يعتقدون أن الجنس بين غير المتزوجين مقبول أخلاقيا، مقارنة ب27 بالمائة من المسلمين الألمان. والتشدد العنيف لا ينطبق إلا على أقلية صغيرة جدا: فقد أظهرت استطلاعات الرأى بشكل متكرر أن الأغلبية الساحقة من المسلمين تستنكر الإرهاب. فى بعض البلدان، ذات التوجه العلمانى إلى حد كبير. «أكثرية المسلمين فى فرنسا غير متصلين بديانتهم فى الواقع. وهم ينصهرون داخل المجموعة الأكبر المؤلفة من ذوى البشرة الداكنة والسوداء»، حسبما يقول على علاوي، وزير الدفاع العراقى السابق ومؤلف كتاب بعنوان The Crisis of Islamic Civilization (أزمة الحضارة الإسلامية). يقول يوكين هيبلر، وهو عالم سياسى ألمانى فى جامعة دويسبرغ إيسين، إن شبانا متحدرين من أصل تركى طلبوا منه تفسير الإسلام لهم. «لقد فقدوا أى صلة بديانة آبائهم وأجدادهم»، كما يضيف. وأظهر استطلاع حديث للرأى أجرته الحكومة أن 40 بالمائة من الإيرانيين الذين يعيشون فى ألمانيا يعتبرون أنهم لا ينتمون إلى أى ديانة، وكذلك 23 بالمائة من المهاجرين من بلدان أفريقيا الشمالية. فى هولندا، نسبة المسلمين الذين يذهبون إلى المسجد بشكل منتظم 27 بالمائة أدنى من نسبة البروتستانت الذين يذهبون إلى الكنيسة. فضلا عن ذلك، فما من دلائل تشير إلى أن المسلمين أنفسهم يجدون أى تناقض بين ولائهم للدولة ودينهم. الأكثرية الساحقة من المسلمين فى فرنساوألمانيا قالوا لمستطلعى الرأى من شركة غالوب إنهم يعتقدون أن المسلمين يكنون الولاء لبلدهم. كما أن عدد المسلمين البريطانيين والألمان الذين قالوا إنهم يثقون بالنظام القضائى والمؤسسات المالية ونزاهة الانتخابات يفوق عدد غير المسلمين. إن افترضنا أن أوروبا فى خضم ثورة، يبدو أن الكثير من المشاركين المزعومين فيها راضون بشكل غريب عن النظام القائم.