كان يوسف إدريس يري أن الرجل، أي رجل، بسبب تاريخه الاجتماعي الطويل قد تدرب كفاية لينقسم عالمه الداخلي إلي قارات ودواليب وأبراج وأوبئة وبساتين، وأنه إذا فسد منه درج أو دولاب، أو بستان، أمكنه أن يكون صالحا في بقية أركانه الأخري، أما المرأة وبسبب تاريخها الاجتماعي المفقود، فقد ظلت قارة واحدة إذا فسد منها عضو فسدت كلها، هكذا كانت سعاد ذفيما أظن- بطلة العيب رواية يوسف إدريس، وهكذا صارت القصيدة، -فيما أظن- بطلة العيب رواية دار النهضة العربية ببيروت، فأنا مثل الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، أكاد أري أن كل ما يؤنث لا يعول عليه، وأكاد أري دار النهضة العربية دارا مؤنثة بأصحابها ومستشاريها والوصيفات والخادمات، وكما أخشي علي كل امرأة أخشي علي الدار، ففي الحوانيت، وفي مقار الصحف، وفي منازل الأصدقاء، وعلي الأرصفة، وفي الكوابيس، تفاجئني أكوام كتب الشعر التي تصدرها هذه الدار، أذكر أنني قبل بداية الإصدار قابلت السيدة صاحبة الدار في الدارالبيضاء بالمغرب، وأقنعتني بمشروعها الشعري الذي تريد به أن تخرج دارها من قوقعة نشر الكتب الجامعية إلي نشاط مضاف تدخل به المجتمع الثقافي الذي يخايلها، وقد أقنعت صديقي الشاعر المغربي محمد بنيس وكان مترددا حذرا، بل أقرب إلي الاعتذار، لأنني حسبت أن نيتها تعمل علي اختيار ما ستنشره بدقة وعناية وتحت عناوين محددة ومحدودة مستعينة بمستشارين ذكرت أسماء بعضهم مثل الشاعرين محمد علي شمس الدين وبول شاؤول، كان يعمل لديها ويرافقها في هذا اللقاء شاعر فلسطيني شاب اسمه سيمون، عموما حسبت أن نواياها ومستشاريها وطيبتها أسباب كافية للموافقة، وقدمت لها ديوانا ومثلي فعل محمد بنيس، فيما بعد خلعت الرياح باب مشروعها وهدمت جدرانه وأصبح مشاعا، فبدأت أري الدار مثل ميدوزا وهي امرأة أسطورية، كنت أراها منكوشة الشعر، أو منزوعة الشعر، أو شعرها من أسلاك البلاستيك، ظننت أن صاحبة الدار ولأنها طيبة جدا تريد للناس الراحة التامة، والشعر تعب وإجهاد، فرأت إشاعة الرديء من الشعر باعتباره راحة تامة، كانت مستشارية محمد علي شمس الدين وبول شاؤول قد انقضت، وأتي بعدهم مستشارون بعضهم مازال حتي الآن يغذي تلك الرغبة الطيبة لصاحبة الدار، ويدفع إلي النشر بخواطر أصدقائه علي أنها شعر مريح، ومثل ملائكة طيبين زعموا جميعا أن سلسلة الشعر ليست لكسر الخواطر، إنها للجبر، لجبر الخواطر، وبنوا للينا كريدية الملاكة الساذجة وصاحبة الدار عدة مقامات ومزارات في بيروت وفي القاهرة وفي بنغازي وفي سيريلانكا وفي جاكرتا بأندونيسا إلخ إلخ، ودعوا الناس إلي زيارتها لأنها مبروكة وصاحبة أموال وسخية تذهب بالشعر إلي قاعه البعيد، وإلي آخر قاعه، لعل الشعر يبدأ بعدها رحلته الجديدة علي بياض، وأعلنوا أنها ليست أقل من فاروق جويدة ومني الشاذلي وعلاء الأسواني، والمؤذن في المسجد المجاور لبيتنا، فكلهم أنشطتهم العلنية ليست أنشطتهم الحقة، إنها بارافان يخفي الأنشطة الحقة ثم قالوا باستعبار وثقة: الكل باطل وقبض ريح، ومصمصوا شفاههم. يوميات 7 فبراير 2010 قالت لي صديقتي السيدة نون: ذات مرة استخدموا ما بعد الحداثة في تبرير الركاكة، ونسوا أن ما بعد الحداثة لا تعرف المسلمات ولا القيم الواجبة اللازمة، لا يوجد فيما بعد الحداثة، قانون لازم، لا يوجد باترون واحد، أو نموذج واحد، والاحتماء باليومي والمعيش والتفاصيل الصغيرة محض تقليعة قديمة، لم تعد ما بعد الحداثة تزعمها لنفسها، يمكنك أن تكتب عن كل شيء، عن أي شيء، وبكل طريقة، وبكل شكل، عن اليومي، أو غير اليومي، عن القضايا الكبري، أو الصغري، عن جسد الإنسان أو روحه، عن تساميه أو عن غريزته، عن الشاعر في عليائه، أو الشاعر في حضيضه، وباللغة في عليائها، أو في حضيضها، إذا أجبرت ما بعد الحداثة أن تتحصن في شكل واحد، في باترون واحد، في لغة واحدة، فأنت تحكي خارج الصحن، عموما الأغلبية الرديئة تحكي دائما خارج الصحن. يوميات 12 يناير 2008 كأننا محاصرون بهواننا، لأننا لا نهتم إلا بالجزء الهين في كل شيء، الدين هو فكرة ورؤيا وسلوك وممارسة وطريقة نظر، تتلخص عند الأغلبية الرديئة في شكله الخارجي، ويصبح عند غلاة معتنقيه لحية وجلبابا وغطاء رأس وحجابا ونقابا، فيما تصبح الحداثة عند غلاة خصوم الدين، خلع لحية وخلع حجاب وخلع نقاب، والشعر هو فكرة ورؤيا وسلوك وممارسة وطريقة نظر، تتلخص عند الأغلبية الرديئة في شكله الخارجي، ويصبح عند غلاة محافظيه عمودا ووزنا ومجازا ومنصة ومناسبة ومدحا وبديعا ونحوا وصرفا، فيما يصبح عند غلاة محدثيه خلع عمود وخلع وزن وخلع مجاز وخلع بديع وخلع نحو وخلع صرف، المثير أنهم، أي الأغلبية الرديئة من حداثيي الدين والشعر، وهم يعنونني أكثر، المثير أنهم سيحارون ماذا سيفعلون بعد أن ينتهوا من خلع كل شيء، خاصة أنهم لم يدربوا نفوسهم وأرواحهم طوال فترات حداثتهم علي أفعال أخري سوي أفعال الخلع، السؤال الساذج هو، لماذا تتشابه المصائر في الدين والشعر؟ يقول البعض ربما لأن الأغلبية الرديئة دائما طقوسية، لا تعرف الخروج علي القالب، إلا بقالب آخر، يقول البعض، ربما لأن ما قدمناه نحن العرب ذوهذا قول متداول- للحضارة الإنسانية طوال تاريخنا لم يخرج عن هذين المجالين، فنحن قدمنا الدين إلي العالم، ونظن أننا قدمنا الشعر أيضا، نظن أننا الأمة الشاعرة، الأدهي نظن أننا الأمة الشاعرة الوحيدة. يوميات 24 أكتوبر 2007 مثلما يفعل هؤلاء، يفعل أولئك، اليسار الشعري بأجنحته الأيديولوجية، أعني بأغلبيته الرديئة، يظن أن الثورة في الشعر اسمها النثر، واليمين الشعري بأجنحته الأيديولوجية، أغني بأغلبيته الرديئة، يفعل الفعل ذاته، يفعله معكوسا، ليكتب مقالاته الصحفية الأسبوعية موزونة وملتزمة بالعروض، أحدهم يفعل ذلك بمقاله بالأهرام، وهو شاعر وزن، وأحدهم يفعل أيضا بمقاله بالأخبار وهو أيضا شاعر وزن، اليسار الشعري الأيديولوجي هو ذاته اليمين الشعري الأيديولوجي، كلاهما يقف في مكان بعيد عن الشعر، كلاهما يقف في قلب الأيديولوجيا فلا يري إلا الصواب الجامع، ولا يري إلا الخطأ الجامع، لا يري كأنه أعمي، ولا يري كأنه مبصر جدا، إنه أصغر من الأعشي، وأكبر من زرقاء اليمامة، إنه كل هؤلاء. يوميات 11 فبراير 2010 إن بعض ما يعرفه الشاعر الكائن المجرب ذكل شاعر- هو أن الفنون والآداب ومنها الشعر تختص بأن أغلبية منتجيها وأغلبية نتاجها، الشعراء والشعر مثلا، وفي كل فترة تاريخية تكون رديئة، الأغلبية دائما رديئة، هكذا كانت في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات إلخ إلخ، وهكذا تكون الآن، وأنه لا يمكن قياس حركة شعرية راهنة طبقا لهذه الأغلبية، القياس دائما يكون علي الاستثنائي الفريد منها، والاستثناء قلة يلزم مع حركة جديدة وقبل أن نحاكمها ونحكم عليها أن نكون قد قمنا بفرزها والكشف عنها، أي عن القلة الفريدة التي لا تزال محشورة داخل الكثرة الرديئة، من المهم أن ننبه إلي أن هذه الأغلبية ذات أهمية بالغة، فهي الجنود والعساكر الذين يعملون تحت إمرة الزمن الأدبي الجديد، هي ذأعني القلة - التي تحاول أن تطرد الهواء القديم في سبيل أن تشيع رائحة أنفاسها ورائحة رغبتها في التغيير، ونفورها من الأشكال المستقرة، إنها تبدو بتفانيها وإيمانها الجارف بما تقوم به، إيمانها الذي لا يتزحزح، إيمانها الأكثر رسوخا من إيمان القلة ذات الإبداع العالي، والتي كعادتها تكون ضعيفة الإيمان، هذه الأغلبية تمثل جيش الخلاص وأصحاب العقيدة، هذه الأغلبية تبدو وكأنها تجهز المسرح للأقلية المستثناة، وكأنها تمنع هذه الأقلية من الخوف والتراجع والعودة بالزمن إلي الوراء، فيما يفرض علينا أن نقيم ذات يوم نصبا تذكاريا باسم هذا الجندي المجهول الذي نسميه الأغلبية، والذي لولاه في الخمسينيات ما استطاع صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي أن يستمرا في إنتاج الشعر الجميل، ولولاه في الستينيات ما استطاع أمل دنقل وعفيفي مطر أن يكتبا ما كتباه، وهكذا، ما يجبرنا أن نظن أن هذه الأغلبية صدفة تحمي وتدافع، وبوصلة ترسم الطريق إلي العصور الجديدة، وأننا لهذا السبب لابد أن نتوقف عن إهانتها والنيل منها، وأن نعترف بسببها أن شاعرا جديدا رديئا ربما سيكون أكثر أهمية من شاعر جميل محافظ تقليدي، إن الشاعر التاريخي بلغة صلاح عبد الصبور أكثر خطورة أحيانا من الشاعر الكبير، لا تنس الفارق بين الأهمية والشعرية، والأغلبية الرديئة هي أغلبية الشعراء التاريخيين النكرات والمجهولين، ومع ذلك لا مفر من التأكيد علي أن للأغلبية أحيانا وجها آخر يجبر الكاتب والشاعر المنوط به التقدم والحداثة أن يكون معاديا لها وعاملا في صفوف عمّالها. أخبار الأدب 01/6/8002 الشهيق والزفير 2002 .