الديهى يكشف تفاصيل عن "خلية هولندا "الإرهابية ويؤكد: شباب مصر الوطني تصدى بكل شجاعة لمظاهرة الإخوان    محافظ الوادي الجديد يعتمد نتيجة الدور الثاني للشهادة الإعدادية    وزير السياحة والآثار يكشف خطط الترويج للوصول إلى الفئات المستهدفة من السائحين    هل يكمل حسن عبد الله عامه الرابع محافظا للبنك المركزي؟.. محطات في حياة رجل المواقف الصعبة    وزير الإنتاج الحربي يشهد حفل تخرج دفعة جديدة من الأكاديمية المصرية للهندسة والتكنولوجيا    مصدر من لجنة الحكام ل في الجول: تقرير الحكم يذهب للرابطة مباشرة.. وهذا موقفنا من شكوى الأهلي    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    من هو الدكتور صابر عبد الدايم يونس الذي رحل اليوم؟    عاجل - تحديثات سعر الدولار اليوم الاثنين 18-8-2025 أمام الجنيه المصري في البنوك    ارتفاع أسعار الذهب 20 جنيها مع بداية تعاملات اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    عيار 21 الآن بعد تراجع 40 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الاثنين 18-8-2025 (آخر تحديث رسمي)    موعد انتهاء الأوكازيون الصيفي 2025 في مصر.. آخر فرصة للتخفيضات قبل عودة الأسعار    عاجل.. وصول وزيري الخارجية والتضامن ورئيس الوزراء الفلسطيني إلى معبر رفح    4 شهداء بينهم طفلة بقصف إسرائيلى على غزة والنصيرات    إعلام عبري: تقديرات الجيش أن احتلال مدينة غزة سوف يستغرق 4 أشهر    إسرائيل تقر خطة احتلال مدينة غزة وتعرضها على وزير الدفاع غدا    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    محافظة بورسعيد.. مواقيت الصلوات الخمس اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    مؤتمر بنزيمة: المواجهة بين اتحاد جدة والنصر وليست أنا ضد رونالدو    «الداخلية»: ضبط 97 ألف مخالفة مرورية و186 سائقًا تحت تأثير المخدرات في 24 ساعة    هل ستسقط أمطار في الصيف؟ بيان حالة الطقس اليوم الاثنين على أنحاء البلاد ودرجات الحرارة    جنايات دمنهور تواصل جلسات الاستئناف في قضية الطفل ياسين بالبحيرة    المصابتان في حادث مطاردة الفتيات بطريق الواحات يحضران أولى جلسات محاكمة المتهمين    التعليم تحسم الجدل : الالتحاق بالبكالوريا اختياريا ولا يجوز التحويل منها أو إليها    إصابة 14 شخصا فى تصادم سيارتى ميكروباص وربع نقل على طريق أسوان الصحراوى    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    سعر الفراخ البيضاء بعد آخر زيادة.. أسعار الدواجن اليوم الاثنين 18-8-2025 للمستهلك صباحًا    تعرف على مواعيد حفلات مهرجان القلعة للموسيقى والغناء وأسعار التذاكر    دار الإفتاء توضح حكم شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    محافظ المنوفية يعتمد نتيجة الشهادة الإعدادية الدور الثانى بنسبة نجاح 87.75%    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    نشأت الديهي: شباب مصر الوطني تصدى بكل شجاعة لمظاهرة الإخوان فى هولندا    نشأت الديهى: أنس حبيب طلب اللجوء لهولندا ب"الشذوذ الجنسي" وإلإخوان رخصوا قضية غزة    رابط نتيجة وظائف البريد المصري لعام 2025    مجرد أساطير بلا أساس علمي.. متحدث الصحة عن خطف الأطفال وسرقة أعضائهم (فيديو)    طب قصر العيني تبحث استراتيجية زراعة الأعضاء وتضع توصيات شاملة    نصائح لحمايتك من ارتفاع درجات الحرارة داخل السيارة    حكيم يشعل أجواء الساحل الشمالي الجمعة المقبلة بأجمل أغانيه    تحرك الدفعة ال 17من شاحنات المساعدات إلي معبر كرم أبو سالم    "2 إخوات أحدهما لاعب كرة".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة إمام عاشور نجم الأهلي    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    الرئيس اللبناني: واشنطن طرحت تعاونًا اقتصاديًا بين لبنان وسوريا    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    رضا عبد العال: خوان ألفينا "هينَسي" الزملكاوية زيزو    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لبنان يكرس الصورة الفوتوغرافية الراصدة لكيمياء العالم
نشر في صوت البلد يوم 28 - 12 - 2016

سؤال يفرض ذاته أمام الصور الفوتوغرافية المبنية على مفردات واقعية، ولكنها في الآن ذاته تقدم نصا ضمنيا يحيل المُشاهد إلى أبعد مما يراه أمامه جليا وواضحا وغارقا في “العادية”.
لماذا الآن، وتحديدا خلال سنة 2016 حيث تجلت هذه النزعة إلى الواقعية “المعاصرة”، إذا صح التعبير؟ ربما بسبب تخمة الصور المُعدلة ديجيتاليا أو المتحولة أو المركبة التي يشهدها عالمنا، والملل منها ومن رؤيتها يجتاح حياتنا العامة والخاصة، وربما أيضا لأن الواقع حاذى الغرائبية التي أصبحت أكثر من المُتخيل، ولا سيما في ما يتعلق بالفظائع وأثرها على التكوين النفسي للبشر.
ربما بات تصوير مفردات الواقع الأكثر عادية، كتصوير “كنبة” يجلس عليها أحد الأشخاص، أو علبة على طاولة، ضربا من ضروب الشعائر السحرية التي تعيد النظر إلى “العادي”، ولكن هذه المرة مع تشبيكه بحس تأويلي واسع.
لم تعد الرموز وفهمها ما يقلق الناظر فحسب، فما يقلقه أيضا هو تلك البراءة الأولى التي تجرده من دفاعاته ومعلوماته، وهو أمام محاولة لاستيعاب معنى “العادي” وكل ما يستطيع الإشارة إليه.
شعرية الواقع
ليس في توجه الفن التشكيلي المعاصر الذي شهدته بيروت خلال هذه السنة من محاولة للفكاك من قيود المرئيات أيّ شيء بشع أو مرفوض، بل على العكس، يكفي أنه تطوّر بصري وحتمي لكل التجارب الفنية التي اشترك في تكوينها البشر، لكن فن الفوتوغرافيا الذي حضر بشكل كبير في المعارض الكثيرة التي شهدها لبنان ربما لا يكون إلاّ ترجمة لحاجة ملحة إلى القبض على زمام الحوادث، والمشاهد بعد أن فلتت من نطاق الاستيعاب لكثرتها ولوحشيتها، ولا سيما في منطقة شرق الأوسط.
ثمة معارض لمصورين غير لبنانيين، ولكن تبقى أدنى أهمية من الصور التي قدمها اللبنانيون من حيث المواضيع، فقد التقط معظمهم مشاهد طبيعية تقارب المشاهد السياحية مع بعض التفنن في استخدام التقنيات التصويرية المعاصرة.
أما الصور التي قدمها مصورون لبنانيون فتشير إلى عودة تأملية إلى ما جرى في لبنان في فترة الحرب، وخاصة حول آثارها في المجتمع والأفراد على السواء. لا رثاء لما كان ودمرته الحرب، لا حنين إلى اللحظات المضيئة التي عرفتها المنازل في أوج موجات الدمار، ولكن مجرّد ابتسامة فيها شيء من البرودة وربما الحيادية التوثيقية، ابتسامة ترى وتصوّر، وفي صورها تلك تعيد توصيف وتقييم الأمور.
أغلب ما يلفت النظر في الأعمال الفوتوغرافية اللبنانية، هي أن في معظمها تضع المصور الفوتوغرافي اللبناني كحكيم مُشبع بالتجربة الحياتية والبصرية وهو يطل على ما هو أبعد من خراب الدول المجاورة له؛ يطلّ على الآثار المستقبلية للبلدان المجاورة التي تعايش الآن الهلع الوجودي الذي داهمها من حيث لا تدري.
يتميز هذا النوع من الصور الفوتوغرافية بنص شعري متصل كل الاتصال بالوقائع الاجتماعية والبيئية والنفسية حتى من الناحية الشكلية، من هذه الصور نذكر تلك التي عرضت في صالة “جانين ربيز” وصالة “تانيت” وصالة “مرفأ” وصالة “صفير زملر” و”مركز بيروت للفن”.
طرحت المصورة اللبنانية لمياء أبي اللمع في معرض حمل عنوان “حقائق تتشابك” عبر النساء اللواتي صورتهن في لباس عسكري وهن في حميمية بيوتهن، آثار وتبعات الحرب اللبنانية التي امتدت من سنة 1975 حتى يومنا هذا في نفوسهن، وبالتالي في النسيج النفسي الخاص بالمجتمع اللبناني بأسره الذي هو، بالنسبة إلى المصورة، ليس إلاّ امتدادا من معاناتهن اليومية في صمت ينطق أكثر مما يخفي.
أما المصورة رانيا مطر فقد عرضت صورا فوتوغرافية ملونة تحت عنوان “الطفلة – المرأة”، والتي لم تخرج عن إطار عمل المصورة النفسي/ الاجتماعي الذي اشتهرت به، وهو يتمحور بشكل خاص حول النساء والفتيات الصغيرات في مواجهتهن لذواتهن وتفاعلهن مع بيئتهن الاجتماعية والسياسية.
نذكر أيضا معرضا للمصور اللبناني سيرج نجار تحت عنوان “نظرة أكثر دقة إلى العادي”، والذي قدّم فيه صورا لا تختلق إضافات لا لونية ولا شكلية، إذ تنقل مشاهد مدنية وواقعية تماما، ولكن من زوايا حاذقة ومختلفة تبرز الغرائبي فيها، وتحيد الواقعي/ العادي بعيدا جدا عن مجال التفكير.
ونذكر أيضا معرضا فوتوغرافيا مشتركا للارا تابت وميريام بولس وإلسي حداد وشاغيغ أرذوميان، حمل عنوان “أماكن مشتركة”.
ويضم المعرض صورا فوتوغرافية بالأسود والأبيض ترصد “العادي جدا”، تتأمله ثم تنقله كما هو، لا حاجة إلى تبديل أو تعديل أو إضافات لتكون الصورة صورة فنية، يكفي نقل المرئي إلى حيّز الصورة كما هو لكي يظهر الغريب/الوامض، الذي يعشش في كنف كل ما يمكن تسميته بالعادي أو الاعتيادي.
الصور التشكيلية
شهدت بيروت معارض لصور فوتوغرافية تحمل نبرة مختلفة عن تلك التي تبنت الواقع بشعرية باردة، إنها الصور التي “تنسخ الواقع” بذكاء وكفعل تحفيزي للذاكرة، وربما لا يخلو هذا الفعل من شعرية ما، تفتقر إلى الغنائية. نذكر من هذه المعارض، المعرض الذي حمل عنوان “عبر الغيوم: مختارات من مشاهد جوية”، والذي ضمّ صورا قديمة ونادرة للبنان وسوريا وفلسطين المحتلة.
بعض هذه الصور تذكر بلوحات تشكيلية محا تفاصيلها الزمن، فغاصت في رمزيتها ودلالتها على عالم امّحى بشكل شبه كامل، ولكن ظل شاهدا على واقع مشترك في روحه ومظاهره، واقع تتقاسمه تلك البقاع الخصبة من الأرض والخيال.
وهناك معرض آخر بعنوان “لبنان بلا روتوش” للمصور رولان صيداوي الذي يوثّق لما كان قبل زمن الدمار والتلوث والهجرات القسرية، لقد حضرت في الصالة صور عن أسواق بيروت القديمة وعن أماكن أخرى في سوريا وفلسطين المحتلة.
التقط رولان صيداوي صوره الفوتوغرافية تلك بالأسود والأبيض حسب اختياره الشخصي، إذ كانت تقنية الألوان موجودة في زمنه، أرادها -كما قال- أن تبدو “على حقيقتها”، قد يجد البعض في هذا التفسير غرابة ما، لأن اللون حاضر وبقوة في “الواقع” وفي المشهد اللبناني الطبيعي، ربما أراد الفنان من ذلك أن يركز المُشاهد نظره على الوجود البشري وأشكال البيوت والجبال والأشجار وغيرها من عناصر التأليف الشكلي، بمنأى عن تحولات الألوان السريعة تحت وطأة العوامل الطبيعية.
في هذا السياق نذكر أيضا معرض الصور الذي أقامه مركز “بيروت للمعارض” للمصور زياد عنتر، حيث استلهم فكرة مشروعه من كتاب كمال الصليبي “التوراة جاءت من جزيرة العرب”.
خاض زياد عنتر غمار التصوير الفوتوغرافي أولا كفنان تشكيلي له رؤية تصويرية خاصة أبرزت جمالية ضبابية اقتفت أثر المشاهد الجغرافية لتلال ومسطحات وصخور وجبال.
عنوان المعرض “ما بعد الصورة” يشي برغبة لدى الفنان باقتفاء أثر الصورة وأثر المشهد أكثر منها رغبة في تمثيل واضح للمعالم الجغرافية، جاءت أعماله تلك صدى للمشروع الأسطوري/ التوثيقي والتاريخي والأدبي بغض النظر عن حقيقة ما أثبته المفكر كمال الصليبي في كتابه.
في بعض الصور اعتمد اللون الأبيض حينا وفي بعضها الآخر لجأ إلى الألوان وتدرجاتها، كما التقط عنتر هذه المشاهد كمصور فوتوغرافي محترف عرف كيف وأين يمحو التفاصيل دون أن يخسر المشهد المصور روحيته.
أراد التوثيق الدقيق للمعالم، ولكن بطريقته الخاصة للطبيعة القاسية والجبال الشاهقة وتضاريس صخور جبال عسير الحادة، حضرت تلك الصور في كتاب بمحاذاة نصوص الروائي السعودي يحيى أمقاسم.
من ناحية أخرى، نذكر معارض قاربت الفوتوغرافيا بشكل فائق حتى كاد المشاهد أن يرى اللوحات التشكيلية، وكأنها صور فوتوغرافية موثقة لوقائع ولا تحمل أي إضافات أو نقصان تشكيلي.
نذكر من هذه المعارض معرض حمل عنوان “همس الغابات” للفنانتين كارين بولانجي وماريا كازون، فقد شكل هذا المعرض دعوة إلى عالم مُقلق بهدوئه، كثير البوح بما حدث في أرجائه، ولكن في صمت مغناطيسي يستحضر أجواء القصص الخرافية وفصولها التي تحدث غالبا في غابات بعيدة لا يمكن لبطلة أو لبطل القصة أن يعود، أو “ينجو” منها دون أن يحدث تغييرا كبيرا في مسار حياته أو في طريقة رؤيته إلى الحياة بشكل عام. إذا وصفت كارين بولانجي أن “مجرد التقدم نحو عتبة الغابة يمنعك من العودة إلى الوراء لتجد نفسك في مواجهة قدرك”، فماريا كازون ليست بعيدة البتة عن هذا المنطق.
تُعتبر ماريا كازون من أهم فناني “البرفورمانس” والتجهيز، وهي عادة ما تدعم أعمالها بصور فوتوغرافية ورسومات بأبعاد ثلاثية وبغيرها من التقنيات الحديثة.
ويأتي عملها التجهيزي هذا، وكأنه استكمال أو نقطة انطلاق للوحات بولانجي، لذا وجب هنا تذكية براعة صاحبة صالة “نادين ربيز” في لمّ شمل أعمال الفنانتين لأجل تكثيف التجربة الفنية وإعطائها بعدا مُضاعفا.
هكذا تجيء الصور الفوتوغرافية مرافقة للوحات تشكيلية ولها أصداء في أعمال فيديو، لتشكل جزءا لا يتجزأ من التجربة البصرية/ الوجدانية التي تأخذ موقفا واضحا من العالم الذي يتأزم من حولها.
وهكذا يتقدم المصورون نحو مواضيع صورهم على نحو شبيه بما وصفته المصورة الفوتوغرافية دايان آربوس “كل شيء هو فاتن وملهث جدا، أنا أتقدّم زاحفة على بطني، كما الجنود في أفلام الحرب”.
سؤال يفرض ذاته أمام الصور الفوتوغرافية المبنية على مفردات واقعية، ولكنها في الآن ذاته تقدم نصا ضمنيا يحيل المُشاهد إلى أبعد مما يراه أمامه جليا وواضحا وغارقا في “العادية”.
لماذا الآن، وتحديدا خلال سنة 2016 حيث تجلت هذه النزعة إلى الواقعية “المعاصرة”، إذا صح التعبير؟ ربما بسبب تخمة الصور المُعدلة ديجيتاليا أو المتحولة أو المركبة التي يشهدها عالمنا، والملل منها ومن رؤيتها يجتاح حياتنا العامة والخاصة، وربما أيضا لأن الواقع حاذى الغرائبية التي أصبحت أكثر من المُتخيل، ولا سيما في ما يتعلق بالفظائع وأثرها على التكوين النفسي للبشر.
ربما بات تصوير مفردات الواقع الأكثر عادية، كتصوير “كنبة” يجلس عليها أحد الأشخاص، أو علبة على طاولة، ضربا من ضروب الشعائر السحرية التي تعيد النظر إلى “العادي”، ولكن هذه المرة مع تشبيكه بحس تأويلي واسع.
لم تعد الرموز وفهمها ما يقلق الناظر فحسب، فما يقلقه أيضا هو تلك البراءة الأولى التي تجرده من دفاعاته ومعلوماته، وهو أمام محاولة لاستيعاب معنى “العادي” وكل ما يستطيع الإشارة إليه.
شعرية الواقع
ليس في توجه الفن التشكيلي المعاصر الذي شهدته بيروت خلال هذه السنة من محاولة للفكاك من قيود المرئيات أيّ شيء بشع أو مرفوض، بل على العكس، يكفي أنه تطوّر بصري وحتمي لكل التجارب الفنية التي اشترك في تكوينها البشر، لكن فن الفوتوغرافيا الذي حضر بشكل كبير في المعارض الكثيرة التي شهدها لبنان ربما لا يكون إلاّ ترجمة لحاجة ملحة إلى القبض على زمام الحوادث، والمشاهد بعد أن فلتت من نطاق الاستيعاب لكثرتها ولوحشيتها، ولا سيما في منطقة شرق الأوسط.
ثمة معارض لمصورين غير لبنانيين، ولكن تبقى أدنى أهمية من الصور التي قدمها اللبنانيون من حيث المواضيع، فقد التقط معظمهم مشاهد طبيعية تقارب المشاهد السياحية مع بعض التفنن في استخدام التقنيات التصويرية المعاصرة.
أما الصور التي قدمها مصورون لبنانيون فتشير إلى عودة تأملية إلى ما جرى في لبنان في فترة الحرب، وخاصة حول آثارها في المجتمع والأفراد على السواء. لا رثاء لما كان ودمرته الحرب، لا حنين إلى اللحظات المضيئة التي عرفتها المنازل في أوج موجات الدمار، ولكن مجرّد ابتسامة فيها شيء من البرودة وربما الحيادية التوثيقية، ابتسامة ترى وتصوّر، وفي صورها تلك تعيد توصيف وتقييم الأمور.
أغلب ما يلفت النظر في الأعمال الفوتوغرافية اللبنانية، هي أن في معظمها تضع المصور الفوتوغرافي اللبناني كحكيم مُشبع بالتجربة الحياتية والبصرية وهو يطل على ما هو أبعد من خراب الدول المجاورة له؛ يطلّ على الآثار المستقبلية للبلدان المجاورة التي تعايش الآن الهلع الوجودي الذي داهمها من حيث لا تدري.
يتميز هذا النوع من الصور الفوتوغرافية بنص شعري متصل كل الاتصال بالوقائع الاجتماعية والبيئية والنفسية حتى من الناحية الشكلية، من هذه الصور نذكر تلك التي عرضت في صالة “جانين ربيز” وصالة “تانيت” وصالة “مرفأ” وصالة “صفير زملر” و”مركز بيروت للفن”.
طرحت المصورة اللبنانية لمياء أبي اللمع في معرض حمل عنوان “حقائق تتشابك” عبر النساء اللواتي صورتهن في لباس عسكري وهن في حميمية بيوتهن، آثار وتبعات الحرب اللبنانية التي امتدت من سنة 1975 حتى يومنا هذا في نفوسهن، وبالتالي في النسيج النفسي الخاص بالمجتمع اللبناني بأسره الذي هو، بالنسبة إلى المصورة، ليس إلاّ امتدادا من معاناتهن اليومية في صمت ينطق أكثر مما يخفي.
أما المصورة رانيا مطر فقد عرضت صورا فوتوغرافية ملونة تحت عنوان “الطفلة – المرأة”، والتي لم تخرج عن إطار عمل المصورة النفسي/ الاجتماعي الذي اشتهرت به، وهو يتمحور بشكل خاص حول النساء والفتيات الصغيرات في مواجهتهن لذواتهن وتفاعلهن مع بيئتهن الاجتماعية والسياسية.
نذكر أيضا معرضا للمصور اللبناني سيرج نجار تحت عنوان “نظرة أكثر دقة إلى العادي”، والذي قدّم فيه صورا لا تختلق إضافات لا لونية ولا شكلية، إذ تنقل مشاهد مدنية وواقعية تماما، ولكن من زوايا حاذقة ومختلفة تبرز الغرائبي فيها، وتحيد الواقعي/ العادي بعيدا جدا عن مجال التفكير.
ونذكر أيضا معرضا فوتوغرافيا مشتركا للارا تابت وميريام بولس وإلسي حداد وشاغيغ أرذوميان، حمل عنوان “أماكن مشتركة”.
ويضم المعرض صورا فوتوغرافية بالأسود والأبيض ترصد “العادي جدا”، تتأمله ثم تنقله كما هو، لا حاجة إلى تبديل أو تعديل أو إضافات لتكون الصورة صورة فنية، يكفي نقل المرئي إلى حيّز الصورة كما هو لكي يظهر الغريب/الوامض، الذي يعشش في كنف كل ما يمكن تسميته بالعادي أو الاعتيادي.
الصور التشكيلية
شهدت بيروت معارض لصور فوتوغرافية تحمل نبرة مختلفة عن تلك التي تبنت الواقع بشعرية باردة، إنها الصور التي “تنسخ الواقع” بذكاء وكفعل تحفيزي للذاكرة، وربما لا يخلو هذا الفعل من شعرية ما، تفتقر إلى الغنائية. نذكر من هذه المعارض، المعرض الذي حمل عنوان “عبر الغيوم: مختارات من مشاهد جوية”، والذي ضمّ صورا قديمة ونادرة للبنان وسوريا وفلسطين المحتلة.
بعض هذه الصور تذكر بلوحات تشكيلية محا تفاصيلها الزمن، فغاصت في رمزيتها ودلالتها على عالم امّحى بشكل شبه كامل، ولكن ظل شاهدا على واقع مشترك في روحه ومظاهره، واقع تتقاسمه تلك البقاع الخصبة من الأرض والخيال.
وهناك معرض آخر بعنوان “لبنان بلا روتوش” للمصور رولان صيداوي الذي يوثّق لما كان قبل زمن الدمار والتلوث والهجرات القسرية، لقد حضرت في الصالة صور عن أسواق بيروت القديمة وعن أماكن أخرى في سوريا وفلسطين المحتلة.
التقط رولان صيداوي صوره الفوتوغرافية تلك بالأسود والأبيض حسب اختياره الشخصي، إذ كانت تقنية الألوان موجودة في زمنه، أرادها -كما قال- أن تبدو “على حقيقتها”، قد يجد البعض في هذا التفسير غرابة ما، لأن اللون حاضر وبقوة في “الواقع” وفي المشهد اللبناني الطبيعي، ربما أراد الفنان من ذلك أن يركز المُشاهد نظره على الوجود البشري وأشكال البيوت والجبال والأشجار وغيرها من عناصر التأليف الشكلي، بمنأى عن تحولات الألوان السريعة تحت وطأة العوامل الطبيعية.
في هذا السياق نذكر أيضا معرض الصور الذي أقامه مركز “بيروت للمعارض” للمصور زياد عنتر، حيث استلهم فكرة مشروعه من كتاب كمال الصليبي “التوراة جاءت من جزيرة العرب”.
خاض زياد عنتر غمار التصوير الفوتوغرافي أولا كفنان تشكيلي له رؤية تصويرية خاصة أبرزت جمالية ضبابية اقتفت أثر المشاهد الجغرافية لتلال ومسطحات وصخور وجبال.
عنوان المعرض “ما بعد الصورة” يشي برغبة لدى الفنان باقتفاء أثر الصورة وأثر المشهد أكثر منها رغبة في تمثيل واضح للمعالم الجغرافية، جاءت أعماله تلك صدى للمشروع الأسطوري/ التوثيقي والتاريخي والأدبي بغض النظر عن حقيقة ما أثبته المفكر كمال الصليبي في كتابه.
في بعض الصور اعتمد اللون الأبيض حينا وفي بعضها الآخر لجأ إلى الألوان وتدرجاتها، كما التقط عنتر هذه المشاهد كمصور فوتوغرافي محترف عرف كيف وأين يمحو التفاصيل دون أن يخسر المشهد المصور روحيته.
أراد التوثيق الدقيق للمعالم، ولكن بطريقته الخاصة للطبيعة القاسية والجبال الشاهقة وتضاريس صخور جبال عسير الحادة، حضرت تلك الصور في كتاب بمحاذاة نصوص الروائي السعودي يحيى أمقاسم.
من ناحية أخرى، نذكر معارض قاربت الفوتوغرافيا بشكل فائق حتى كاد المشاهد أن يرى اللوحات التشكيلية، وكأنها صور فوتوغرافية موثقة لوقائع ولا تحمل أي إضافات أو نقصان تشكيلي.
نذكر من هذه المعارض معرض حمل عنوان “همس الغابات” للفنانتين كارين بولانجي وماريا كازون، فقد شكل هذا المعرض دعوة إلى عالم مُقلق بهدوئه، كثير البوح بما حدث في أرجائه، ولكن في صمت مغناطيسي يستحضر أجواء القصص الخرافية وفصولها التي تحدث غالبا في غابات بعيدة لا يمكن لبطلة أو لبطل القصة أن يعود، أو “ينجو” منها دون أن يحدث تغييرا كبيرا في مسار حياته أو في طريقة رؤيته إلى الحياة بشكل عام. إذا وصفت كارين بولانجي أن “مجرد التقدم نحو عتبة الغابة يمنعك من العودة إلى الوراء لتجد نفسك في مواجهة قدرك”، فماريا كازون ليست بعيدة البتة عن هذا المنطق.
تُعتبر ماريا كازون من أهم فناني “البرفورمانس” والتجهيز، وهي عادة ما تدعم أعمالها بصور فوتوغرافية ورسومات بأبعاد ثلاثية وبغيرها من التقنيات الحديثة.
ويأتي عملها التجهيزي هذا، وكأنه استكمال أو نقطة انطلاق للوحات بولانجي، لذا وجب هنا تذكية براعة صاحبة صالة “نادين ربيز” في لمّ شمل أعمال الفنانتين لأجل تكثيف التجربة الفنية وإعطائها بعدا مُضاعفا.
هكذا تجيء الصور الفوتوغرافية مرافقة للوحات تشكيلية ولها أصداء في أعمال فيديو، لتشكل جزءا لا يتجزأ من التجربة البصرية/ الوجدانية التي تأخذ موقفا واضحا من العالم الذي يتأزم من حولها.
وهكذا يتقدم المصورون نحو مواضيع صورهم على نحو شبيه بما وصفته المصورة الفوتوغرافية دايان آربوس “كل شيء هو فاتن وملهث جدا، أنا أتقدّم زاحفة على بطني، كما الجنود في أفلام الحرب”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.