منافس الأهلي.. بورتو يسابق الزمن لضم فيجا قبل انطلاق مونديال الأندية    7 لاعبين مهددون بالرحيل عن ريال مدريد    أحمد الفيشاوي يثير الجدل مجددًا بظهوره ب«حلق» في أحدث إطلالة على إنستجرام    من مدريد إلى نيويورك..فى انتظار ولادة صعبة لحل الدولتين    باريس سان جيرمان ينهي عقدة تاريخية لأندية فرنسا أوروبيًا    بعد رحيله عن الأهلي.. هل طلب سامي قمصان ضم ميشيل يانكون لجهاز نادي زد؟    لاعبان سابقان.. الزمالك يفاضل بين ثلاثي الدوري لضم أحدهم (تفاصيل)    معاكسة فتاة ببنها تنتهى بجثة ومصاب والأمن يسيطر ويضبط المتهمين    متحدث الصحة: نضع خطة طوارئ متكاملة خلال إجازة العيد.. جاهزية كل المستشفيات    ديستربتيك: استثمرنا 65% من محفظتنا فى شركات ناشئة.. ونستعد لإطلاق صندوق جديد خلال عامين    مطالب برلمانية للحكومة بسرعة تقديم تعديل تشريعى على قانون مخالفات البناء    البلشي يرفض حبس الصحفيين في قضايا النشر: حماية التعبير لا تعني الإفلات من المحاسبة    القومي لحقوق الإنسان يكرم مسلسل ظلم المصطبة    الحبس والغرامة للمتهمين باقتطاع فيديوهات للإعلامية ريهام سعيد وإعادة نشرها    «سيبتك» أولى مفاجآت ألبوم حسام حبيب لصيف 2025    مدير فرع هيئة الرعاية الصحية بالإسماعيلية يستقبل وفدا من الصحة العالمية    رئيس النحالين العرب: 3 جهات رقابية تشرف على إنتاج عسل النحل المصري    وزير الصحة: تجاوزنا أزمة نقص الدواء باحتياطي 3 أشهر.. وحجم التوسع بالمستشفيات مش موجود في العالم    بحثًا عن الزمن المفقود فى غزة    مصطفى كامل وأنوشكا ونادية مصطفى وتامر عبد المنعم فى عزاء والد رئيس الأوبرا    20 صورة.. مستشار الرئيس السيسي يتفقد دير مارمينا في الإسكندرية    موعد أذان مغرب السبت 4 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب عشر ذي الحجة    بعد نجاح مسابقته السنويَّة للقرآن الكريم| الأزهر يطلق «مسابقة السنَّة النبويَّة»    ماذا على الحاج إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام؟.. الدكتور يسري جبر يجيب    الهمص يتهم الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج في قطاع غزة    الإخوان في فرنسا.. كيف تُؤسِّس الجماعة حياةً يوميةً إسلاميةً؟.. خطة لصبغ حياة المسلم فى مجالات بعيدة عن الشق الدينى    المجلس القومي لحقوق الإنسان يكرم أبطال مسلسل ظلم المصطبة    وزارة الزراعة تنفي ما تردد عن بيع المبنى القديم لمستثمر خليجي    برونو يحير جماهير مانشستر يونايتد برسالة غامضة    القاهرة الإخبارية: القوات الروسية تمكنت من تحقيق اختراقات في المواقع الدفاعية الأوكرانية    "أوبك+": 8 أعضاء سيرفعون إنتاج النفط في يوليو ب411 ألف برميل يوميا    قواعد تنسيق العام الجديد.. اعرف تفاصيل اختبارات القدرات    ما حكم بيع جزء من الأضحية؟    محافظ القليوبية يوجه بسرعة الانتهاء من رصف وتطوير محور مصرف الحصة    ب حملة توقيعات.. «الصحفيين»: 5 توصيات ل تعديل المادة 12 من «تنظيم الصحافة والإعلام» (تفاصيل)    استعدادًا لعيد الأضحى| تفتيش نقاط الذبيح ومحال الجزارة بالإسماعيلية    محافظ أسيوط ووزير الموارد المائية والري يتفقدان قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية    تكشف خطورتها.. «الصحة العالمية» تدعو الحكومات إلى حظر جميع نكهات منتجات التبغ    وزير الخارجية يبحث مع عضو لجنة الخدمات العسكرية ب"الشيوخ الأمريكي" سبل دعم الشراكة الاستراتيجية    مصادرة 37 مكبر صوت من التكاتك المخالفة بحملة بشوارع السنبلاوين في الدقهلية    حظك اليوم السبت 31 مايو 2025 وتوقعات الأبراج    لماذا سيرتدي إنتر القميص الثالث في نهائي دوري أبطال أوروبا؟    تفاصيل ما حدث في أول أيام امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنوفية    "حياة كريمة" تبدأ تنفيذ المسح الميداني في المناطق المتضررة بالإسكندرية    بدر عبد العاطى وزير الخارجية ل"صوت الأمة": مصر تعكف مصر على بذل جهود حثيثة بالشراكة مع قطر أمريكا لوقف الحرب في غزة    وزير التربية والتعليم يبحث مع منظمة "يونيسف" وضع خطط لتدريب المعلمين على المناهج المطورة وطرق التدريس    استخراج حجر بطارية ألعاب من مريء طفل ابتلعه أثناء اللعب.. صور    أفضل الأدعية المستجابة عند العواصف والرعد والأمطار    رئيس الإنجيلية يستهل جولته الرعوية بالمنيا بتنصيب القس ريموند سمعان    ماذا قالت وكالة الطاقة الذرية في تقريرها عن أنشطة إيران؟    مصدر كردي: وفد من الإدارة الذاتية الكردية يتجه لدمشق لبحث تطبيق اتفاق وقّعته الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية قبل نحو 3 أشهر    "نفرح بأولادك"..إلهام شاهين توجه رسالة ل أمينة خليل بعد حفل زفافها (صور)    قبل وقفة عرفة.. «اليوم السابع» يرصد تجهيزات مشعر عرفات "فيديو"    عمرو الدجوى يقدم بلاغا للنائب العام يتهم بنات عمته بالاستيلاء على أموال الأسرة    عيد الأضحى 2025.. محافظ الغربية يؤكد توافر السلع واستعداد المستشفيات لاستقبال العيد    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    لمكافحة التلاعب بأسعار الخبز.. ضبط 4 طن دقيق مدعم بالمحافظات    سويلم: الأهلي تسلم الدرع في الملعب وحسم اللقب انتهى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما قبل الجنس الأدبي
نشر في صوت البلد يوم 03 - 11 - 2016

ّإذا كان الجنس الأدبيّ وليد عصر النهضة، والتحوّلات التي رافقته فما الذي كان قبله عند اليونانيّين، واستأنفه الرومان مع هوراس الذي حوّل ميراث أرسطو إلى تركة معياريّة منزوعة من أساسها المعرفيّ؟
لا يعدو ما تداوله اليونان- في هذا الصدد- كونه تصنيفًا لأنطولوجيا فنيّة شعريّة كانت عندهم قارّة الملامح (آن موريل). وقد كان هذا التصنيف يستند إلى معايير وظيفيّة (أخلاقيّة انفعاليّة)، وتلفظيّة، وشكلية، إلى جانب أسس معرفية (التمثيل)؛ فالمعيار الوظيفيّ الأخلاقيّ يتعلّق- عند أفلاطون- باحترام الآلهة، وعدم الحطّ من شأنها، ويُلزم بتجسيد الخير في أسمى صوّره (مُحاورات أيون)، بينما يتّصل المعيار الانفعاليّ- عند أرسطو- بالتطهيرِ، أمّا المعيار التلفُّظيّ فيتعلّق عندهما بسؤال من يتكلّم: الشاعر أم الشخصيات، أم هما معًا؟ ويتعلّق الأمر في ما يخصّ المعيار المُتصل بالتشكيل بأسئلة ثلاثة: ماذا (الموضوع)، وكيف (الطريقة)، وبماذا (الوسيلة) (جنيت).
لم يتعدّ جلّ السجال الذي طال التخييل القوليّ عند اليونانيّين حدود الأسئلة أعلاه، ولم يُتنبّه إلى أنّ ما كان واردًا عندهم يكمن في جهة أخرى؛ أي الأساس المعرفيّ الذي كان خلف نظرية التمثيل، والذي مبعثه السؤال عمّا إذا كان الفنّ معرفة تُوصِّل إلى الحقيقة. وترتب المعارف عند أفلاطون (الجمهورية) وفق هذا السؤال؛ حيث تُوضع الرياضيات في القمّة، ويأتي الفكر بعدها، فالرأي، ثمّ الخيالات والظلال.
ويُدرج الشعر في المرتبة الرابعة (الكتاب السابع)، وفي المرتبة الثالثة بعد المرتبة الرابعة في الكتاب العاشر. وما يُهمُّ – هنا- هو بُعْدُ الشعر عن تمثيل الحقيقة لافتقاره إلى معياري التجريد اللذين يُحدِّدان الحقيقي. لم يكن أفلاطون- إذن- معنيًا بتصنيف الفنون الشعريّة بقدر ما كان معنيًا بالتساؤل عن تمثيلها المعرفة الحقّة. والشيء ذاته يصدق على أرسطو، وإن بطريقة وتصوّر مُختلفين؛ فهو بربط الشعر بالكلّيّ في تصوُّره التمثيلَ. ويُماثل التمثيلُ الشعريّ عنده التمثيل الفلسفيّ في استهدافه الكلّيَّ من طريق الربط بين المفهوم والماصدق بحيث يتطابق الثاني مع الأوّل الذي هو مجال الكلّي والجنس التجريديّ. ولا بدّ في فهم كيف يشتغل الكليّ في فنّ الشعر، خاصّة المأساة، من ربطه بالعلّة الصوريّة من ضمن العلل الأربع المشهورة عند أرسطو. وتُفيد هذه العلّة الجانب المفهوميّ الذي يُمَكِّن من نشوء الصورة (و/ أو الشكل forme)؛ أي ما هو مُجرَّد. فالتمثيل الشعري هو معرفي يقصد به فهم الكيفية التي يعبر بها الموجود عن صيرورته نحو إظهار العلة الصورية الكامنة فيه؛ أي ما ينبغي فحصه- في هذا النطاق لإدراك التمثيل بوصفه تطابقَ الماصدق مع المفهوم- كيفية تعبير الوجود عن نفسه؟ إنّه صائر نحو إظهار العلّة الصوريّة الكامنة فيه، أيّ إظهار الكلّي في الزمن بما يُفيده من وحدة (دومينيك فولشيد) وكمال وعدم تعدد. ومن ثمّة سيكُون هاجس أرسطو ماثلًا فهم كيفية صيرورة الفن التراجيدي نحو إظهار تبدّي الكلّيّ فيه.
يتّضح- إذن- أنّ المُشكلة لم تكن عند اليونانيّين ماثلةً في تصنيف أجناس أدبيّة تلتبس هويتها، بل في مُحاولة فهم الفنّون الشعريّة في ضوء نسقيْن للمعرفة: النسق الأفلاطونيّ والنسق الأرسطيّ. ولا ينبغي التحجّج في حالة أرسطو بكونه لم يبسط – في كتابه «البوطيقا» الجانب المعرفيّ المُتعلِّق بمفهوم التمثيل على نحو واضح؛ لأنّ المُعوَّل عليه في صدد هذا الكتاب ضرورة إعادة قراءته في ضوء النسق الفلسفيّ لأرسطو، خاصّة في ضوء كتابيْه «السماع الطبيعيّ» و»السياسة». فمن المُسلَّم به أن ليس من الضروري بالنسبة إلى أيّ فيلسوف تبرير أفكاره كلّ مرّة – حين خوضه في مجال من المجالات بالتذكير- بمُنطلقاته المعرفيّة.
لا تصحّ مُناقشة مسألة الجنس الأدبيّ بدون طرحها في سياق النقد العربيّ. فهناك الكثير من التسرّع غير الحذر في توضيع مسألة الجنس الأدبيّ في التراث القولي ّالفنيّ العربيّ؛ فالبحث عن نظرية للجنس الأدبيّ في هذا التراث يُعَدُّ جهدًا بدون طائل. والأسباب الداعية إلى إعادة النظر في مثل هذا الجهد هي كالآتي: ا تُعد مسألة الأجناس الأدبيّة حديثة استجدّت في النظرية الأدبيّة في أثناء عصر النهضة. ب إذا كانت هذه المسألة غير واردة في التراث الفكريّ اليونانيّ فكيف تكُون واردة في الوعي النقديّ في التراث العربيّ؟ ج لا يُمْكِن التفكير في مسألة الأجناس الأدبيّة إلّا في ضوء تنوّع الإنتاجات الأدبيّة في عصر النهضة؛ إذ يُعَدُّ هذا التنوّع مسؤولًا عن تكوُّن الإشكال الإجناسيّ. ويصحُّ التساؤل- في هذا النطاق- عمّا إذا كان التراث الفنّيّ العربيّ المُكرّس نقدًا قد واجه مثل هذا التنوع المُقلق حتّى يُعنى بالتفكير في التصنيف وحلّ مُشكلات نظريّة تتّصل به.
ينبغي أن نفهم أنّ مسألة الأجناس الأدبيّة تتعلّق بإشكال ثقافيّ تاريخيّ غربيّ محض لم يكن مطروحًا في التراث العربيّ. وإذا ما صُودف أن استعملت لفظة «الجنس» في هذا التراث فإنّ النعت «الأدبيّ» لم يُرافقها على الإطلاق. لم يكن واردا عند جميع النقاد العرب- وبدون استثناء، في وعيهم بالقول الفنّيّ- ما ترتّب على مسألة الأجناس الأدبيّة من إشكالات نظريّة؛ والسبب يعود إلى عدم توافر السياق الثقافيّ التاريخيّ الذي يسمح بذلك. ويكفي جرد المُشكلات التي واجهتها النظرية الإجناسيّة في الغرب عبر تاريخها لإدراك هذا، وفي مقدِّمتها الأسئلة الآتيّة: هل يصحّ نسبة النموذج الثلاثيّ إلى أفلاطون وأرسطو؟ وما هي المُكوِّنات والمعايير التي تسمح بتحديد طبيعة جنس أدبيّ مُعيَّن؟ هل التغيّرات التي أدخلت على النموذج الثلاثيّ حسمت في مسألة الأجناس الأدبيّة؟ لا نجد لمثل هذه الأسئلة ذكرا في الوعي النقديّ العربيّ القديم. وحتّى في حالة التشبث بآلية التصنيف- لا مُشكلته- فإنّ كلّ ما يُمْكِن الحديث عنه هو تصنيف ثنائيّ وُزّع بمُوجبه القول الفنّيّ إلى شعر ونثر، مع ما يحمله هذا التصنيف من مُضمرات سوسيو- ثقافيّة، وما ينجم عنها من حكم قيميّ في صدد هذا التصنيف؛ حيث يحتلّ النثر قيمة دنيا قياسًا إلى الشعر. هذا إلى جانب النظر بعين كليلة إلى ما تُنتجه الثقافة الشفهيّة العامّة من نصوص. لكنّ سؤالًا آخر يظلّ واردًا هنا: فإذا كان اهتمام اليونانيّين مُنصرفًا إلى علاقة الفنّ الشعريّ بتمثيل الحقيقة فما الذي كان اهتمام النقد العربيّ مُنصرفًا إليه. هذا ما ستُحاول المقالة المُقبلة مُطارحته.
....
أديب وأكاديمي مغربي
ّإذا كان الجنس الأدبيّ وليد عصر النهضة، والتحوّلات التي رافقته فما الذي كان قبله عند اليونانيّين، واستأنفه الرومان مع هوراس الذي حوّل ميراث أرسطو إلى تركة معياريّة منزوعة من أساسها المعرفيّ؟
لا يعدو ما تداوله اليونان- في هذا الصدد- كونه تصنيفًا لأنطولوجيا فنيّة شعريّة كانت عندهم قارّة الملامح (آن موريل). وقد كان هذا التصنيف يستند إلى معايير وظيفيّة (أخلاقيّة انفعاليّة)، وتلفظيّة، وشكلية، إلى جانب أسس معرفية (التمثيل)؛ فالمعيار الوظيفيّ الأخلاقيّ يتعلّق- عند أفلاطون- باحترام الآلهة، وعدم الحطّ من شأنها، ويُلزم بتجسيد الخير في أسمى صوّره (مُحاورات أيون)، بينما يتّصل المعيار الانفعاليّ- عند أرسطو- بالتطهيرِ، أمّا المعيار التلفُّظيّ فيتعلّق عندهما بسؤال من يتكلّم: الشاعر أم الشخصيات، أم هما معًا؟ ويتعلّق الأمر في ما يخصّ المعيار المُتصل بالتشكيل بأسئلة ثلاثة: ماذا (الموضوع)، وكيف (الطريقة)، وبماذا (الوسيلة) (جنيت).
لم يتعدّ جلّ السجال الذي طال التخييل القوليّ عند اليونانيّين حدود الأسئلة أعلاه، ولم يُتنبّه إلى أنّ ما كان واردًا عندهم يكمن في جهة أخرى؛ أي الأساس المعرفيّ الذي كان خلف نظرية التمثيل، والذي مبعثه السؤال عمّا إذا كان الفنّ معرفة تُوصِّل إلى الحقيقة. وترتب المعارف عند أفلاطون (الجمهورية) وفق هذا السؤال؛ حيث تُوضع الرياضيات في القمّة، ويأتي الفكر بعدها، فالرأي، ثمّ الخيالات والظلال.
ويُدرج الشعر في المرتبة الرابعة (الكتاب السابع)، وفي المرتبة الثالثة بعد المرتبة الرابعة في الكتاب العاشر. وما يُهمُّ – هنا- هو بُعْدُ الشعر عن تمثيل الحقيقة لافتقاره إلى معياري التجريد اللذين يُحدِّدان الحقيقي. لم يكن أفلاطون- إذن- معنيًا بتصنيف الفنون الشعريّة بقدر ما كان معنيًا بالتساؤل عن تمثيلها المعرفة الحقّة. والشيء ذاته يصدق على أرسطو، وإن بطريقة وتصوّر مُختلفين؛ فهو بربط الشعر بالكلّيّ في تصوُّره التمثيلَ. ويُماثل التمثيلُ الشعريّ عنده التمثيل الفلسفيّ في استهدافه الكلّيَّ من طريق الربط بين المفهوم والماصدق بحيث يتطابق الثاني مع الأوّل الذي هو مجال الكلّي والجنس التجريديّ. ولا بدّ في فهم كيف يشتغل الكليّ في فنّ الشعر، خاصّة المأساة، من ربطه بالعلّة الصوريّة من ضمن العلل الأربع المشهورة عند أرسطو. وتُفيد هذه العلّة الجانب المفهوميّ الذي يُمَكِّن من نشوء الصورة (و/ أو الشكل forme)؛ أي ما هو مُجرَّد. فالتمثيل الشعري هو معرفي يقصد به فهم الكيفية التي يعبر بها الموجود عن صيرورته نحو إظهار العلة الصورية الكامنة فيه؛ أي ما ينبغي فحصه- في هذا النطاق لإدراك التمثيل بوصفه تطابقَ الماصدق مع المفهوم- كيفية تعبير الوجود عن نفسه؟ إنّه صائر نحو إظهار العلّة الصوريّة الكامنة فيه، أيّ إظهار الكلّي في الزمن بما يُفيده من وحدة (دومينيك فولشيد) وكمال وعدم تعدد. ومن ثمّة سيكُون هاجس أرسطو ماثلًا فهم كيفية صيرورة الفن التراجيدي نحو إظهار تبدّي الكلّيّ فيه.
يتّضح- إذن- أنّ المُشكلة لم تكن عند اليونانيّين ماثلةً في تصنيف أجناس أدبيّة تلتبس هويتها، بل في مُحاولة فهم الفنّون الشعريّة في ضوء نسقيْن للمعرفة: النسق الأفلاطونيّ والنسق الأرسطيّ. ولا ينبغي التحجّج في حالة أرسطو بكونه لم يبسط – في كتابه «البوطيقا» الجانب المعرفيّ المُتعلِّق بمفهوم التمثيل على نحو واضح؛ لأنّ المُعوَّل عليه في صدد هذا الكتاب ضرورة إعادة قراءته في ضوء النسق الفلسفيّ لأرسطو، خاصّة في ضوء كتابيْه «السماع الطبيعيّ» و»السياسة». فمن المُسلَّم به أن ليس من الضروري بالنسبة إلى أيّ فيلسوف تبرير أفكاره كلّ مرّة – حين خوضه في مجال من المجالات بالتذكير- بمُنطلقاته المعرفيّة.
لا تصحّ مُناقشة مسألة الجنس الأدبيّ بدون طرحها في سياق النقد العربيّ. فهناك الكثير من التسرّع غير الحذر في توضيع مسألة الجنس الأدبيّ في التراث القولي ّالفنيّ العربيّ؛ فالبحث عن نظرية للجنس الأدبيّ في هذا التراث يُعَدُّ جهدًا بدون طائل. والأسباب الداعية إلى إعادة النظر في مثل هذا الجهد هي كالآتي: ا تُعد مسألة الأجناس الأدبيّة حديثة استجدّت في النظرية الأدبيّة في أثناء عصر النهضة. ب إذا كانت هذه المسألة غير واردة في التراث الفكريّ اليونانيّ فكيف تكُون واردة في الوعي النقديّ في التراث العربيّ؟ ج لا يُمْكِن التفكير في مسألة الأجناس الأدبيّة إلّا في ضوء تنوّع الإنتاجات الأدبيّة في عصر النهضة؛ إذ يُعَدُّ هذا التنوّع مسؤولًا عن تكوُّن الإشكال الإجناسيّ. ويصحُّ التساؤل- في هذا النطاق- عمّا إذا كان التراث الفنّيّ العربيّ المُكرّس نقدًا قد واجه مثل هذا التنوع المُقلق حتّى يُعنى بالتفكير في التصنيف وحلّ مُشكلات نظريّة تتّصل به.
ينبغي أن نفهم أنّ مسألة الأجناس الأدبيّة تتعلّق بإشكال ثقافيّ تاريخيّ غربيّ محض لم يكن مطروحًا في التراث العربيّ. وإذا ما صُودف أن استعملت لفظة «الجنس» في هذا التراث فإنّ النعت «الأدبيّ» لم يُرافقها على الإطلاق. لم يكن واردا عند جميع النقاد العرب- وبدون استثناء، في وعيهم بالقول الفنّيّ- ما ترتّب على مسألة الأجناس الأدبيّة من إشكالات نظريّة؛ والسبب يعود إلى عدم توافر السياق الثقافيّ التاريخيّ الذي يسمح بذلك. ويكفي جرد المُشكلات التي واجهتها النظرية الإجناسيّة في الغرب عبر تاريخها لإدراك هذا، وفي مقدِّمتها الأسئلة الآتيّة: هل يصحّ نسبة النموذج الثلاثيّ إلى أفلاطون وأرسطو؟ وما هي المُكوِّنات والمعايير التي تسمح بتحديد طبيعة جنس أدبيّ مُعيَّن؟ هل التغيّرات التي أدخلت على النموذج الثلاثيّ حسمت في مسألة الأجناس الأدبيّة؟ لا نجد لمثل هذه الأسئلة ذكرا في الوعي النقديّ العربيّ القديم. وحتّى في حالة التشبث بآلية التصنيف- لا مُشكلته- فإنّ كلّ ما يُمْكِن الحديث عنه هو تصنيف ثنائيّ وُزّع بمُوجبه القول الفنّيّ إلى شعر ونثر، مع ما يحمله هذا التصنيف من مُضمرات سوسيو- ثقافيّة، وما ينجم عنها من حكم قيميّ في صدد هذا التصنيف؛ حيث يحتلّ النثر قيمة دنيا قياسًا إلى الشعر. هذا إلى جانب النظر بعين كليلة إلى ما تُنتجه الثقافة الشفهيّة العامّة من نصوص. لكنّ سؤالًا آخر يظلّ واردًا هنا: فإذا كان اهتمام اليونانيّين مُنصرفًا إلى علاقة الفنّ الشعريّ بتمثيل الحقيقة فما الذي كان اهتمام النقد العربيّ مُنصرفًا إليه. هذا ما ستُحاول المقالة المُقبلة مُطارحته.
....
أديب وأكاديمي مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.