التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    فلسطين.. مدفعية الاحتلال تكثف قصفها وسط جباليا بالتزامن مع نسف مباني سكنية شمالي غزة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    المستشار القانوني للزمالك يتحدث عن.. التظلم على سحب أرض أكتوبر.. وأنباء التحقيق مع إدارة النادي    بهدف رويز.. باريس سان جيرمان ينجو من فخ أنجيه في الدوري الفرنسي    مواعيد مباريات دوري المحترفين المصري اليوم السبت    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    ويجز يشعل حماس جمهور حفله في العلمين الجديدة بأغنيتي "الأيام" و"الدنيا إيه"    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    5 تصريحات جريئة ل محمد عطية: كشف تعرضه للضرب من حبيبة سابقة ويتمنى عقوبة «مؤلمة» للمتحرشين    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



راهن الشعر العربي .. المأزق ومحاولات التجاوزات الواهنة
نشر في صوت البلد يوم 23 - 04 - 2017

أضحى اليوم سؤال الوجود الشعري من الأسئلة المقلقة التي تطرح نفسها أمام التجارب الشعرية الجديدة، ومدى راهنيتها وإمكاناتها الجمالية، التي يمكن أن تشكل أفقًا آخر في مسير الشعر العربي. لا يمكن أن ننكر أن المشهد الشعري العربي راكم مؤخرًا منجزًا شعريا لافتًا، من حيث قوة الأصوات الجديدة وخصوصيتها في اجتراح شعرية مغايرة، وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن ننكر أن محدودية متخيلها الذي لا يتجاوز ما صاغه جماليا شعراء الريادة، تدعو إلى التفكير في هذا الراهن الشعري، في ضوء علاقته بالجيل الجديد، حتى إن كانت التسمية مزعجة. فيمكننا أن نعتمدها كتصنيف معياري للبحث عن منطقة ما داخل هذا الشعر، وإذا كان الحديث هنا يهمنا أن نربطه بإحدى أهم قلاع الشعر في العالم العربي، ألا وهي بيروت، وهاجس التحول والنكوص والارتدادات تبعًا للرؤى الجمالية التي تتميز بها شعريتها الجديدة، وعما إذا كانت ما تزال حصنًا منيعًا شعرياً. هذا الأمر يدفعنا إلى أن نتساءل الراهن الشعري وإمكاناته، وهل حالة الانحسار هذه مردها أفول الخيال في واقع يحرض على الخراب والدمار والعنف؟ وبالموازاة لماذا عندما يهاجر الشعر في أجناس أدبية يصبح جميلًا في منظور التلقي الجديد؟ ألهذا السبب يهاجر الشعراء قلعتهم المنيعة؟ أم لأن سحر الرواية أبلغ وأشمل أمام هواجس الثروة والشهرة؟ إلامَ يحتاج الشعر اليوم ليستعيد مجده من جديد؟
في هذا التحقيق نستعرض آراء الشعراء .. عباس بيضون ومحمد علي شمس الدين وجودت فخر الدين.
يرى عباس بيضون أن تراجع الشعر لأسباب ليست فيه. فجميعنا نعرف أن هذه الحال ليست مقصورة علينا وإنما عالمية وشاملة. تراجع الشعر لأنه فن مركز ومكثف وبوسعنا أن نقول إنه فن استبدادي لا يستطيع القارئ أن يتدخل فيه. فهو بكل نقطة أو فاصلة أو كلمة مفروض على القارئ، وليس في وسع القارئ إلا أن يمتثل لما يقرأه.
تراجع الشعر وربما بات ينحسر لأنه فن خرج عن دوره، فدور الشعر في القديم هو الإيجاب والمديح والتحريض على الحياة والتغني بها. هذا الدور لم يعد يرضي الفن إجمالا، فمع ظهور الرواية الحديثة أصبح الفن سلبياً، وغدا نقدياً وصار موضوعه الأصلي هو التهافت والانحطاط، ولحق الشعر الرواية في هذا المجال، فلم يعد محرضًا على الحب وعلى الجمال، بل غدا مثله مثل النثر فناً سلبياً لم يعد الشعر بذلك مغويًا. ففي عصر السرعة، لا طاقة للناس على احتمال سلبية الشعر وتركيزه وكثافته. لذلك أظن أن الشعر في طريقه إلى الانزواء إن لم نقل الانقراض. طبعًا يبقى هناك شعر الأغنية الذي يواصل فيه الشعر دوره القديم .. التحريض على الحياة والتغني بها، يظل شعر الأغنية حاضرًا، في حين أن الشعر الصافي أمام مأزق لا أعرف كيف السبيل إلى تجاوزه.
الشعر والواقع الثقافي
ويواصل بيضون قائلاً: لا نستطيع أن نعمم فنتكلم عن لغة الشعر بشكل عام فلكل شاعر لغته، وهذه اللغة لا تتصحر وإنما تنتقل أكثر فأكثر إلى المدينة. أظن أن الشعر يصبح مدينياً أكثر فأكثر: مدينياً في لغته وفي موضوعاته وفي توجهاته، وإذا وجدت شعرًا متصحرًا، أي شعرًا خارجًا من القاموس، أو شعرًا يبني على القاموس، فهذه شعرية لم تعد في أوانها وقد انقضى وقتها. إن شعرية القاموس أو شعرية الفرق في اللغة واستحضارها من أوابدها، لم تعد حاضرة، الشعراء الآن على ما أظن هم لا يجدون شعرهم في الشعر وحده، وإنما يبحثون عنه في تنوعات الحياة وتفرعاتها. الشعر لم يعد يجتذب الكتاب فهو لا يجد ناشرًا بسهولة، ولا يجد قارئًا بسهولة. وأظن امتناع الدور عن نشره، وامتناع القراء من شراء كتبه أمورا تجعله أقل إغراء للقارئ أو الكاتب مما كان عليه. في يوم قد يستطيع الشعر أن يخرج من ورطته لكن بما لا نعرفه. أظن أننا لا نستطيع بالتأكيد بخيارات إرادية أو ذاتية أو اصطناعية أن نجد حلولًا، فالمسألة ليست مسألة شخصية إنها بالدرجة الأولى مسألة تاريخية وثقافية لا أظن أننا نملك مقترحات من أي نوع لإنقاذ الشعر، وإذا كان الشعر سيخرج من هذه الأزمة، فسيكون عن طريق لا نستطيع أن نقترحها الآن، وقد تكون تنازلًا كبيرًا عن بنيته وعن دوره.
ظلال ما بعد الحداثة
ويقول الشاعر محمد علي شمس الدين .. أنا لا أعرف الجواب عن هذا السؤال، بل أقول بالمرحلة الشعرية، إن المرحلة الشعرية التي يمر فيها الشعر العالمي والعربي أيضًا منذ مدة طويلة، اصطلح عليها الغرب بتسمية ما بعد الحداثة، وعلامات هذه المرحلة في الفنون عامة، من عمارة ورسم ومسرح ورواية وشعر، وصولا إلى الموسيقى والغناء والسينما، هي التشظي أي تفسخ البنية الفنية للنص الإبداعي، ونبذ المألوف واقتحام كل ما هو مهمل ولا يجمع بالمنطق القديم أو الحديث في جسد نص ما بعد الحداثة. والقصيدة العربية على العموم هي في هذه المرحلة، فصارت السمة الغالبة للنصوص الشعرية، هي تفتيت ما هو موحد، وإطلاق صرخات تمثلت بشطور فيسبوكية إلى حد ما. هل هذا بنتيجة الحروب؟ لعل الحروب التي خاضها العالم وخطوط أوروبا وأمريكا، أقصد الحروب العالمية دمرت العقل القديم.
ويضيف شمس الدين .. نحن هنا عربا وشرقيين لم نكن ولا مرة مفصولين عن هذه الكينونة العالمية الشاملة. إن التشظي للحظة الشعرية، بما في ذلك كسر الموروث بل الاستهانة به، جاء من ناحية هذه المرحلة التاريخية. فبدلًا من أن يكون هناك انتباه شعري عام لضرورة النهضة، إذا بالنهضة تنتحر، وإذا بالتربية تحتاج إلى نفوس الشعراء الأساسيين، من خمسينيات القرن الفائت حتى الآن. إن مطر السياب نصفه جحيم إذ يقول: «كالحب كالأطفال كالموتى هذا المطر». إذن هو مطر كالموتى، مطر يحمل الموت وليس الخصب. كما أنه في القصيدة نفسها «أنشودة المطر» يقول: أصيح بالخليج يا خليج، يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى، فيرجع الصدى كأنه النشيج، يا خليج يا واهب المحار والردى»، أي ضاع اللؤلؤ. معناه أن الأمل النهضوي كان مريبًا في نفس الشاعر، يصرخ الماغوط: وطني. أمل دنقل يقول: «ماذا تلدين الآن طفلًا أو جريمة». وكذلك ديواني الأخير بعنوان «النازلون على الريح» وما قبله «اليأس من الوردة».
الحال اللبناني
وعن الشعر اللبناني يذكر أن .. لبنان عادة، بسبب الحرية والفوضى وضعف الدولة المركزية والتسلط عليها ومغامرات الاحتكاك بالعالم والغرب ذهابًا وإيابًا، كان حقلا للتجريب الشعري وما زال. لا ألاحظ الآن أصواتًا شابة تشكل علامات شعرية، ربما هي بحاجة إلى وقت. ثمة شذرات شعرية لكن ما أسميه الكيان الشعري يسير نحو الاضمحلال. الماغوط في ثلاثة دواوين فقط هو كيان شعري، لكن بعده لا أشاهد سوى تشظيات. ليس ثمة من ركن شعري جديد، إنما علامات هنا وهناك لا تكاد تظهر حتى تختفي. هناك حالة شعرية عامة تمتد على امتداد اللغة العربية وتحد أصداءها، من ليبيا للجزيرة العربية حتى بيروت. فالعالم تخاطر بالإشارات العدمية هذه حالة، لكن أنا لا أجد شخصًا شعرياً.
أما المقارنة بين الشعر والرواية فتعتبر ذات أساس ضعيف، لا يقارن الشعر إلا بنفسه. الشعر فن عريق ولا يفهم إلا على ضوء التاريخ والفلسفة. ولا أدري لماذا تتم المقارنة بين الرواية والشعر: الرواية فن حديث وجميل لكن في الحقيقة الشعرية تختلف عن الحقيقة الروائية، فالشعر يقول حقيقته خطفًا كالبرق من خلال اللغة، ولا يسرد ولا يثرثر. أما الحقيقة الروائية، فتقال من خلال الحكايات التي لا تحتملها القصيدة. هذه حقيقة وتلك حقيقة ولا مجال للمباهاة أن أقول مثلًا الرواية أقوى من الشعر أو إنها أكثر حضورًا.
في اعتقادي أن للشعر مجراه الدائم وصيرورته ومجده وحضوره الدائم، لأن الشعراء الذين حصدوا نوبل كثيرون جدا آخرهم شاعر غنائي هو بوب ديلان قبله حاز نوبل روائي فرنسي موديانو حصل على نوبل للآداب 2014 قال في خطابه إنه حاول الشعر فلم يستطع فكتب الرواية، وإن الشعر هو الذروة ويقصد الشعرية لكل الفنون.
ويرى الشاعر جودت فخر الدين .. أن شِعرنا محاصَر. شأنه في هذه الأيام شأن الثقافة العربية بوجه عام. ولكنه يقاوم، على الرغم من الظروف الصعبة التي تحاصره. هنالك كتابات شعرية جيدة، وإنْ كانت قليلةً جداً، تظهر بين الحين والآخَر. وسوف يظل الشعرُ معاكساً للظروف التي تعاكسُهُ، مهما انفض الناسُ عنه، ومهما تمادَوْا في جنوحهم نحو المستويات الضحْلة للثقافة. الدمار الذي يتهددنا من كل جانب، والعنف الذي يسودُ مجالات حياتنا، لهما أبعد الأثر في جعل الثقافة عندنا هشةً ومهددة. ومن الطبيعي أن يكون الشعر في دائرة الأخطار التي تواجهها الثقافة بمختلف مظاهرها. ومن أخطر ما نعانيه اليومَ تراجُعُ اللغة العربية في الاستعمال، أي لدى الناطقين بها الذين هم أصحابها والمؤتمنون عليها ائتمانَهم على حاضرهم ومستقبلهم. لغتُنا العربيةُ هي الأخرى محاصَرة. وعليْنا أنْ نقاوم بالشعر خصوصاً، وبغيره، من أجل النهوض بلغتنا، وباستعادتها قويةً في مؤسساتنا المختلفة، وبالأخص في مؤسسات التعليم والإعلام عندنا.
بيروت ودورها المفقود
ويرى فخر الدين أن بيروت فقَدَتْ الكثير من مكانتها ودورها اللذين كانا لها في مراحل سابقة، بسبب الحروب والأزمات التي تعاقبت عليها ابتداءً من منتصف السبعينيات من القرن الماضي. ولكنها لاتزال، بين العواصم العربية، مساحةً فريدةً للتلاقي بين مختلف الاتجاهات الثقافية، في الفكر والأدب وغيرهما. لم تنجُ بيروت من الآثار السلبية للتناقضات والنزاعات المذهبية التي تعصف بالمنطقة العربية كلها، إلا أن بيروت لديها ما ليس لغيرها من حيوية ٍومن قدرة عجيبة ٍعلى التكيف مع الظروف مهما تكنْ قاسيةً. إن بيروت اليومَ هي كالشعر محاصَرة، ولكنها، مثله، تعرف كيف تصمد. وتعرف كيف تظل حيةً مُشِعةً داخل الحصار.
يمكن القول إن النشاط الثقافي اليومَ في بيروت كثيرٌ من حيث الكمية، إلا أنه قليلٌ من حيث النوعية. وهذه الظاهرة تتصلُ بغيرها من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية في بلد ٍيظل في مهب المشاكل من كل نوع. مع ذلك، لا تزال في بيروت تجاربُ ومغامراتٌ شعريةٌ، وإنْ قليلة، تفتح أبواباً على المجهول.
ويستكمل قائلاً .. الشعر يوجد في جميع الأجناس الفنية، بنسب ٍمعينة وبأشكال مختلفة. والشعر الذي أقصده هنا يختلف عن الكتابة الشعرية. فكلاهما، الشعر وكتابة الشعر، له مفاهيمه الخاصة. أما سؤالك فيشير إلى كتاب الشعر الذين راحوا يكتبون الرواية. وهي ظاهرة ليست بالجديدة، فقد عُرفت من قبْل لدى كتاب ٍمشهورين جداً، في الغرب خصوصاً.
ولكنها اليومَ تتفشى عندنا، ربما بسبب ٍمن تناقص قراء الشعر وتقدم الرواية على الشعر في سوق البيع والشراء. المهم في نظري هو جودةُ الكتابة، بصرْف النظر عما يحيط بها من اعتبارات تتعلقُ بالرواج أو الربح أو الشهرة. في كل وقت ٍكان الشعر ينهض على مواهبَ وإمكانات ٍفردية. عسى أن تُقيضَ للمواهب والإمكانات عندنا مناخاتٌ وظروفٌ عامةٌ أفضل من هذه التي نعيشها اليوم، والتي بلغتْ درجةً كبيرةً جداً من التدهور والتعقيد.
أضحى اليوم سؤال الوجود الشعري من الأسئلة المقلقة التي تطرح نفسها أمام التجارب الشعرية الجديدة، ومدى راهنيتها وإمكاناتها الجمالية، التي يمكن أن تشكل أفقًا آخر في مسير الشعر العربي. لا يمكن أن ننكر أن المشهد الشعري العربي راكم مؤخرًا منجزًا شعريا لافتًا، من حيث قوة الأصوات الجديدة وخصوصيتها في اجتراح شعرية مغايرة، وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن ننكر أن محدودية متخيلها الذي لا يتجاوز ما صاغه جماليا شعراء الريادة، تدعو إلى التفكير في هذا الراهن الشعري، في ضوء علاقته بالجيل الجديد، حتى إن كانت التسمية مزعجة. فيمكننا أن نعتمدها كتصنيف معياري للبحث عن منطقة ما داخل هذا الشعر، وإذا كان الحديث هنا يهمنا أن نربطه بإحدى أهم قلاع الشعر في العالم العربي، ألا وهي بيروت، وهاجس التحول والنكوص والارتدادات تبعًا للرؤى الجمالية التي تتميز بها شعريتها الجديدة، وعما إذا كانت ما تزال حصنًا منيعًا شعرياً. هذا الأمر يدفعنا إلى أن نتساءل الراهن الشعري وإمكاناته، وهل حالة الانحسار هذه مردها أفول الخيال في واقع يحرض على الخراب والدمار والعنف؟ وبالموازاة لماذا عندما يهاجر الشعر في أجناس أدبية يصبح جميلًا في منظور التلقي الجديد؟ ألهذا السبب يهاجر الشعراء قلعتهم المنيعة؟ أم لأن سحر الرواية أبلغ وأشمل أمام هواجس الثروة والشهرة؟ إلامَ يحتاج الشعر اليوم ليستعيد مجده من جديد؟
في هذا التحقيق نستعرض آراء الشعراء .. عباس بيضون ومحمد علي شمس الدين وجودت فخر الدين.
يرى عباس بيضون أن تراجع الشعر لأسباب ليست فيه. فجميعنا نعرف أن هذه الحال ليست مقصورة علينا وإنما عالمية وشاملة. تراجع الشعر لأنه فن مركز ومكثف وبوسعنا أن نقول إنه فن استبدادي لا يستطيع القارئ أن يتدخل فيه. فهو بكل نقطة أو فاصلة أو كلمة مفروض على القارئ، وليس في وسع القارئ إلا أن يمتثل لما يقرأه.
تراجع الشعر وربما بات ينحسر لأنه فن خرج عن دوره، فدور الشعر في القديم هو الإيجاب والمديح والتحريض على الحياة والتغني بها. هذا الدور لم يعد يرضي الفن إجمالا، فمع ظهور الرواية الحديثة أصبح الفن سلبياً، وغدا نقدياً وصار موضوعه الأصلي هو التهافت والانحطاط، ولحق الشعر الرواية في هذا المجال، فلم يعد محرضًا على الحب وعلى الجمال، بل غدا مثله مثل النثر فناً سلبياً لم يعد الشعر بذلك مغويًا. ففي عصر السرعة، لا طاقة للناس على احتمال سلبية الشعر وتركيزه وكثافته. لذلك أظن أن الشعر في طريقه إلى الانزواء إن لم نقل الانقراض. طبعًا يبقى هناك شعر الأغنية الذي يواصل فيه الشعر دوره القديم .. التحريض على الحياة والتغني بها، يظل شعر الأغنية حاضرًا، في حين أن الشعر الصافي أمام مأزق لا أعرف كيف السبيل إلى تجاوزه.
الشعر والواقع الثقافي
ويواصل بيضون قائلاً: لا نستطيع أن نعمم فنتكلم عن لغة الشعر بشكل عام فلكل شاعر لغته، وهذه اللغة لا تتصحر وإنما تنتقل أكثر فأكثر إلى المدينة. أظن أن الشعر يصبح مدينياً أكثر فأكثر: مدينياً في لغته وفي موضوعاته وفي توجهاته، وإذا وجدت شعرًا متصحرًا، أي شعرًا خارجًا من القاموس، أو شعرًا يبني على القاموس، فهذه شعرية لم تعد في أوانها وقد انقضى وقتها. إن شعرية القاموس أو شعرية الفرق في اللغة واستحضارها من أوابدها، لم تعد حاضرة، الشعراء الآن على ما أظن هم لا يجدون شعرهم في الشعر وحده، وإنما يبحثون عنه في تنوعات الحياة وتفرعاتها. الشعر لم يعد يجتذب الكتاب فهو لا يجد ناشرًا بسهولة، ولا يجد قارئًا بسهولة. وأظن امتناع الدور عن نشره، وامتناع القراء من شراء كتبه أمورا تجعله أقل إغراء للقارئ أو الكاتب مما كان عليه. في يوم قد يستطيع الشعر أن يخرج من ورطته لكن بما لا نعرفه. أظن أننا لا نستطيع بالتأكيد بخيارات إرادية أو ذاتية أو اصطناعية أن نجد حلولًا، فالمسألة ليست مسألة شخصية إنها بالدرجة الأولى مسألة تاريخية وثقافية لا أظن أننا نملك مقترحات من أي نوع لإنقاذ الشعر، وإذا كان الشعر سيخرج من هذه الأزمة، فسيكون عن طريق لا نستطيع أن نقترحها الآن، وقد تكون تنازلًا كبيرًا عن بنيته وعن دوره.
ظلال ما بعد الحداثة
ويقول الشاعر محمد علي شمس الدين .. أنا لا أعرف الجواب عن هذا السؤال، بل أقول بالمرحلة الشعرية، إن المرحلة الشعرية التي يمر فيها الشعر العالمي والعربي أيضًا منذ مدة طويلة، اصطلح عليها الغرب بتسمية ما بعد الحداثة، وعلامات هذه المرحلة في الفنون عامة، من عمارة ورسم ومسرح ورواية وشعر، وصولا إلى الموسيقى والغناء والسينما، هي التشظي أي تفسخ البنية الفنية للنص الإبداعي، ونبذ المألوف واقتحام كل ما هو مهمل ولا يجمع بالمنطق القديم أو الحديث في جسد نص ما بعد الحداثة. والقصيدة العربية على العموم هي في هذه المرحلة، فصارت السمة الغالبة للنصوص الشعرية، هي تفتيت ما هو موحد، وإطلاق صرخات تمثلت بشطور فيسبوكية إلى حد ما. هل هذا بنتيجة الحروب؟ لعل الحروب التي خاضها العالم وخطوط أوروبا وأمريكا، أقصد الحروب العالمية دمرت العقل القديم.
ويضيف شمس الدين .. نحن هنا عربا وشرقيين لم نكن ولا مرة مفصولين عن هذه الكينونة العالمية الشاملة. إن التشظي للحظة الشعرية، بما في ذلك كسر الموروث بل الاستهانة به، جاء من ناحية هذه المرحلة التاريخية. فبدلًا من أن يكون هناك انتباه شعري عام لضرورة النهضة، إذا بالنهضة تنتحر، وإذا بالتربية تحتاج إلى نفوس الشعراء الأساسيين، من خمسينيات القرن الفائت حتى الآن. إن مطر السياب نصفه جحيم إذ يقول: «كالحب كالأطفال كالموتى هذا المطر». إذن هو مطر كالموتى، مطر يحمل الموت وليس الخصب. كما أنه في القصيدة نفسها «أنشودة المطر» يقول: أصيح بالخليج يا خليج، يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى، فيرجع الصدى كأنه النشيج، يا خليج يا واهب المحار والردى»، أي ضاع اللؤلؤ. معناه أن الأمل النهضوي كان مريبًا في نفس الشاعر، يصرخ الماغوط: وطني. أمل دنقل يقول: «ماذا تلدين الآن طفلًا أو جريمة». وكذلك ديواني الأخير بعنوان «النازلون على الريح» وما قبله «اليأس من الوردة».
الحال اللبناني
وعن الشعر اللبناني يذكر أن .. لبنان عادة، بسبب الحرية والفوضى وضعف الدولة المركزية والتسلط عليها ومغامرات الاحتكاك بالعالم والغرب ذهابًا وإيابًا، كان حقلا للتجريب الشعري وما زال. لا ألاحظ الآن أصواتًا شابة تشكل علامات شعرية، ربما هي بحاجة إلى وقت. ثمة شذرات شعرية لكن ما أسميه الكيان الشعري يسير نحو الاضمحلال. الماغوط في ثلاثة دواوين فقط هو كيان شعري، لكن بعده لا أشاهد سوى تشظيات. ليس ثمة من ركن شعري جديد، إنما علامات هنا وهناك لا تكاد تظهر حتى تختفي. هناك حالة شعرية عامة تمتد على امتداد اللغة العربية وتحد أصداءها، من ليبيا للجزيرة العربية حتى بيروت. فالعالم تخاطر بالإشارات العدمية هذه حالة، لكن أنا لا أجد شخصًا شعرياً.
أما المقارنة بين الشعر والرواية فتعتبر ذات أساس ضعيف، لا يقارن الشعر إلا بنفسه. الشعر فن عريق ولا يفهم إلا على ضوء التاريخ والفلسفة. ولا أدري لماذا تتم المقارنة بين الرواية والشعر: الرواية فن حديث وجميل لكن في الحقيقة الشعرية تختلف عن الحقيقة الروائية، فالشعر يقول حقيقته خطفًا كالبرق من خلال اللغة، ولا يسرد ولا يثرثر. أما الحقيقة الروائية، فتقال من خلال الحكايات التي لا تحتملها القصيدة. هذه حقيقة وتلك حقيقة ولا مجال للمباهاة أن أقول مثلًا الرواية أقوى من الشعر أو إنها أكثر حضورًا.
في اعتقادي أن للشعر مجراه الدائم وصيرورته ومجده وحضوره الدائم، لأن الشعراء الذين حصدوا نوبل كثيرون جدا آخرهم شاعر غنائي هو بوب ديلان قبله حاز نوبل روائي فرنسي موديانو حصل على نوبل للآداب 2014 قال في خطابه إنه حاول الشعر فلم يستطع فكتب الرواية، وإن الشعر هو الذروة ويقصد الشعرية لكل الفنون.
ويرى الشاعر جودت فخر الدين .. أن شِعرنا محاصَر. شأنه في هذه الأيام شأن الثقافة العربية بوجه عام. ولكنه يقاوم، على الرغم من الظروف الصعبة التي تحاصره. هنالك كتابات شعرية جيدة، وإنْ كانت قليلةً جداً، تظهر بين الحين والآخَر. وسوف يظل الشعرُ معاكساً للظروف التي تعاكسُهُ، مهما انفض الناسُ عنه، ومهما تمادَوْا في جنوحهم نحو المستويات الضحْلة للثقافة. الدمار الذي يتهددنا من كل جانب، والعنف الذي يسودُ مجالات حياتنا، لهما أبعد الأثر في جعل الثقافة عندنا هشةً ومهددة. ومن الطبيعي أن يكون الشعر في دائرة الأخطار التي تواجهها الثقافة بمختلف مظاهرها. ومن أخطر ما نعانيه اليومَ تراجُعُ اللغة العربية في الاستعمال، أي لدى الناطقين بها الذين هم أصحابها والمؤتمنون عليها ائتمانَهم على حاضرهم ومستقبلهم. لغتُنا العربيةُ هي الأخرى محاصَرة. وعليْنا أنْ نقاوم بالشعر خصوصاً، وبغيره، من أجل النهوض بلغتنا، وباستعادتها قويةً في مؤسساتنا المختلفة، وبالأخص في مؤسسات التعليم والإعلام عندنا.
بيروت ودورها المفقود
ويرى فخر الدين أن بيروت فقَدَتْ الكثير من مكانتها ودورها اللذين كانا لها في مراحل سابقة، بسبب الحروب والأزمات التي تعاقبت عليها ابتداءً من منتصف السبعينيات من القرن الماضي. ولكنها لاتزال، بين العواصم العربية، مساحةً فريدةً للتلاقي بين مختلف الاتجاهات الثقافية، في الفكر والأدب وغيرهما. لم تنجُ بيروت من الآثار السلبية للتناقضات والنزاعات المذهبية التي تعصف بالمنطقة العربية كلها، إلا أن بيروت لديها ما ليس لغيرها من حيوية ٍومن قدرة عجيبة ٍعلى التكيف مع الظروف مهما تكنْ قاسيةً. إن بيروت اليومَ هي كالشعر محاصَرة، ولكنها، مثله، تعرف كيف تصمد. وتعرف كيف تظل حيةً مُشِعةً داخل الحصار.
يمكن القول إن النشاط الثقافي اليومَ في بيروت كثيرٌ من حيث الكمية، إلا أنه قليلٌ من حيث النوعية. وهذه الظاهرة تتصلُ بغيرها من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية في بلد ٍيظل في مهب المشاكل من كل نوع. مع ذلك، لا تزال في بيروت تجاربُ ومغامراتٌ شعريةٌ، وإنْ قليلة، تفتح أبواباً على المجهول.
ويستكمل قائلاً .. الشعر يوجد في جميع الأجناس الفنية، بنسب ٍمعينة وبأشكال مختلفة. والشعر الذي أقصده هنا يختلف عن الكتابة الشعرية. فكلاهما، الشعر وكتابة الشعر، له مفاهيمه الخاصة. أما سؤالك فيشير إلى كتاب الشعر الذين راحوا يكتبون الرواية. وهي ظاهرة ليست بالجديدة، فقد عُرفت من قبْل لدى كتاب ٍمشهورين جداً، في الغرب خصوصاً.
ولكنها اليومَ تتفشى عندنا، ربما بسبب ٍمن تناقص قراء الشعر وتقدم الرواية على الشعر في سوق البيع والشراء. المهم في نظري هو جودةُ الكتابة، بصرْف النظر عما يحيط بها من اعتبارات تتعلقُ بالرواج أو الربح أو الشهرة. في كل وقت ٍكان الشعر ينهض على مواهبَ وإمكانات ٍفردية. عسى أن تُقيضَ للمواهب والإمكانات عندنا مناخاتٌ وظروفٌ عامةٌ أفضل من هذه التي نعيشها اليوم، والتي بلغتْ درجةً كبيرةً جداً من التدهور والتعقيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.