منافس الأهلي.. بورتو يسابق الزمن لضم فيجا قبل انطلاق مونديال الأندية    7 لاعبين مهددون بالرحيل عن ريال مدريد    أحمد الفيشاوي يثير الجدل مجددًا بظهوره ب«حلق» في أحدث إطلالة على إنستجرام    من مدريد إلى نيويورك..فى انتظار ولادة صعبة لحل الدولتين    باريس سان جيرمان ينهي عقدة تاريخية لأندية فرنسا أوروبيًا    بعد رحيله عن الأهلي.. هل طلب سامي قمصان ضم ميشيل يانكون لجهاز نادي زد؟    لاعبان سابقان.. الزمالك يفاضل بين ثلاثي الدوري لضم أحدهم (تفاصيل)    معاكسة فتاة ببنها تنتهى بجثة ومصاب والأمن يسيطر ويضبط المتهمين    متحدث الصحة: نضع خطة طوارئ متكاملة خلال إجازة العيد.. جاهزية كل المستشفيات    ديستربتيك: استثمرنا 65% من محفظتنا فى شركات ناشئة.. ونستعد لإطلاق صندوق جديد خلال عامين    مطالب برلمانية للحكومة بسرعة تقديم تعديل تشريعى على قانون مخالفات البناء    البلشي يرفض حبس الصحفيين في قضايا النشر: حماية التعبير لا تعني الإفلات من المحاسبة    القومي لحقوق الإنسان يكرم مسلسل ظلم المصطبة    الحبس والغرامة للمتهمين باقتطاع فيديوهات للإعلامية ريهام سعيد وإعادة نشرها    «سيبتك» أولى مفاجآت ألبوم حسام حبيب لصيف 2025    مدير فرع هيئة الرعاية الصحية بالإسماعيلية يستقبل وفدا من الصحة العالمية    رئيس النحالين العرب: 3 جهات رقابية تشرف على إنتاج عسل النحل المصري    وزير الصحة: تجاوزنا أزمة نقص الدواء باحتياطي 3 أشهر.. وحجم التوسع بالمستشفيات مش موجود في العالم    بحثًا عن الزمن المفقود فى غزة    مصطفى كامل وأنوشكا ونادية مصطفى وتامر عبد المنعم فى عزاء والد رئيس الأوبرا    20 صورة.. مستشار الرئيس السيسي يتفقد دير مارمينا في الإسكندرية    موعد أذان مغرب السبت 4 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب عشر ذي الحجة    بعد نجاح مسابقته السنويَّة للقرآن الكريم| الأزهر يطلق «مسابقة السنَّة النبويَّة»    ماذا على الحاج إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام؟.. الدكتور يسري جبر يجيب    الهمص يتهم الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج في قطاع غزة    الإخوان في فرنسا.. كيف تُؤسِّس الجماعة حياةً يوميةً إسلاميةً؟.. خطة لصبغ حياة المسلم فى مجالات بعيدة عن الشق الدينى    المجلس القومي لحقوق الإنسان يكرم أبطال مسلسل ظلم المصطبة    وزارة الزراعة تنفي ما تردد عن بيع المبنى القديم لمستثمر خليجي    برونو يحير جماهير مانشستر يونايتد برسالة غامضة    القاهرة الإخبارية: القوات الروسية تمكنت من تحقيق اختراقات في المواقع الدفاعية الأوكرانية    "أوبك+": 8 أعضاء سيرفعون إنتاج النفط في يوليو ب411 ألف برميل يوميا    قواعد تنسيق العام الجديد.. اعرف تفاصيل اختبارات القدرات    ما حكم بيع جزء من الأضحية؟    محافظ القليوبية يوجه بسرعة الانتهاء من رصف وتطوير محور مصرف الحصة    ب حملة توقيعات.. «الصحفيين»: 5 توصيات ل تعديل المادة 12 من «تنظيم الصحافة والإعلام» (تفاصيل)    استعدادًا لعيد الأضحى| تفتيش نقاط الذبيح ومحال الجزارة بالإسماعيلية    محافظ أسيوط ووزير الموارد المائية والري يتفقدان قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية    تكشف خطورتها.. «الصحة العالمية» تدعو الحكومات إلى حظر جميع نكهات منتجات التبغ    وزير الخارجية يبحث مع عضو لجنة الخدمات العسكرية ب"الشيوخ الأمريكي" سبل دعم الشراكة الاستراتيجية    مصادرة 37 مكبر صوت من التكاتك المخالفة بحملة بشوارع السنبلاوين في الدقهلية    حظك اليوم السبت 31 مايو 2025 وتوقعات الأبراج    لماذا سيرتدي إنتر القميص الثالث في نهائي دوري أبطال أوروبا؟    تفاصيل ما حدث في أول أيام امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنوفية    "حياة كريمة" تبدأ تنفيذ المسح الميداني في المناطق المتضررة بالإسكندرية    بدر عبد العاطى وزير الخارجية ل"صوت الأمة": مصر تعكف مصر على بذل جهود حثيثة بالشراكة مع قطر أمريكا لوقف الحرب في غزة    وزير التربية والتعليم يبحث مع منظمة "يونيسف" وضع خطط لتدريب المعلمين على المناهج المطورة وطرق التدريس    استخراج حجر بطارية ألعاب من مريء طفل ابتلعه أثناء اللعب.. صور    أفضل الأدعية المستجابة عند العواصف والرعد والأمطار    رئيس الإنجيلية يستهل جولته الرعوية بالمنيا بتنصيب القس ريموند سمعان    ماذا قالت وكالة الطاقة الذرية في تقريرها عن أنشطة إيران؟    مصدر كردي: وفد من الإدارة الذاتية الكردية يتجه لدمشق لبحث تطبيق اتفاق وقّعته الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية قبل نحو 3 أشهر    "نفرح بأولادك"..إلهام شاهين توجه رسالة ل أمينة خليل بعد حفل زفافها (صور)    قبل وقفة عرفة.. «اليوم السابع» يرصد تجهيزات مشعر عرفات "فيديو"    عمرو الدجوى يقدم بلاغا للنائب العام يتهم بنات عمته بالاستيلاء على أموال الأسرة    عيد الأضحى 2025.. محافظ الغربية يؤكد توافر السلع واستعداد المستشفيات لاستقبال العيد    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    لمكافحة التلاعب بأسعار الخبز.. ضبط 4 طن دقيق مدعم بالمحافظات    سويلم: الأهلي تسلم الدرع في الملعب وحسم اللقب انتهى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تولستوي بين الدين والعقل والفلسفة
نشر في صوت البلد يوم 24 - 12 - 2017

يحوي هذا الكتاب "ليف تولستوي.. في الدين والعقل والفلسفة" مجموعة منتقاة من مقالات وخطابات تولستوي مترجمة عن الروسية مباشرة، تتمحور حول رؤيته للدين وعلاقة المجتمع ومثقفيه وفلاسفته به. وقدم له للكاتب والمترجم يوسف نبيل بقراءة كشف فيها عن تحولات تولستوي مؤكدا أنه بعد تبلور أزمته الروحية العنيفة أخذت كتاباته تنحو نحو البساطة والوضوح أكثر فأكثر بشكل يصعب معه إساءة فهمها أو تفسيرها، فهي ليست بحاجة إلى تفسير. وأشار إلى أن تولستوي صمم في كثير من كتاباته الأخيرة على أن تكون بسيطة بشكل متناه، ليتسنى للفلاحين البسطاء قراءتها بعد أن شعر أن غالبية الشعب الروسي لا يمكنه قراءة الأعمال الأدبية.
يرى كتاب تولستوي الصادر عن دار آفاق أن الإيمان هو معرفة الإنسان للعلاقة التي تربط الإنسان بالعالم اللانهائي، والتي ينبع منها الاتجاه الذي تسير سلوكياته وفقه، لذلك الإيمان الحقيقي لا يمكنه ألا يكون عقلانيا أو لا يتفق مع المعارف الإنسانية الموجودة، ولا يمكن أن تكون سماته خارقة للطبيعة أو سخيفة كما يفترض البعض وكما عبر عنها أحد آباء الكنيسة حين قال "أؤمن لأنه مناف للعقل. بل على النقيض من ذلك، فتأكيدات الايمان الحقيقي على الرغم من أنه لا يمكن إثباتها فلا يمكن أبدا أن تحوي بداخلها أمرا منافيا للعقل أو غير متفق مع معارف الناس، بل إنها تشرح دائما أن الحياة دون إيمان ستكون متناقضة ولا عقلانية.
ويضرب تولستوي مثلا باليهودي القديم الذي كان يؤمن بوجود كائن أعلى أبدي كلي القدرة قد شكل السماء والأرض والحيوانات والإنسان.. إلخ، وقد تعهد بحماية شعبه إن سار حسب ناموسه، ولم يؤمن بشيء غير عقلاني ولا يتفق مع معارفه، بل على العكس فقد شرح له هذا الإيمان العديد من الأمور التي تبدو دونه ظواهر غير مفهومة بالحياة. الأمر ذاته مع الهندوسي الذي يؤمن بأن نفوسنا قد سكنت من قبل أجساد حيوانات، وأنه على حسب صلاح أو طلاح حياتنا تنتقل إلى أجساد حيوانات أخرى أرقى أو أدنى، ويشرح له إيمانه هذا عديدا من الأمور التي من دونها يجد أمامه كثيرا من ظواهر الحياة غير مفهومة. والأمر ذاته مع إنسان يعتبر الحياة شرا وأن هدفه في هذه الحياة هو تهدئة الشهوات والقضاء عليها. ما من شيء يناقض العقل في إيمانه هذا بل على العكس فإنه يجعل منظوره للعالم أكثر عقلانية منه دون هذا الإيمان. نفس الأمر مع المسيحي الحقيقي الذي يؤمن بأن الله أب روحي لكافة البشر وأن الإنسان يصل إلى الخير الأعظم عندما يدرك بنوته لله وأخوة البشر جميعا.
ويلفت تولستوي إلى أن كل هذه الصيغ من الإيمان وإن لم يكن باستطاعة أحد أن يثبتها ليست مناقضة للعقل في حد ذاتها، بل على العكس فإنها تمنح صاحبها فهما أكثر عقلانية لظواهر الحياة المختلفة التي تبدو غير عقلانية ومتناقضة دون هذه الصيغ من الإيمان. بالإضافة لذلك فإنها جميعا بينما تحدد علاقة الإنسان بالعالم فإنها تلزمه بنمط معين من السلوك يتوافق مع هذه الرؤية، ولذلك أسس التعليم الديني لموقف غير عقلاني لا يفسر شيئا بل يربك أكثر من فهم الحياة، فإنه في هذه الحالة ليس إيمانا بل تحريف له قد فقد السمات الرئيسة للإيمان الحقيقي.
لا يقتصر الأمر على أن هذا النوع من الإيمان ليس موجودا عند معاصرينا لكنهم أيضا لا يعلمون شيئا عن ماهيته ويعنون بكلمة إيمان إما ما ينطقونه بألسنتهم وقدمه له الناس على أنه الإيمان أو تنفيذ الشعائر التي تساعد على تحقيق أهدافهم كما تعلم الكنيسة المسيحية.
جوهر العلاقة بالعالم
ويشير تولستوي إلى أن الإنسان الذي يرى جوهر علاقته بالعالم يتمثل في الحصول على أكبر قدر ممكن من المنفعة الشخصية بغض النظر عن حديثه وتظاهره بأنه يرى الحياة الأخلاقية الحقة تلك التي يعيشها المرء من أجل الأسرة أو المجتمع أو الدولة فهو يتظاهر بذلك أمام الناس ويخدعهم، أما الحافز الحقيقي لكافة أفعاله فسيظل منفعته الشخصية فقط، وهذا يعني أنه عندما يضطر إلى الاختيار فلن يضحي بمنفعته الخاصة من أجل الأسرة أو الدولة ولا حتى من أجل تنفيذ إرادة الله، فهم جميعا سواء أمامه، والسبب في ذلك أنه يرى معنى حياته في منفعته الشخصية فقط، وهو ليس بمقدوره أن يفعل شيئا غير ذلك طالما مفهوم علاقته بالعالم كما هو.
ويضيف الأمر ذاته مع الإنسان الذي تتمحور علاقته بالعالم في خدمة أسرته الأمر الذي يظهر بوضوح جدا في النساء لأي جنس أو شعب معين أو حتى الوطن، كما يظهر عند أمة أو مجموعة سياسية مقموعة إبان الحرب، حتى وإن أعلن نفسه مسيحيا، فستكون أخلاقه دوما مرتبطة بمصالح الأسرة أو الشعب أو الدولة، ولن تشبه الأخلاق المسيحية في شيء، وعندما يضطر إلى الاختيار بين المنفعة الاجتماعية للأسرة أو الدولة وبين تنفيذ إرادة الله فسيكون مضطرا إلى اختيار منفعة مجموعة من الأشخاص الذين تشكل منفعتهم سبب وجوده. هكذا الأمر مع الإنسان الذي يرى علاقته بالعالم تتأسس على تنفيذ إرادة خالقه، فمهما يحاولون إقناعه بأن يقوم بأفعال تصب في صالح منفتعته الشخصية أو الأسرة أو الجنس أو الدولة أو البشر أجمعين، تناقض الارادة العليا المطبوعة بداخله في عقله ومشاعر الحب، فسيضحي دوما بمصالحه الشخصية ومصالح الأسرة أو الجنس أو الوطن أو البشر أجمعين حتى لا يتراجع عن تنفيذ إرادة من أرسله إلى العالم، فمعنى حياته بأكملها يتمثل في تحقيق هذه الإرادة.
ويؤكد تولستوي أنه لا يمكن أن تتأسس الأخلاق بمعزل عن الدين، ليس فقط لأنها تنتج عنه وعن مفهوم العلاقة التي تربط الإنسان بالعالم، بل أيضا لأنها تتضمن بداخلها روح الدين ومقتضياته. ويقول "تشكل كل ديانة محاولة للإجابة عن سؤال: ما معنى حياتي؟ وتتضمن الإجابة الدينية في داخلها مطالب أخلاقية معينة قد تسبق أو تلحق بتفسير معنى الحياة. قد تكون الإجابة عن معنى الحياة كالآتي: يتأسس معنى الحياة على المنفعة الشخصية، لذا استغل كل ما يروق لك في الحياة. وقد تكون الإجابة: يتمثل معنى الحياة في منفعة مجموعة من الأشخاص، لذا اخدم هذه المجموعة بكل قوتك. وقد تكون الإجابة: معنى الحياة يتمثل في أن تحقق إرادة من أرسلك إلى العالم، لذا اسع بكل ما لديك من قوة إلى معرفة إرادته وتحقيقها. من الممكن أن نجيب عن السؤال بالآتي: معنى الحياة في المتعة الخاصة أو في خدمة مجموعة من الأشخاص تعتبر عضوا في مجموعتهم أو معنى الحياة في خدمة الله".
ويوضح تولستوي أن تفسير الدين لمعنى الحياة بداخله النموذج الأخلاقي، لذلك لا يمكن أن تتأسس بمعزل عن الدين. هذه الحقيقة جلية في المحاولات الفلسفية التي قام بها بعض الفلاسفة غير المسيحيين كي يؤسسوا نظاما أخلاقيا ساميا من فلسفاتهم. يعتقد هؤلاء الفلاسفة أن الأخلاقيات المسيحية ضرورية، وأنه لا يمكن العيش دونها، ويحاولون تقديم الأمر كما لو أن الأخلاقيات المسيحية تنبع من فلسفاتهم الوثنية أو الاجتماعية. يحاولون القيام بذلك ولكن هذه المحاولة تبدو بشكل أوضح للآخرين غير موفقة، فلا يقتصر الأمر على أن تلك الأخلاقيات لا تبدو نابعة من الفلسفات، بل تبدو أيضا مناقضة لفلسفات المنفعة الشخصية أو التحرر من المعاناة الشخصية أو حتى الفلسفات الاجتماعية.
وينبه تولستوي إلى أن الدين ليس إيمانا يتأسس مرة واحدة في العمر كاملا، كالخرافات والصلوات والطقوس العبثية الشهيرة، ولا أيضا بقايا الخرافات الهمجية القديمة كما يعتقد العلماء، والتي ليست لديها أي معنى في حياتنا الآن، بل يشكل الدين علاقة الإنسان بالله القابلة للتطوير بشكل يتفق مع العقل ومعارف الإنسان، وهذه العلاقة من شأنها أن تحرك الإنسانية للأمام صوب الهدف المنشود.
يحوي هذا الكتاب "ليف تولستوي.. في الدين والعقل والفلسفة" مجموعة منتقاة من مقالات وخطابات تولستوي مترجمة عن الروسية مباشرة، تتمحور حول رؤيته للدين وعلاقة المجتمع ومثقفيه وفلاسفته به. وقدم له للكاتب والمترجم يوسف نبيل بقراءة كشف فيها عن تحولات تولستوي مؤكدا أنه بعد تبلور أزمته الروحية العنيفة أخذت كتاباته تنحو نحو البساطة والوضوح أكثر فأكثر بشكل يصعب معه إساءة فهمها أو تفسيرها، فهي ليست بحاجة إلى تفسير. وأشار إلى أن تولستوي صمم في كثير من كتاباته الأخيرة على أن تكون بسيطة بشكل متناه، ليتسنى للفلاحين البسطاء قراءتها بعد أن شعر أن غالبية الشعب الروسي لا يمكنه قراءة الأعمال الأدبية.
يرى كتاب تولستوي الصادر عن دار آفاق أن الإيمان هو معرفة الإنسان للعلاقة التي تربط الإنسان بالعالم اللانهائي، والتي ينبع منها الاتجاه الذي تسير سلوكياته وفقه، لذلك الإيمان الحقيقي لا يمكنه ألا يكون عقلانيا أو لا يتفق مع المعارف الإنسانية الموجودة، ولا يمكن أن تكون سماته خارقة للطبيعة أو سخيفة كما يفترض البعض وكما عبر عنها أحد آباء الكنيسة حين قال "أؤمن لأنه مناف للعقل. بل على النقيض من ذلك، فتأكيدات الايمان الحقيقي على الرغم من أنه لا يمكن إثباتها فلا يمكن أبدا أن تحوي بداخلها أمرا منافيا للعقل أو غير متفق مع معارف الناس، بل إنها تشرح دائما أن الحياة دون إيمان ستكون متناقضة ولا عقلانية.
ويضرب تولستوي مثلا باليهودي القديم الذي كان يؤمن بوجود كائن أعلى أبدي كلي القدرة قد شكل السماء والأرض والحيوانات والإنسان.. إلخ، وقد تعهد بحماية شعبه إن سار حسب ناموسه، ولم يؤمن بشيء غير عقلاني ولا يتفق مع معارفه، بل على العكس فقد شرح له هذا الإيمان العديد من الأمور التي تبدو دونه ظواهر غير مفهومة بالحياة. الأمر ذاته مع الهندوسي الذي يؤمن بأن نفوسنا قد سكنت من قبل أجساد حيوانات، وأنه على حسب صلاح أو طلاح حياتنا تنتقل إلى أجساد حيوانات أخرى أرقى أو أدنى، ويشرح له إيمانه هذا عديدا من الأمور التي من دونها يجد أمامه كثيرا من ظواهر الحياة غير مفهومة. والأمر ذاته مع إنسان يعتبر الحياة شرا وأن هدفه في هذه الحياة هو تهدئة الشهوات والقضاء عليها. ما من شيء يناقض العقل في إيمانه هذا بل على العكس فإنه يجعل منظوره للعالم أكثر عقلانية منه دون هذا الإيمان. نفس الأمر مع المسيحي الحقيقي الذي يؤمن بأن الله أب روحي لكافة البشر وأن الإنسان يصل إلى الخير الأعظم عندما يدرك بنوته لله وأخوة البشر جميعا.
ويلفت تولستوي إلى أن كل هذه الصيغ من الإيمان وإن لم يكن باستطاعة أحد أن يثبتها ليست مناقضة للعقل في حد ذاتها، بل على العكس فإنها تمنح صاحبها فهما أكثر عقلانية لظواهر الحياة المختلفة التي تبدو غير عقلانية ومتناقضة دون هذه الصيغ من الإيمان. بالإضافة لذلك فإنها جميعا بينما تحدد علاقة الإنسان بالعالم فإنها تلزمه بنمط معين من السلوك يتوافق مع هذه الرؤية، ولذلك أسس التعليم الديني لموقف غير عقلاني لا يفسر شيئا بل يربك أكثر من فهم الحياة، فإنه في هذه الحالة ليس إيمانا بل تحريف له قد فقد السمات الرئيسة للإيمان الحقيقي.
لا يقتصر الأمر على أن هذا النوع من الإيمان ليس موجودا عند معاصرينا لكنهم أيضا لا يعلمون شيئا عن ماهيته ويعنون بكلمة إيمان إما ما ينطقونه بألسنتهم وقدمه له الناس على أنه الإيمان أو تنفيذ الشعائر التي تساعد على تحقيق أهدافهم كما تعلم الكنيسة المسيحية.
جوهر العلاقة بالعالم
ويشير تولستوي إلى أن الإنسان الذي يرى جوهر علاقته بالعالم يتمثل في الحصول على أكبر قدر ممكن من المنفعة الشخصية بغض النظر عن حديثه وتظاهره بأنه يرى الحياة الأخلاقية الحقة تلك التي يعيشها المرء من أجل الأسرة أو المجتمع أو الدولة فهو يتظاهر بذلك أمام الناس ويخدعهم، أما الحافز الحقيقي لكافة أفعاله فسيظل منفعته الشخصية فقط، وهذا يعني أنه عندما يضطر إلى الاختيار فلن يضحي بمنفعته الخاصة من أجل الأسرة أو الدولة ولا حتى من أجل تنفيذ إرادة الله، فهم جميعا سواء أمامه، والسبب في ذلك أنه يرى معنى حياته في منفعته الشخصية فقط، وهو ليس بمقدوره أن يفعل شيئا غير ذلك طالما مفهوم علاقته بالعالم كما هو.
ويضيف الأمر ذاته مع الإنسان الذي تتمحور علاقته بالعالم في خدمة أسرته الأمر الذي يظهر بوضوح جدا في النساء لأي جنس أو شعب معين أو حتى الوطن، كما يظهر عند أمة أو مجموعة سياسية مقموعة إبان الحرب، حتى وإن أعلن نفسه مسيحيا، فستكون أخلاقه دوما مرتبطة بمصالح الأسرة أو الشعب أو الدولة، ولن تشبه الأخلاق المسيحية في شيء، وعندما يضطر إلى الاختيار بين المنفعة الاجتماعية للأسرة أو الدولة وبين تنفيذ إرادة الله فسيكون مضطرا إلى اختيار منفعة مجموعة من الأشخاص الذين تشكل منفعتهم سبب وجوده. هكذا الأمر مع الإنسان الذي يرى علاقته بالعالم تتأسس على تنفيذ إرادة خالقه، فمهما يحاولون إقناعه بأن يقوم بأفعال تصب في صالح منفتعته الشخصية أو الأسرة أو الجنس أو الدولة أو البشر أجمعين، تناقض الارادة العليا المطبوعة بداخله في عقله ومشاعر الحب، فسيضحي دوما بمصالحه الشخصية ومصالح الأسرة أو الجنس أو الوطن أو البشر أجمعين حتى لا يتراجع عن تنفيذ إرادة من أرسله إلى العالم، فمعنى حياته بأكملها يتمثل في تحقيق هذه الإرادة.
ويؤكد تولستوي أنه لا يمكن أن تتأسس الأخلاق بمعزل عن الدين، ليس فقط لأنها تنتج عنه وعن مفهوم العلاقة التي تربط الإنسان بالعالم، بل أيضا لأنها تتضمن بداخلها روح الدين ومقتضياته. ويقول "تشكل كل ديانة محاولة للإجابة عن سؤال: ما معنى حياتي؟ وتتضمن الإجابة الدينية في داخلها مطالب أخلاقية معينة قد تسبق أو تلحق بتفسير معنى الحياة. قد تكون الإجابة عن معنى الحياة كالآتي: يتأسس معنى الحياة على المنفعة الشخصية، لذا استغل كل ما يروق لك في الحياة. وقد تكون الإجابة: يتمثل معنى الحياة في منفعة مجموعة من الأشخاص، لذا اخدم هذه المجموعة بكل قوتك. وقد تكون الإجابة: معنى الحياة يتمثل في أن تحقق إرادة من أرسلك إلى العالم، لذا اسع بكل ما لديك من قوة إلى معرفة إرادته وتحقيقها. من الممكن أن نجيب عن السؤال بالآتي: معنى الحياة في المتعة الخاصة أو في خدمة مجموعة من الأشخاص تعتبر عضوا في مجموعتهم أو معنى الحياة في خدمة الله".
ويوضح تولستوي أن تفسير الدين لمعنى الحياة بداخله النموذج الأخلاقي، لذلك لا يمكن أن تتأسس بمعزل عن الدين. هذه الحقيقة جلية في المحاولات الفلسفية التي قام بها بعض الفلاسفة غير المسيحيين كي يؤسسوا نظاما أخلاقيا ساميا من فلسفاتهم. يعتقد هؤلاء الفلاسفة أن الأخلاقيات المسيحية ضرورية، وأنه لا يمكن العيش دونها، ويحاولون تقديم الأمر كما لو أن الأخلاقيات المسيحية تنبع من فلسفاتهم الوثنية أو الاجتماعية. يحاولون القيام بذلك ولكن هذه المحاولة تبدو بشكل أوضح للآخرين غير موفقة، فلا يقتصر الأمر على أن تلك الأخلاقيات لا تبدو نابعة من الفلسفات، بل تبدو أيضا مناقضة لفلسفات المنفعة الشخصية أو التحرر من المعاناة الشخصية أو حتى الفلسفات الاجتماعية.
وينبه تولستوي إلى أن الدين ليس إيمانا يتأسس مرة واحدة في العمر كاملا، كالخرافات والصلوات والطقوس العبثية الشهيرة، ولا أيضا بقايا الخرافات الهمجية القديمة كما يعتقد العلماء، والتي ليست لديها أي معنى في حياتنا الآن، بل يشكل الدين علاقة الإنسان بالله القابلة للتطوير بشكل يتفق مع العقل ومعارف الإنسان، وهذه العلاقة من شأنها أن تحرك الإنسانية للأمام صوب الهدف المنشود.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.