أبناؤنا أمانة.. أوقاف بورسعيد تطلق خارطة طريق لحماية النشء من (مسجد لطفي)| صور    بيان عاجل من المتحدث العسكري ينفي صحة وثائق متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي| تفاصيل    دوميط كامل: الدول المتقدمة تُقدّم حماية البيئة على المكاسب الاقتصادية مهما بلغت    سفيرة مصر بتايلاند تؤكد التزام القاهرة بدعم الجهود الدولية لمكافحة الجرائم الإلكترونية    رئيس العاصمة الإدارية: حققنا أرباح 80 مليار جنيه في 3 سنوات    رئيس مصلحة الجمارك: نعدل التعريفات الجمركية بصفة دورية.. ونسعى لتحقيق التوازن    إسقاط 35 طائرة مسيرة أوكرانية فوق المناطق الروسية    الكرملين: روسيا تدرس مقترحات خطة السلام بناء على اتصالاتها في ميامي    وزير السياحة والآثار يبحث مع نظيره السعودي سبل التعاون في موسم الحج والعمرة    تصعيد ديموقراطي ضد ترامب بسبب وثائق إبستين المثيرة للجدل    محادثات ميامي تعزز آمال إنهاء الحرب في أوكرانيا    رسميا.. إبراهيم دياز رجل مباراة المغرب وجزر القمر فى افتتاح الكان    أكسيوس: لا توجد مؤشرات حتى الآن على هجوم إيرانى وشيك ضد إسرائيل    عماد الدين أديب: ترامب ونتنياهو لا يطيقان بعضهما    أمم إفريقيا - محمود صابر: نهدف الوصول لأبعد نقطة في البطولة    خالد الغندور: توروب رفض التعاقد مع محمد عبد المنعم    أمم إفريقيا - سايس: أشعر أن إصابتي ليست خطيرة.. وأفضل التتويج باللقب عن المشاركة    النيابة العامة بالإسكندرية تصطحب المتهم بقتل صديقه للتعرف على الأجزاء المدفونة من جثمانه    اعترافات المتهم بقتل زميله وشطر جثمانه 4 أجزاء في الإسكندرية: فكرت في حرق جثته وخشيت رائحة الدخان    إخلاء عاجل لفندقين عائمين بعد تصادمهما في نهر النيل بإسنا    سائق يقتل زوج شقيقته إثر نزاع عائلي على شقة ميراث بالخانكة    من حقول الطماطم إلى مشرحة زينهم.. جنازة مهيبة لسبعة من ضحايا لقمة العيش    مصرع فتاة إثر تناول قرص غلال سام بالمنيا    ضبط 286 قطعة سلاح أبيض خلال حملات أمنية خلال يوم    بالصور.. ختام الدورة السابعة لمهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير    محمد سلام في العرض الخاص لفيلم خريطة رأس السنة    تعرف على جوائز الدورة ال7 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي للفيلم القصير    "بنتي بتقولي هو أنت كل سنة بتموت"، تصريحات قوية من عمرو زكي عن حالته الصحية    تطورات الحالة الصحية لإدوارد بعد ظهوره على كرسي متحرك    أحمد العوضي: خرجت من منطقة شعبية.. ودوري كبطل ألا أقدم نموذجا سيئا للشباب    أستاذ بالأزهر يوضح فضائل شهر رجب ومكانته في ميزان الشرع    الصحة توضح آليات التعامل مع المراكز الطبية الخاصة المخالفة    الصحة: إغلاق 11 مركز نساء وتوليد بسبب مخالفات تهدد سلامة الأمهات    هاني البحيري: يد الله امتدت لتنقذ أمي من أزمتها الصحية    عصام الحضرى: مصر فى مجموعة صعبة.. والشناوى سيكون أساسيا أمام زيمبابوى    عمرو زكى: اتحاد الكرة مش بيحمى حسام حسن.. وأمى مقهورة بسببى    تامر النحاس: سعر حامد حمدان لن يقل عن 50 مليونا وصعب ديانج يروح بيراميدز    نجاح عملية معقدة لتشوه شديد بالعمود الفقرى بمستشفى جامعة كفر الشيخ    بدون تدخل جراحى.. استخراج 34 مسمارا من معدة مريضة بمستشفى كفر الشيخ العام    سيحا: أسعى لكتابة التاريخ في الأهلي.. والتواجد مع أفضل حراس بإفريقيا يمنحني دوافع    سلوكيات خاطئة تسبب الإصابة بالفشل الكلوي    تكريم الزميل عبد الحميد جمعة خلال المؤتمر السادس لرابطة تجار السيارات 2025    بعد 18 عاماً من الإشارة إليها فى «أخبار الأدب» |قريبًا .. السيرة الشعبية المفقودة للحاكم بأمر الله متاحة للقراء    الصحة توضح أسباب اعتداء الطلاب على زميلهم في أكتوبر    دعاء أول يوم في شهر رجب.. يزيد البركة والرزق    وزير الإسكان يتابع موقف مشروعات وحدات المبادرة الرئاسية" سكن لكل المصريين" بعددٍ من المدن الجديدة    جامعة العاصمة تنظم معرضا متكاملا بالتعاون مع محافظة القاهرة    تعليم الغربية: عقد لجنة القيادات لتدريب 1000 معلم لقيادة المدارس كمديرين    الجيزة توضح حقيقة نزع ملكية عقارات بطريق الإخلاص    برلمانية المؤتمر: تعديلات قانون الكهرباء خطوة ضرورية لحماية المرفق    ضبط 3 محطات وقود بالبحيرة لتجميع وبيع 47 ألف لتر مواد بترولية    توجيهات الرئيس السيسى خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزى ووزير المالية (إنفوجراف)    «المصدر» تنشر نتيجة الدوائر الملغاة بالمرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 21ديسمبر 2025 فى المنيا    انطلاق الإثارة في أمم إفريقيا 2025.. المغرب يواجه جزر القمر في افتتاح المجموعة الأولى    محافظ القاهرة جدول امتحانات الفصل الدراسي الأول للعام الدراسي    بعد رؤية هلال رجب.. ما هو موعد شهر شعبان ؟    الإفتاء: الدعاء في أول ليلة من رجب مستحب ومرجو القبول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى رحيله اال 76 «مي زيادة».. رائدة التنويروالتحررالاجتماع يالعربي
نشر في صوت البلد يوم 30 - 10 - 2017

في التاسع عشر من تشرين الأول/أكتوبر سنة 1941 انطوت الصفحة الأخيرة في حياة مي زيادة أو «إيزيس كوبيا» بعد رحلة شائكة وقاسية، رغم ثمارها الرطيبة، دامت خمسة وخمسين ربيعا أو خريفا، قضتها مي طائرا يغني في غير سربه، يكافح في معترك الحياة، من أجل تحرير المرأة ونهضة المجتمع العربي المسكون بالسبات والجمود. مي ابنة الناصرة عصارة أو تركيبة أرزة لبنانية وزيتونة فلسطينية. عاشت في أرض الكنانة. أبوها المعلم والصحافي صاحب جريدة «المحروسة» إلياس زخور زيادة، ابن قرية شحتول، وأمها النصراوية نزهة معمر. لقبتها الكاتبة غادة السمان ب»الشامية المصرية»، وهي رائدة نسوية حاملة راية تحرير المرأة من قيود المجتمع الذكوري ومسكونة بالهم الجماعي العربي حتى النخاع. مي زيادة سفيرة المرأة العربية في الفكر التنويري والتحرر الاجتماعي، كلماتها مجبولة بعصارة الحرية والجرأة، درجت ودرست في مدارس الناصرة الابتدائية، التي تعلقت بها مكانا أولا وجميلا، عبّرت عنه برحيق يراعها المسطر خلجات قلبها: «أيه يا ناصرة! لن أنساك ما دمت حية. سأعيش دوما تلك الهنيهات العذبة التي قضيتها في كنف منازلك الصامتة، وسأحفظ في نفسي الفتية ذكرى هتافات قلبي وخلجات أعماقي، لقد كنت لي مدينة الأزاهر العذبة، ومجال التنغم بأطايب الأوقات في وجودي».
المشروع النهضوي العربي
تشكل مي في كتاباتها وصالونها «صالون الثلاثاء» أو «ندوة الثلاثاء» في القاهرة، مشروعا نهضويا رياديا في الأدب العربي الحديث، ما زال صداه يتردد في أيامنا، ويلقي تأثيره الفعال على عدة منتديات ثقافية، فقد استقطب، وهو الصالون الوحيد آنذاك في مصر بإدارة آنسة، لفيفا من أساطين الشعر والأدب والفكر العربي أمثال أحمد شوقي، إسماعيل صبري، سليمان البستاني، لطفي السيد، شبلي الشميل، طه حسين، ولي الدين يكن، هدى شعراوي، حافظ إبراهيم، خليل مطران، أحمد زكي باشا، مصطفى صادق الرافعي، حيث البرامج والمطارحات الأدبية والحفلات والمناسبات الاجتماعية والثقافية. عبرت مي بجرأة ووضوح عن أرقها وقلقها وغربتها النفسية في مجتمعها العربي المشروخ والعاصف بالتجزيئية المذهبية والطائفية والجندرية والصمت النسوي بفعل القمع، وتسامت عن ذلك مستشرفة الأمل، فكتبت: «أعتز لأني ابنة شعب في حالة التكون والارتفاع، لا تابعة شعب تكون وارتفع ولم يبق أمامه سوى الانحدار، ولكن الشعوب تهمس همسا يطرق مسمعي: فهؤلاء يقولون «أنت لست منا لأنك من طائفة أخرى». ويقول أولئك: «أنت لست منا لأنك من جنس آخر» فلماذا أكون، دون سواي، تلك التي لا وطن لها؟ ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع» ( ظلمات وأشعة 1985).
عن الهوية والانتماء
طرحت مي بألم وحسرة تساؤلات في الهوية والانتماء، ما زالت تشغل بال المواطن العربي الغريب في وطنه، واللامنتمي له، بسبب التشرذم والتغييب والتمييز والتعصب المهيمن عليه. «فلماذا قدر عليّ أن أكون ابنة وطن تنقصه شروط الوطنية، فأمسي تلك التي لا وطن لها». في كتابات مي حنين رومانسي جامح مسكون بالفلسفة والغربة الروحية والانبهار بالحياة الفطرية والطبيعة، تقول في ذلك «أحب عطور تربة الجدود ورائحة الأرض التي دغدغها المحراث منذ حين. أحب الحصى والأعشاب، وقطرات الماء الملتجئة إلى شقوق الأصلاد». فهي تريد وطنا لغايتين نقيضتين: لتموت لأجله أو لتحيا به.
محاولة التحرر النسوي
هذه اللغة وهذا الأسلوب شكلا خروجا عن اللغة والطوق اللذين سادا آنذاك، ومرايا لحركات التجديد في الأدب العربي، وهذا الفكر هو تماه مع الفلاسفة القدماء، الذين نهلت من نبع أفكارهم، ما ينم عن سعة ثقافة مي واطلاعها الواسع، بتأثير مناخ البيت والمجتمع وإجادتها عدة لغات. شكلت كتابات مي رافعة اجتماعية ومانيفستو لتحرر المرأة والمجتمع العربي، وهي من الرائدات اللاتي مهدن الطريق لأصوات نسوية مقبلة. ففي كلمتها في حفلة أقامها «النادي الشرقي» في القاهرة قبل أكثر من مئة عام، وتحديدا في 1914/4/23 تغنت بالمرأة بأسلوب شاعري ونعتتها حينا بالزهرة الأجمل الظمآى للحرية، وحينا أخرى بالزهرة النارية التي تحمل، من ذرية إلى أخرى قبس الحياة، فقالت «والأزهار التي تفتح في النهار وريقاتها كأعلام نصر منشورة، تنكمش لملامسة الليل، لأن رطوبة الليل تذبلها. لكني سأبدلها بزهرة أوفر منها جمالا،وأتم شكلا، وأدعى إلى التفكير، وأحرى باهتمام ذوي القلوب الغيورة الرحيمة. تلك الزهرة التي تضم في كيانها آيات الحسن الكبرى، وأسرار الحنان الذي لا يدرك ولا ينقضي. تلك الزهرة التي يعذبها ظمأ الحرية، وتتجاذبها العواصف، وتتقاذفها صرعات الزمان منذ أجيال طوال، فلا ينقصف غصنها ولا يلتوي. تلك الزهرة النارية التي تناول الدهور آمال المستقبل، وتنقل من ذرية إلى ذرية قبس الحياة العظيم. لقد عرفتم تلك الزهرة العجيبة، هي المرأة» (عبد اللطيف شرارة 1965 مي زيادة). رأت مي أن تاريخ المرأة استشهاد طويل ونعتت المدنية بالعرجاء، وصوّرت مراحل تكون المرأة في المجتمع الذكوري على مر التاريخ «المرأة، لقد جعلتها الهمجية حيوانا بيتيا، وحسبها الجهل متاعا ممتلكا للرجل يستعمله كيفما يشاء، ويهجره إذا أراد، ويحطمه إذا خطر له في تحطيمه خاطر. كانت بعد ذلك عبدة شقية وأسيرة ذليلة، ثم ارتقت مع مرور الأجيال إلى درجة طفلة قاصرة، إلى لعبة يلهو بها السيد في ساعات الفراغ، إلى تمثال بهرجة تتراكم عليه الأثواب الحريرية والجواهر الثمينة. ومن منا يدري بما كانت تستره الأثواب الحريرية والجواهر الثمينة من قروح القلب الدامية التي لم يضمدها بشر؟».
وتأسف مي لرجال اعتبرهم التاريخ نوابغ زمانهم أمثال شعراء اللاتين وشعراء اليونان، إنهم تلمسوا في المرأة جسدا لا روحا، ونعتوها ب»بلية العالم» و»الشيطان الجميل» و»ينبوع المسرات السامة»، حتى أفلاطون في نظرها قضى حياته آسفا لأنه ابن المرأة.
مي ورفاقها
تبادلت مي الرسائل مع جبران خليل جبران بدءا من عام 1912 وحتى آخر أيام حياته عام 1931، ولم يلتقيا البتة. وخالفت جبران رأيه في الزواج، الوارد في «الأجنحة المتكسرة» لكنها وافقته المبدأ القائل بحرية المرأة (أمل داعوق سعد 1982، فن المراسلة عند مي زيادة).
كما ربطتها صداقة قوية بأمين الريحاني، برزت بشكل واضح بعد المحنة التي وقعت فيها في نهاية عام 1935، حيث استدرجها أقاربها المتواجدون في مصر، بعد وفاة والديها إلى لبنان، فوضعت في العصفورية. وقد اعترف أمين الريحاني في كتابه «قصتي مع مي»، بالتقصير اتجاهها، حيث لم يزرها في العصفورية، مدة سنة وعشرة أشهر لتصديقه الإشاعات حولها. وحين زارها المرة الأولى التزمت الصمت ولم تنبس بكلمة، لكن حين زارها ثانية وألح عليها التحدث، نجح في استنطاقها فعاتبته كثيرا، وسويت الأمور بينهما. كما بذل الريحاني مجهودا كبيرا في إطلاق سراحها من العصفورية. وفي مارس/آذار 1938 ألقت محاضرة في «وست هول» الجامعة الأمريكية بعنوان «رسالة الأديب إلى الحياة العربية « لتضع حدا للمشككين في جنونها (الريحاني، قصتي مع مي).
جنون مي أم جنون المريدين؟
المثير للجدل أن الهامات الأدبية الشامخة، من رواد صالونها، اهتمت في كتاباتها بمي الأنثى والجسد، ووقع هؤلاء في الفخ نفسه الذي حذرت منه مي في صرختها بوجه تاريخ المجتمع الذكوري مذ كان، لا بمي الفكر والروح والريادة الاجتماعية والثقافية. فقال فيها إسماعيل صبري:
روحي على بعض دور الحي حائمة كظامئ الطير تواقا إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدا أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
وكتب عباس محمود العقاد:
أرسلي الشعر خلف ظهرك ليلا واعقديه من فوق رأسك تاجا
أنت في الحالتين بدر نراه ساطعا آية الدجى وهاجا
وولي الدين يكن، كان ينهي رسائله لها كما ذكر فاروق سعد، في مؤلفه «السر الموزع للآنسة مي» (2003) بهذه المقولة:
« تحت قدميك أقبل أقدامك بكل إجلال»
«كل شيء يا مي عندك غال غير أني وحدي لديك رخيص»
هذه السخافات وإن كان بعضها للتغني والمزاح، هي تعبير عن نظرة رجولية رجعية متجذرة في المجتمعات الذكورية. وقد انتبه ونوه جوزيف زيدان في تقديمه لمؤلفه «الأعمال المجهولة لمي» الصادر عن المجمع الثقافي في الإمارات عام 1996 إلى سقطة وقع فيها معظم من كتبوا عن مي «وخلافا للشيخ عبد الرازق فإن جل الذين كتبوا عن مي، لم ينسوا أنها امرأة. فتناولوها من هذا المنطلق بدون حرج ناظرين إلى أنوثتها على حساب فكرها، كاتبين عنها كلاما لم يكن ليدور في خلد أحد أن يكتب مثله لو كان المتناول رجلا». نتاج مي المنقوش في دفتر التنوير الفكري والمترع بالهموم والهادل بالحرية والنهضة، ما زال يشغل ويستقطب الكثير من الباحثين في أيامنا، لريادته وحداثته المجبولة بالأصالة والجرأة، في ذكراها العطرة نتساءل، كم مي نحتاج في أيامنا لتحقيق مشروع مي النهضوي وحلمها الأثير؟
....
٭ كاتب فلسطيني
في التاسع عشر من تشرين الأول/أكتوبر سنة 1941 انطوت الصفحة الأخيرة في حياة مي زيادة أو «إيزيس كوبيا» بعد رحلة شائكة وقاسية، رغم ثمارها الرطيبة، دامت خمسة وخمسين ربيعا أو خريفا، قضتها مي طائرا يغني في غير سربه، يكافح في معترك الحياة، من أجل تحرير المرأة ونهضة المجتمع العربي المسكون بالسبات والجمود. مي ابنة الناصرة عصارة أو تركيبة أرزة لبنانية وزيتونة فلسطينية. عاشت في أرض الكنانة. أبوها المعلم والصحافي صاحب جريدة «المحروسة» إلياس زخور زيادة، ابن قرية شحتول، وأمها النصراوية نزهة معمر. لقبتها الكاتبة غادة السمان ب»الشامية المصرية»، وهي رائدة نسوية حاملة راية تحرير المرأة من قيود المجتمع الذكوري ومسكونة بالهم الجماعي العربي حتى النخاع. مي زيادة سفيرة المرأة العربية في الفكر التنويري والتحرر الاجتماعي، كلماتها مجبولة بعصارة الحرية والجرأة، درجت ودرست في مدارس الناصرة الابتدائية، التي تعلقت بها مكانا أولا وجميلا، عبّرت عنه برحيق يراعها المسطر خلجات قلبها: «أيه يا ناصرة! لن أنساك ما دمت حية. سأعيش دوما تلك الهنيهات العذبة التي قضيتها في كنف منازلك الصامتة، وسأحفظ في نفسي الفتية ذكرى هتافات قلبي وخلجات أعماقي، لقد كنت لي مدينة الأزاهر العذبة، ومجال التنغم بأطايب الأوقات في وجودي».
المشروع النهضوي العربي
تشكل مي في كتاباتها وصالونها «صالون الثلاثاء» أو «ندوة الثلاثاء» في القاهرة، مشروعا نهضويا رياديا في الأدب العربي الحديث، ما زال صداه يتردد في أيامنا، ويلقي تأثيره الفعال على عدة منتديات ثقافية، فقد استقطب، وهو الصالون الوحيد آنذاك في مصر بإدارة آنسة، لفيفا من أساطين الشعر والأدب والفكر العربي أمثال أحمد شوقي، إسماعيل صبري، سليمان البستاني، لطفي السيد، شبلي الشميل، طه حسين، ولي الدين يكن، هدى شعراوي، حافظ إبراهيم، خليل مطران، أحمد زكي باشا، مصطفى صادق الرافعي، حيث البرامج والمطارحات الأدبية والحفلات والمناسبات الاجتماعية والثقافية. عبرت مي بجرأة ووضوح عن أرقها وقلقها وغربتها النفسية في مجتمعها العربي المشروخ والعاصف بالتجزيئية المذهبية والطائفية والجندرية والصمت النسوي بفعل القمع، وتسامت عن ذلك مستشرفة الأمل، فكتبت: «أعتز لأني ابنة شعب في حالة التكون والارتفاع، لا تابعة شعب تكون وارتفع ولم يبق أمامه سوى الانحدار، ولكن الشعوب تهمس همسا يطرق مسمعي: فهؤلاء يقولون «أنت لست منا لأنك من طائفة أخرى». ويقول أولئك: «أنت لست منا لأنك من جنس آخر» فلماذا أكون، دون سواي، تلك التي لا وطن لها؟ ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع» ( ظلمات وأشعة 1985).
عن الهوية والانتماء
طرحت مي بألم وحسرة تساؤلات في الهوية والانتماء، ما زالت تشغل بال المواطن العربي الغريب في وطنه، واللامنتمي له، بسبب التشرذم والتغييب والتمييز والتعصب المهيمن عليه. «فلماذا قدر عليّ أن أكون ابنة وطن تنقصه شروط الوطنية، فأمسي تلك التي لا وطن لها». في كتابات مي حنين رومانسي جامح مسكون بالفلسفة والغربة الروحية والانبهار بالحياة الفطرية والطبيعة، تقول في ذلك «أحب عطور تربة الجدود ورائحة الأرض التي دغدغها المحراث منذ حين. أحب الحصى والأعشاب، وقطرات الماء الملتجئة إلى شقوق الأصلاد». فهي تريد وطنا لغايتين نقيضتين: لتموت لأجله أو لتحيا به.
محاولة التحرر النسوي
هذه اللغة وهذا الأسلوب شكلا خروجا عن اللغة والطوق اللذين سادا آنذاك، ومرايا لحركات التجديد في الأدب العربي، وهذا الفكر هو تماه مع الفلاسفة القدماء، الذين نهلت من نبع أفكارهم، ما ينم عن سعة ثقافة مي واطلاعها الواسع، بتأثير مناخ البيت والمجتمع وإجادتها عدة لغات. شكلت كتابات مي رافعة اجتماعية ومانيفستو لتحرر المرأة والمجتمع العربي، وهي من الرائدات اللاتي مهدن الطريق لأصوات نسوية مقبلة. ففي كلمتها في حفلة أقامها «النادي الشرقي» في القاهرة قبل أكثر من مئة عام، وتحديدا في 1914/4/23 تغنت بالمرأة بأسلوب شاعري ونعتتها حينا بالزهرة الأجمل الظمآى للحرية، وحينا أخرى بالزهرة النارية التي تحمل، من ذرية إلى أخرى قبس الحياة، فقالت «والأزهار التي تفتح في النهار وريقاتها كأعلام نصر منشورة، تنكمش لملامسة الليل، لأن رطوبة الليل تذبلها. لكني سأبدلها بزهرة أوفر منها جمالا،وأتم شكلا، وأدعى إلى التفكير، وأحرى باهتمام ذوي القلوب الغيورة الرحيمة. تلك الزهرة التي تضم في كيانها آيات الحسن الكبرى، وأسرار الحنان الذي لا يدرك ولا ينقضي. تلك الزهرة التي يعذبها ظمأ الحرية، وتتجاذبها العواصف، وتتقاذفها صرعات الزمان منذ أجيال طوال، فلا ينقصف غصنها ولا يلتوي. تلك الزهرة النارية التي تناول الدهور آمال المستقبل، وتنقل من ذرية إلى ذرية قبس الحياة العظيم. لقد عرفتم تلك الزهرة العجيبة، هي المرأة» (عبد اللطيف شرارة 1965 مي زيادة). رأت مي أن تاريخ المرأة استشهاد طويل ونعتت المدنية بالعرجاء، وصوّرت مراحل تكون المرأة في المجتمع الذكوري على مر التاريخ «المرأة، لقد جعلتها الهمجية حيوانا بيتيا، وحسبها الجهل متاعا ممتلكا للرجل يستعمله كيفما يشاء، ويهجره إذا أراد، ويحطمه إذا خطر له في تحطيمه خاطر. كانت بعد ذلك عبدة شقية وأسيرة ذليلة، ثم ارتقت مع مرور الأجيال إلى درجة طفلة قاصرة، إلى لعبة يلهو بها السيد في ساعات الفراغ، إلى تمثال بهرجة تتراكم عليه الأثواب الحريرية والجواهر الثمينة. ومن منا يدري بما كانت تستره الأثواب الحريرية والجواهر الثمينة من قروح القلب الدامية التي لم يضمدها بشر؟».
وتأسف مي لرجال اعتبرهم التاريخ نوابغ زمانهم أمثال شعراء اللاتين وشعراء اليونان، إنهم تلمسوا في المرأة جسدا لا روحا، ونعتوها ب»بلية العالم» و»الشيطان الجميل» و»ينبوع المسرات السامة»، حتى أفلاطون في نظرها قضى حياته آسفا لأنه ابن المرأة.
مي ورفاقها
تبادلت مي الرسائل مع جبران خليل جبران بدءا من عام 1912 وحتى آخر أيام حياته عام 1931، ولم يلتقيا البتة. وخالفت جبران رأيه في الزواج، الوارد في «الأجنحة المتكسرة» لكنها وافقته المبدأ القائل بحرية المرأة (أمل داعوق سعد 1982، فن المراسلة عند مي زيادة).
كما ربطتها صداقة قوية بأمين الريحاني، برزت بشكل واضح بعد المحنة التي وقعت فيها في نهاية عام 1935، حيث استدرجها أقاربها المتواجدون في مصر، بعد وفاة والديها إلى لبنان، فوضعت في العصفورية. وقد اعترف أمين الريحاني في كتابه «قصتي مع مي»، بالتقصير اتجاهها، حيث لم يزرها في العصفورية، مدة سنة وعشرة أشهر لتصديقه الإشاعات حولها. وحين زارها المرة الأولى التزمت الصمت ولم تنبس بكلمة، لكن حين زارها ثانية وألح عليها التحدث، نجح في استنطاقها فعاتبته كثيرا، وسويت الأمور بينهما. كما بذل الريحاني مجهودا كبيرا في إطلاق سراحها من العصفورية. وفي مارس/آذار 1938 ألقت محاضرة في «وست هول» الجامعة الأمريكية بعنوان «رسالة الأديب إلى الحياة العربية « لتضع حدا للمشككين في جنونها (الريحاني، قصتي مع مي).
جنون مي أم جنون المريدين؟
المثير للجدل أن الهامات الأدبية الشامخة، من رواد صالونها، اهتمت في كتاباتها بمي الأنثى والجسد، ووقع هؤلاء في الفخ نفسه الذي حذرت منه مي في صرختها بوجه تاريخ المجتمع الذكوري مذ كان، لا بمي الفكر والروح والريادة الاجتماعية والثقافية. فقال فيها إسماعيل صبري:
روحي على بعض دور الحي حائمة كظامئ الطير تواقا إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدا أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
وكتب عباس محمود العقاد:
أرسلي الشعر خلف ظهرك ليلا واعقديه من فوق رأسك تاجا
أنت في الحالتين بدر نراه ساطعا آية الدجى وهاجا
وولي الدين يكن، كان ينهي رسائله لها كما ذكر فاروق سعد، في مؤلفه «السر الموزع للآنسة مي» (2003) بهذه المقولة:
« تحت قدميك أقبل أقدامك بكل إجلال»
«كل شيء يا مي عندك غال غير أني وحدي لديك رخيص»
هذه السخافات وإن كان بعضها للتغني والمزاح، هي تعبير عن نظرة رجولية رجعية متجذرة في المجتمعات الذكورية. وقد انتبه ونوه جوزيف زيدان في تقديمه لمؤلفه «الأعمال المجهولة لمي» الصادر عن المجمع الثقافي في الإمارات عام 1996 إلى سقطة وقع فيها معظم من كتبوا عن مي «وخلافا للشيخ عبد الرازق فإن جل الذين كتبوا عن مي، لم ينسوا أنها امرأة. فتناولوها من هذا المنطلق بدون حرج ناظرين إلى أنوثتها على حساب فكرها، كاتبين عنها كلاما لم يكن ليدور في خلد أحد أن يكتب مثله لو كان المتناول رجلا». نتاج مي المنقوش في دفتر التنوير الفكري والمترع بالهموم والهادل بالحرية والنهضة، ما زال يشغل ويستقطب الكثير من الباحثين في أيامنا، لريادته وحداثته المجبولة بالأصالة والجرأة، في ذكراها العطرة نتساءل، كم مي نحتاج في أيامنا لتحقيق مشروع مي النهضوي وحلمها الأثير؟
....
٭ كاتب فلسطيني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.