«التعليم العالي» تعلن نتيجة التحويلات.. وقريبا إرسال كشوف المقبولين للجامعات والمعاهد    ارتفاع أسعار العملات العربية في ختام تعاملات اليوم 20 أغسطس 2025    اكتمال الحجز فى عمرة المولد النبوى بنقابة الصحفيين.. وفتح باب التسجيل لعمرة رجب    نجوم كرة القدم يشيعون جنازة والد محمد الشناوي    الإعدام شنقا لعامل والمؤبد ل2 آخرين والمشدد 15 سنة لطالب قتلوا شخصا بالقناطر    الداخلية تضبط سائق أتوبيس نقل خاص متعاطى مخدرات    وكيل تعليم الغربية: خطة لنشر الوعي بنظام البكالوريا المصرية ومقارنته بالثانوية العامة    تسيير القطار السادس لتسهيل العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    مهرجان الجونة يكشف عن أول 12 فيلم تتنافس في دورته الثامنة (تفاصيل)    إبراهيم الفرن يشارك فى لجنة تحكيم مهرجان مسرح الرحالة الدولى بالأردن    وزير الصحة يتفقد مركز صحة أسرة «الريحان» بالشروق.. ويستجيب لشكاوى مواطنين بزيارة مركز ال«70»    طب قصر العيني يطلق برنامجًا صيفيًا لتدريب 1200 طالب بالسنوات الإكلينيكية    "أريد تحقيق البطولات".. وسام أبو علي يكشف سبب انتقاله ل كولومبوس الأمريكي    الاحتفال بعروسة وحصان.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 فلكيًا وحكم الاحتفال به    وزيرة التنمية المحلية و4 محافظين يشهدون توقيع بروتوكولات للتنمية الاقتصادية    البورصة المصرية تخسر 28 مليار جنيه بتراجع جماعي للمؤشرات    تصاعد العمليات العسكرية في قطاع غزة وسط تحضيرات لعملية واسعة ( تحليل أخباري )    نائب رئيس حزب المؤتمر: تعنت إسرائيل ضد المبادرة المصرية القطرية يكشف نواياها    تمهيدا لاحتلال غزة.. إسرائيل تستدعي 60 ألف جندي احتياط    البرديسي: السياسة الإسرائيلية تتعمد المماطلة في الرد على مقترح هدنة غزة    محافظ الإسماعيلية يوجه التضامن بإعداد تقرير عن احتياجات دار الرحمة والحضانة الإيوائية (صور)    بعد وفاة طفل بسبب تناول الإندومي.. "البوابة نيوز" ترصد الأضرار الصحية للأطعمة السريعة.. و"طبيبة" تؤكد عدم صلاحيته كوجبة أساسية    خلال اتصال هاتفى تلقاه من ماكرون.. الرئيس السيسى يؤكد موقف مصر الثابت والرافض لأية محاولات لتهجير الشعب الفلسطينى أو المساس بحقوقه المشروعة.. ويرحب مجددًا بقرار فرنسا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية    كنوز| 101 شمعة لفيلسوف الأدب الأشهر فى شارع صاحبة الجلالة    استراحة السوبر السعودي - القادسية (1)-(4) أهلي جدة.. نهاية الشوط الأول    كرة نسائية – سحب قرعة الدوري.. تعرف على مباريات الجولة الأولى    أغلب الألمان يؤيدون الحظر الجزئي على تصدير الأسلحة لإسرائيل    محافظ الإسماعيلية يتفقد عددًا من القطاعات الخدمية في جولة مفاجئة | صور    حملة موسعة على منشآت الرعاية الأولية في المنوفية    «دوري مو».. محمد صلاح يدفع جماهير ليفربول لطلب عاجل بشأن البريميرليج    تحرير 7 محاضر لمحلات جزارة ودواجن بمدينة مرسى مطروح    الأوقاف:681 ندوة علمية للتأكيد على ضرورة صون الجوارح عما يغضب الله    إزالة 19 حالة تعد على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة في المنيا    ما حكم إخبار بما في الخاطب من عيوب؟    رئيس جامعة القاهرة: تطوير وصيانة المدن الجامعية أولوية قصوى للطلاب    علي جمعة يكشف عن 3 محاور لمسؤولية الفرد الشرعية في المجتمع    "كلنا بندعيلك من قلوبنا".. ريهام عبدالحكيم توجه رسالة دعم لأنغام    بعد نجاح «قرار شخصي».. حمزة نمرة يستعد لطرح ألبوم ثاني في 2025    «سي إن إن» تبرز جهود مصر الإغاثية التى تبذلها لدعم الأشقاء في غزة    حالة الطقس في الإمارات.. تقلبات جوية وسحب ركامية وأمطار رعدية    القبض على طرفي مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بالسلام    كيف يكون بر الوالدين بعد وفاتهما؟.. الإفتاء تجيب    "خطر على الصحة".. العثور على كم كبير من الحشرات داخل مطعم بدمنهور    وزير الإسكان يستعرض جهود التنمية السياحية في ترشيد الإنفاق    تفاصيل جراحة مروان حمدي مهاجم الإسماعيلي وموعد عودته للمشاركة    الليلة.. إيهاب توفيق يلتقي جمهوره في حفل غنائي بمهرجان القلعة    عمر طاهر على شاشة التليفزيون المصري قريبا    الزمالك: منفحتون على التفاوض وحل أزمة أرض النادي في 6 أكتوبر    محافظ القاهرة يقرر النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بالثانوي العام    توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين اقتصادية قناة السويس وحكومة طوكيو في مجال الهيدروجين الأخضر    وزير الدفاع يلتقي مقاتلي المنطقة الشمالية.. ويطالب بالاستعداد القتالي الدائم والتدريب الجاد    صباحك أوروبي.. صلاح يتوج بجائزة لاعب العام.. استبعاد فينيسيوس.. ورغبة إيزاك    الاحتلال الإسرائيلي يقتل نجم كرة السلة الفلسطينى محمد شعلان أثناء محاولته الحصول على المساعدات    رئيس الوزراء: أدعو الطلاب اليابانيين للدراسة في مصر    رعاية القلوب    ترامب: رئيس البنك المركزي يضر بقطاع الإسكان وعليه خفض أسعار الفائدة    مصدر أمني ينفي تداول مكالمة إباحية لشخص يدعي أنه مساعد وزير الداخلية    مصطفى قمر يهنئ عمرو دياب بألبومه الجديد: هعملك أغنية مخصوص    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظريات المؤامرة والجهل الإرادي
نشر في صوت البلد يوم 18 - 07 - 2017

ما كاد الرئيس الفرنسي المنتخب إمانويل ماكرون يصعد المنصة التي أعدّت له قبالة هرم اللوفر ليلة فوزه بالرئاسة، حتى تنادى القائلون بنظرية المؤامرة على شبكات التواصل الاجتماعي ليؤكدوا أنهم رأوا في الشكل الهندسي للهرم البلوري الذي تنعكس عليه الأضواء، وفي قمته التي تعلو رأس الرئيس الشاب، وفي حركات يديه وهو يتوجه إلى أنصاره ومناضلي حركته ما يقيم الدليل على أن الرجل واحد من جمعية المتنوّرين (إلّوميناتي) وهي فرقة سرية خيالية ينسب إليها تسيير العالم في الخفاء.
قبلها، تداول هواة المؤامرة سيناريو يخالف ما روته وسائل الإعلام عن عملية شارلي إيبدو. وقبلها أيضا وضع الفرنسيّ تييري ميسان، مؤسس شبكة فولتير، أحداث الحادي عشر من سبتمبر موضع شكّ، وألف كتابا بعنوان “الخديعة الكبرى” أكد فيه ألا وجود لأيّ طائرة ضربت البنتاغون، وألا وجود لأيّ إرهابي يقود الطائرتين اللتين قيل إنهما دمّرتا برجي نيويورك، وأن العملية كلها من تدبير أميركي. وقس على ذلك أحداثا أخرى يستعمل فيها أصحاب تلك النظرية حجاجا منطقيا متماسكا في أغلب الحالات حتى ليصعب على الإنسان العادي تكذيبه، كما هو الشأن مع محاضرات فرنسوا أسولينو.
ولكن قد يبالغون أحيانا حدّ الشطط كما حصل في زيلندا الجديدة، حين استغل أحد المواطنين بندا دستوريا، فأرغم رئيس الوزراء على الاستظهار بما يدلّ على أنه آدمي، وليس زاحفا متحوّلا من سكان الكواكب البعيدة متنكرا في هيئة آدمية، ضمن مخطط يهدف إلى إخضاع الكرة الأرضية واستعباد أهلها. وأذعن رئيس الحكومة عملا بأحكام الدستور، فعرض نفسه على طبيب ثم بيطري أثبتا له أنه لا ينتمي إلى فصيلة الزواحف، لا الأرضية ولا الماورائية. أو أنهم ينكرون حقائق علمية راسخة، كالزعم، بعد بطليموس بأكثر من ألفي عام، بأن الأرض مسطحة وأنها مركز الكون، وأن الشمس هي التي تدور حولها كل يوم، من المشرق إلى المغرب. كما يعتبرون الاحتباس الحراري خدعة وأدوية التلقيح مؤامرة صيدلانية تقود إلى الانطوائية. أي أنهم يشكون في العلم أو ينظرون إليه كمجرد أيديولوجيا. والسبب، ليس الجهل، بل الجهل الإرادي كما يقول الفيلسوف الأميركي لي ماكنتاير.
ولا يهمّ أن يدحض الواقع ادّعاءاتهم، بل إن ذلك لا يزيدهم إلا تشبثا برأيهم والإمعان في الطريق التي سلكوها. في كتاب “عندما تخطئ نبوءة” الصادر عام 1956، وهو من كلاسيكيات علم النفس الاجتماعي، قام ليون فيستنغر وهنري ريكن وستانلي شاشتر، بتحليل ردة أفعال الذين يؤمنون بعقيدة ما إيمانا راسخا، بعد أن يتضح زيفها. اشتغلوا على سلوك نِحلة تُدعى سيكيرس كانت تنذر بوشك تفجر طوفان يجرف العالم بأسره، باستثناء المؤمنين الحق، فتخلّت عن كل مُرتَخص وغالٍ، ولاذت بأماكن محددة سوف تأتي منها مراكب فضائية لتخلّص أفرادها، ولكن لم يحدث شيء مما كانت تتوقّعه. وبدل أن تعدل عن اعتقادها الزائف ازدادت اعتصامًا به ودعوةً إليه. وهو ما اصطلح أولئك الباحثون على تسميته ب”التنافر المعرفي”، أي في حالة التعارض بين العقيدة والواقع، نحاول التكيّف بإنكار الواقع.
وهو ما لخصه فيستنغر في قوله “إنسان ذو قناعات هو إنسان صعب تغييره. إن أعربت له عن اعتراضك أدار لك ظهره. وإن أريتَه وقائع وأرقاما سألك عن مصدرها. وإن استدعيت المنطق أجابك أن ذلك لا يعنيه”. قال قولته تلك قبل أن يبتكر بيتر وازون مصطلح “انحراف تأكيد” للدلالة على ظاهرة إيثارنا المعلومات التي تسير في اتجاه رؤيتنا للعالم، وتجاهل ما يعارضها.
الكذب الفادح لتبرير الفشل
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف وصل الأمر إلى هذا الحدّ في مجتمعات متقدمة صارت تستهين بالحقيقة ولا تتورع عن الحديث عن عصر “مابعد الحقيقة”، أي عصر يستوي فيه الشيء ونقيضه، ويصبح الكذب الفادح وسيلة لتبرير الفشل بدعوى المؤامرة، كما فعل مؤخرا مرشح اليمين فرنسوا فيون، حينما أعلن عن وجود “مكتب أسود” في قصر الإيليزيه يديره الرئيس هولاند.
والجواب الذي يتبدى لأهل الذكر يكمن في تغير وسيلة التوزيع والترويج عمّا كانت عليه من قبل، فبفضل الإنترنت، لم تعد للناس آراء مختلفة، بل صارت لهم أحداث مختلفة، حيث مكنت التكنولوجيا سائر سكان المعمورة من ممارسة عملية الاتصال التي كانت حكرا على وسائل الإعلام، ولكنها في المقابل شجّعت رؤيتهم الضيقة للعالم، بدفعهم إلى البحث عن أشباههم في شبكات التواصل الاجتماعي، وبذلك خلقت “قبلية جديدة” بعبارة الكاتب والصحافي الجنوب أفريقي فرهاد مانجو. ويكمن أيضا في الأيديولوجيا التي لا تزال تهيمن على العقول، فالناس لا يزالون يقفون من القضايا، حتى وإن كانت عن انقراض بعض الأجناس والتصحّر وتغير المناخ، وفق انتمائهم الأيديولوجي، وكأنّ في ذلك الموقف علامة وفاء. وكل فريق على الشبكة يسعى إلى إلغاء كل من لا ينسجم مع رؤيته للعالم.
ثم إن العالم صار يعيش أزمةَ حقيقةٍ بسبب الإنترنت، الذي لم يضاعف من كمية الأخبار الزائفة فقط، بل أكسب حضورا غير مسبوق للمحتويات التآمرية التي كانت فيما مضى تتنقل بشكل سري، كالبضائع المهربة، وأصبحت اليوم علنية تقريبا، تعرض نفسها على كل مبحر في الشبكة، حتى من لا يرغب في الاطلاع عليها. وهو ما يؤكده عالم الاجتماع جيرالد برونر في كتاب جديد بعنوان “ديمقراطية السّذّج”، ففي رأيه أن نظريات المؤامرة والأخبار الزائفة ليست جديدة، ولكنها كانت في الغالب محصورة في فضاءات راديكالية.
أما اليوم فقد اجتاحت الفضاء العام، لا سيما أن المدافعين عنها متحمّسون أكثر من المواطنين العاديين لفرض وجهة نظرهم. وعدمُ تماثل الحماس هذا يلعب دورا حاسما في انتشار سرعة التصديق، إذ أن عددا قليلا من المتحمسين يمكن أن يجد لآرائه صدى داخل الإنترنت أكثر ممّا في الحياة الاجتماعية. لأن الإنترنت كما يقول ديمقراطية عجيبة، فهو يسمح لبعض مستعمليه بالتصويت ألف مرة، فيما لا يصوّت غيره أبدا. ولما كان المؤمنون بنظرية المؤامرة يصوّتون بانتظام، فالكفة في صالحهم على الدوام.
وبما أن هذه السوق المعرفية تسمح لأيّ كان بعرض خبر أو معلومة في الفضاء العام، فقد خلقت تنافسا مطردا تتسابق فيه الأطراف لتقديم الجديد، وزادت في سرعة انتشار المعلومات غير المنتخبة، ما ينعش إمبراطورية المعتقدات، إذ صارت أساطير المؤامرة تظهر سويعات فقط بعد وقوع الأحداث. وما يمنحه الإنترنت لتلك الميثولوجيات التآمرية هو زمن تخمر وحضانة محدود، ما يجعل عدد المواضيع التي يمكن أن تثير معتقداتٍ وإشاعاتٍ ونظرياتِ مؤامرةٍ أكبر، ويزيد بصفة آلية كمية المعتقدات التي تشغل الفضاء الاجتماعي.
لقد عرفت أساطير التآمر المعاصرة كيف تنمّي الإمكانات التي تقدمها تكنولوجيات الاتصال الحديثة لتضاعف انتشارها، مستغلة انخرام سوق المعلومات. وصرنا نرى هيمنة أفكار خاطئة ورواجها في شتى الأوساط كحقيقة لا تقبل الجدل، لأنها ما عادت تجد “رجال جمارك” يراقبون الحدود. رغم أنها تقوم على ثنائية مانوية، وعلى ما يسميه المتخصصون “انحراف قدرة الإنسان على الفعل في العالم”. فالأحداث الكبرى في رأي المؤمنين بنظرية المؤامرة وراءها بالضرورة أسباب كبرى، وما يتجلّى على السطح تتخذ قراراته في الخفاء قوى غيبية، وتحرّك خيوطه أياد مجهولة. وما زال ثمة من يعتقد إلى اليوم أن بيرل هاربر ذريعة أميركية لمحاربة اليابان، وأن الاتحاد الأوروبي صنيعة الولايات المتحدة، وأن فالتر هالشتاين، أحد الآباء المؤسسين لأوروبا، كان رجل قانون كلفه هتلر بتصور “أوروبا جديدة” مع موسوليني..
يقول جيرالد برونر “إن ديمقراطية السذّج أحد تحديات عصرنا الكبرى، وليس لنا من حلّ لمواجهتها إلا بإعادة الاعتبار إلى العقلانية، كأساس لكل ديمقراطية”. غير أن دان كاهان، أستاذ علم النفس بجامعة ييل الأميركية يذهب مذهبا آخر، ففي رأيه أن المشكل ليس لأن الناس يفتقرون إلى العقلانية والمعرفة، بل لأنهم يستعملون العقل لتأكيد موقعهم داخل المجموعة. وكلما كانوا أذكياء كانوا أقدر على إقامة الحجة لصالح موقفهم، أي أن الذكاء عندهم يصلح قبل كل شيء لتدعيم الأفكار المسبقة. وهذا معناه أن المشكل ليس بالسهولة التي نتصور، وأنه باقٍ ما بقي في الكون وجود بشري.
وصفوة القول إن من يرتابون من السلطات يؤمنون بالمؤامرة بسهولة، رغم مستواهم التعليمي. فهم إما يشعرون بالعجز سياسيا إزاء العولمة، أو هم لا يعرفون من يتخذ القرار فعلا، علاوة على شعورهم بعدم الرضى عن الحياة التي يحيونها، وعدم قدرتهم على تغييرها نحو الأفضل، في ظل كساد اقتصادي مستحكم وأزمة اجتماعية تستعصي على الحل.
....
كاتب من تونس
ما كاد الرئيس الفرنسي المنتخب إمانويل ماكرون يصعد المنصة التي أعدّت له قبالة هرم اللوفر ليلة فوزه بالرئاسة، حتى تنادى القائلون بنظرية المؤامرة على شبكات التواصل الاجتماعي ليؤكدوا أنهم رأوا في الشكل الهندسي للهرم البلوري الذي تنعكس عليه الأضواء، وفي قمته التي تعلو رأس الرئيس الشاب، وفي حركات يديه وهو يتوجه إلى أنصاره ومناضلي حركته ما يقيم الدليل على أن الرجل واحد من جمعية المتنوّرين (إلّوميناتي) وهي فرقة سرية خيالية ينسب إليها تسيير العالم في الخفاء.
قبلها، تداول هواة المؤامرة سيناريو يخالف ما روته وسائل الإعلام عن عملية شارلي إيبدو. وقبلها أيضا وضع الفرنسيّ تييري ميسان، مؤسس شبكة فولتير، أحداث الحادي عشر من سبتمبر موضع شكّ، وألف كتابا بعنوان “الخديعة الكبرى” أكد فيه ألا وجود لأيّ طائرة ضربت البنتاغون، وألا وجود لأيّ إرهابي يقود الطائرتين اللتين قيل إنهما دمّرتا برجي نيويورك، وأن العملية كلها من تدبير أميركي. وقس على ذلك أحداثا أخرى يستعمل فيها أصحاب تلك النظرية حجاجا منطقيا متماسكا في أغلب الحالات حتى ليصعب على الإنسان العادي تكذيبه، كما هو الشأن مع محاضرات فرنسوا أسولينو.
ولكن قد يبالغون أحيانا حدّ الشطط كما حصل في زيلندا الجديدة، حين استغل أحد المواطنين بندا دستوريا، فأرغم رئيس الوزراء على الاستظهار بما يدلّ على أنه آدمي، وليس زاحفا متحوّلا من سكان الكواكب البعيدة متنكرا في هيئة آدمية، ضمن مخطط يهدف إلى إخضاع الكرة الأرضية واستعباد أهلها. وأذعن رئيس الحكومة عملا بأحكام الدستور، فعرض نفسه على طبيب ثم بيطري أثبتا له أنه لا ينتمي إلى فصيلة الزواحف، لا الأرضية ولا الماورائية. أو أنهم ينكرون حقائق علمية راسخة، كالزعم، بعد بطليموس بأكثر من ألفي عام، بأن الأرض مسطحة وأنها مركز الكون، وأن الشمس هي التي تدور حولها كل يوم، من المشرق إلى المغرب. كما يعتبرون الاحتباس الحراري خدعة وأدوية التلقيح مؤامرة صيدلانية تقود إلى الانطوائية. أي أنهم يشكون في العلم أو ينظرون إليه كمجرد أيديولوجيا. والسبب، ليس الجهل، بل الجهل الإرادي كما يقول الفيلسوف الأميركي لي ماكنتاير.
ولا يهمّ أن يدحض الواقع ادّعاءاتهم، بل إن ذلك لا يزيدهم إلا تشبثا برأيهم والإمعان في الطريق التي سلكوها. في كتاب “عندما تخطئ نبوءة” الصادر عام 1956، وهو من كلاسيكيات علم النفس الاجتماعي، قام ليون فيستنغر وهنري ريكن وستانلي شاشتر، بتحليل ردة أفعال الذين يؤمنون بعقيدة ما إيمانا راسخا، بعد أن يتضح زيفها. اشتغلوا على سلوك نِحلة تُدعى سيكيرس كانت تنذر بوشك تفجر طوفان يجرف العالم بأسره، باستثناء المؤمنين الحق، فتخلّت عن كل مُرتَخص وغالٍ، ولاذت بأماكن محددة سوف تأتي منها مراكب فضائية لتخلّص أفرادها، ولكن لم يحدث شيء مما كانت تتوقّعه. وبدل أن تعدل عن اعتقادها الزائف ازدادت اعتصامًا به ودعوةً إليه. وهو ما اصطلح أولئك الباحثون على تسميته ب”التنافر المعرفي”، أي في حالة التعارض بين العقيدة والواقع، نحاول التكيّف بإنكار الواقع.
وهو ما لخصه فيستنغر في قوله “إنسان ذو قناعات هو إنسان صعب تغييره. إن أعربت له عن اعتراضك أدار لك ظهره. وإن أريتَه وقائع وأرقاما سألك عن مصدرها. وإن استدعيت المنطق أجابك أن ذلك لا يعنيه”. قال قولته تلك قبل أن يبتكر بيتر وازون مصطلح “انحراف تأكيد” للدلالة على ظاهرة إيثارنا المعلومات التي تسير في اتجاه رؤيتنا للعالم، وتجاهل ما يعارضها.
الكذب الفادح لتبرير الفشل
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف وصل الأمر إلى هذا الحدّ في مجتمعات متقدمة صارت تستهين بالحقيقة ولا تتورع عن الحديث عن عصر “مابعد الحقيقة”، أي عصر يستوي فيه الشيء ونقيضه، ويصبح الكذب الفادح وسيلة لتبرير الفشل بدعوى المؤامرة، كما فعل مؤخرا مرشح اليمين فرنسوا فيون، حينما أعلن عن وجود “مكتب أسود” في قصر الإيليزيه يديره الرئيس هولاند.
والجواب الذي يتبدى لأهل الذكر يكمن في تغير وسيلة التوزيع والترويج عمّا كانت عليه من قبل، فبفضل الإنترنت، لم تعد للناس آراء مختلفة، بل صارت لهم أحداث مختلفة، حيث مكنت التكنولوجيا سائر سكان المعمورة من ممارسة عملية الاتصال التي كانت حكرا على وسائل الإعلام، ولكنها في المقابل شجّعت رؤيتهم الضيقة للعالم، بدفعهم إلى البحث عن أشباههم في شبكات التواصل الاجتماعي، وبذلك خلقت “قبلية جديدة” بعبارة الكاتب والصحافي الجنوب أفريقي فرهاد مانجو. ويكمن أيضا في الأيديولوجيا التي لا تزال تهيمن على العقول، فالناس لا يزالون يقفون من القضايا، حتى وإن كانت عن انقراض بعض الأجناس والتصحّر وتغير المناخ، وفق انتمائهم الأيديولوجي، وكأنّ في ذلك الموقف علامة وفاء. وكل فريق على الشبكة يسعى إلى إلغاء كل من لا ينسجم مع رؤيته للعالم.
ثم إن العالم صار يعيش أزمةَ حقيقةٍ بسبب الإنترنت، الذي لم يضاعف من كمية الأخبار الزائفة فقط، بل أكسب حضورا غير مسبوق للمحتويات التآمرية التي كانت فيما مضى تتنقل بشكل سري، كالبضائع المهربة، وأصبحت اليوم علنية تقريبا، تعرض نفسها على كل مبحر في الشبكة، حتى من لا يرغب في الاطلاع عليها. وهو ما يؤكده عالم الاجتماع جيرالد برونر في كتاب جديد بعنوان “ديمقراطية السّذّج”، ففي رأيه أن نظريات المؤامرة والأخبار الزائفة ليست جديدة، ولكنها كانت في الغالب محصورة في فضاءات راديكالية.
أما اليوم فقد اجتاحت الفضاء العام، لا سيما أن المدافعين عنها متحمّسون أكثر من المواطنين العاديين لفرض وجهة نظرهم. وعدمُ تماثل الحماس هذا يلعب دورا حاسما في انتشار سرعة التصديق، إذ أن عددا قليلا من المتحمسين يمكن أن يجد لآرائه صدى داخل الإنترنت أكثر ممّا في الحياة الاجتماعية. لأن الإنترنت كما يقول ديمقراطية عجيبة، فهو يسمح لبعض مستعمليه بالتصويت ألف مرة، فيما لا يصوّت غيره أبدا. ولما كان المؤمنون بنظرية المؤامرة يصوّتون بانتظام، فالكفة في صالحهم على الدوام.
وبما أن هذه السوق المعرفية تسمح لأيّ كان بعرض خبر أو معلومة في الفضاء العام، فقد خلقت تنافسا مطردا تتسابق فيه الأطراف لتقديم الجديد، وزادت في سرعة انتشار المعلومات غير المنتخبة، ما ينعش إمبراطورية المعتقدات، إذ صارت أساطير المؤامرة تظهر سويعات فقط بعد وقوع الأحداث. وما يمنحه الإنترنت لتلك الميثولوجيات التآمرية هو زمن تخمر وحضانة محدود، ما يجعل عدد المواضيع التي يمكن أن تثير معتقداتٍ وإشاعاتٍ ونظرياتِ مؤامرةٍ أكبر، ويزيد بصفة آلية كمية المعتقدات التي تشغل الفضاء الاجتماعي.
لقد عرفت أساطير التآمر المعاصرة كيف تنمّي الإمكانات التي تقدمها تكنولوجيات الاتصال الحديثة لتضاعف انتشارها، مستغلة انخرام سوق المعلومات. وصرنا نرى هيمنة أفكار خاطئة ورواجها في شتى الأوساط كحقيقة لا تقبل الجدل، لأنها ما عادت تجد “رجال جمارك” يراقبون الحدود. رغم أنها تقوم على ثنائية مانوية، وعلى ما يسميه المتخصصون “انحراف قدرة الإنسان على الفعل في العالم”. فالأحداث الكبرى في رأي المؤمنين بنظرية المؤامرة وراءها بالضرورة أسباب كبرى، وما يتجلّى على السطح تتخذ قراراته في الخفاء قوى غيبية، وتحرّك خيوطه أياد مجهولة. وما زال ثمة من يعتقد إلى اليوم أن بيرل هاربر ذريعة أميركية لمحاربة اليابان، وأن الاتحاد الأوروبي صنيعة الولايات المتحدة، وأن فالتر هالشتاين، أحد الآباء المؤسسين لأوروبا، كان رجل قانون كلفه هتلر بتصور “أوروبا جديدة” مع موسوليني..
يقول جيرالد برونر “إن ديمقراطية السذّج أحد تحديات عصرنا الكبرى، وليس لنا من حلّ لمواجهتها إلا بإعادة الاعتبار إلى العقلانية، كأساس لكل ديمقراطية”. غير أن دان كاهان، أستاذ علم النفس بجامعة ييل الأميركية يذهب مذهبا آخر، ففي رأيه أن المشكل ليس لأن الناس يفتقرون إلى العقلانية والمعرفة، بل لأنهم يستعملون العقل لتأكيد موقعهم داخل المجموعة. وكلما كانوا أذكياء كانوا أقدر على إقامة الحجة لصالح موقفهم، أي أن الذكاء عندهم يصلح قبل كل شيء لتدعيم الأفكار المسبقة. وهذا معناه أن المشكل ليس بالسهولة التي نتصور، وأنه باقٍ ما بقي في الكون وجود بشري.
وصفوة القول إن من يرتابون من السلطات يؤمنون بالمؤامرة بسهولة، رغم مستواهم التعليمي. فهم إما يشعرون بالعجز سياسيا إزاء العولمة، أو هم لا يعرفون من يتخذ القرار فعلا، علاوة على شعورهم بعدم الرضى عن الحياة التي يحيونها، وعدم قدرتهم على تغييرها نحو الأفضل، في ظل كساد اقتصادي مستحكم وأزمة اجتماعية تستعصي على الحل.
....
كاتب من تونس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.