ملك البحرين يدعو لمؤتمر دولي للسلام بالشرق الأوسط    دفاع المتهم الأول فى رشوة الجمارك: "لم يتم ضبطه متلبسا"    بمشاركة مصر والسعودية.. 5 صور من التدريب البحري المشترك (الموج الأحمر- 7)    شعبة القصابين: توقعات بانخفاض أسعار اللحوم خلال الفترة المقبلة    قطع مياه الشرب عن 5 مناطق في أسوان 12 ساعة    العربية: مصر تواصل تكوين مخزون استراتيجي من النفط الخام بعشرات المليارات    زراعة النواب تطالب بوقف إهدار المال العام في جهاز تحسين الأراضي    الرياض تدين محاولة اغتيال رئيس الوزراء السلوفاكي    أوكرانيا تشن هجومًا جديدًا على مطار روسي عسكري في القرم    «تدخل في صلاحيات الأمير».. أمر بضبط وإحضار النائب الكويتي أنور الفكر    نجم دورتموند قبل نهائي دوري أبطال أوروبا: ريال مدريد الأفضل في العالم    ترتيب الدوري السعودي الإلكتروني للعبة ببجي موبايل    جامعة المنوفية تتقدم في تصنيف CWUR لعام 2024    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات فلكيًا.. (أطول إجازة رسمية)    غدا.. إعادة عرض فيلم "زهايمر" احتفالا بميلاد الزعيم    "دار وسلامة".. قافلة طبية للكشف على المواطنين بقرية أولاد يحيى في سوهاج    معهد التغذية: نسيان شرب الماء يسبب الشعور بالتعب والإجهاد    نقابة العاملين الأكاديميين بجامعة كاليفورنيا تجيز إضرابا ردا على قمع احتجاجات غزة    بدء التعاقد على الوصلات المنزلية لمشروع صرف صحي «الكولا» بسوهاج    تداول 10 آلاف طن و585 شاحنة بضائع بموانئ البحر الأحمر    الدوري السعودي يستخدم "الغردقة" لجذب محمد صلاح.. ما التفاصيل؟    تراجع دور بيلينجهام في ريال مدريد بسبب مبابي    شوبير السبب.. كواليس إيقاف الحكم محمود عاشور من إدارة مباريات الدوري المصري    أمير عيد يؤجل انتحاره لإنقاذ جاره في «دواعي السفر»    «التربية والتعليم» تنظم فعاليات مسابقة المعلمة الفعالة    قرار قضائي جديد بشأن سائق أوبر المتهم بالاعتداء على سيدة التجمع    خلال 24 ساعة.. رفع 39 سيارة ودراجة نارية متهالكة من الميادين    «التخطيط»: 7.7 مليار جنيه استثمارات موجهة لمحافظة الدقهلية خلال 2023-2024    وفاه الشيخ السيد الصواف قارئ الإذاعة المصرية.. وأسرة الراحل: الدفن والعزاء بمسقط رأسه    "العربة" عرض مسرحي لفرقة القنطرة شرق بالإسماعيلية    رئيس جامعة المنيا يبحث مع الجانب الإيطالي تطوير معامل ترميم الآثار بالجامعة لخدمة الباحثين    لهذا السبب.. ياسمين عبد العزيز تتصدر تريند "جوجل"    جولة جديدة لأتوبيس الفن الجميل بمتحف الفن الإسلامي    «المشاط» تناقش مع «الأوروبي لإعادة الإعمار» آفاق الاستثمار الخاص ضمن برنامج «نُوَفّي»    الرئيس الصيني: موسكو وبكين تدعوان إلى «حل سياسي» في أوكرانيا    محافظ أسيوط يستقبل مساعد وزير الصحة للمشروعات ويتفقدان مستشفى بني محمديات بمركز أبنوب    «الصحة» تقدم 5 إرشادات مهمة للوقاية من الإصابة بالعدوى خلال فترة الحج 2024    الأحد.. عمر الشناوي ضيف عمرو الليثي في "واحد من الناس"    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    المشدد 6 سنوات لعامل ضبط بحوزته 72 لفافة هيروين في أسيوط    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة في العجوزة    وزير الخارجية اليمني: هجمات الحوثيين لم تضر سوى باليمن وشعبه وأشقائهم العرب    «الداخلية»: ضبط 13 ألف قضية سرقة تيار كهربائي خلال 24 ساعة    "الرعاية الصحية": حل 100% من شكاوى المنتفعين لأول مرة    كولر يحاضر لاعبى الأهلي قبل خوض المران الأول فى تونس    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13166 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    صدام جديد مع ليفربول؟.. مفاجأة بشأن انضمام محمد صلاح لمعسكر منتخب مصر    محافظ أسيوط يستقبل مساعد وزير الصحة ويتفقدان مستشفى بني محمديات بأبنوب    مد فترة التقديم لوظائف القطار الكهربائي الخفيف.. اعرف آخر موعد    «الإفتاء» تحسم الجدل حول مشروعية المديح والابتهالات.. ماذا قالت؟    اليوم.. انطلاق الملتقى التوظيفي لزراعة عين شمس    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    توقعات الأبراج وحظك اليوم 16 مايو 2024: تحذيرات ل«الأسد» ومكاسب مالية ل«الحمل»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    بوتين يصل قاعة الشعب الكبرى في بكين استعدادا للقاء الرئيس الصيني    تنظيم 50 أمسية دينية في المساجد الكبرى بشمال سيناء    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    وزير الرياضة يطلب هذا الأمر من الجماهير بعد قرار العودة للمباريات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استقلالية الشعروالوعي بنظرية الأجناس الأدبية
نشر في صوت البلد يوم 13 - 04 - 2016

أقدّم تصوّري لحدود الأجناس الأدبيّة مستندًا إلى اختيار ثابتٍ ومدروس لمصطلح (الجنس) للدّلالة على الأنواع الأدبيّة الكبرى، ومصطلح النوع للدلالة على الأنواع الصّغرى، وبهذا نتخلص من المرونة والاتِّساع الدّلاليَّيْن.
ويبرهن جاك ديريدا، على نحو مميز، على الحاجة إلى التحديد النوعي، فيلفت إلى أن أي نظام لتصنيف الأنواع لا يمكن الدفاع عنه؛ لأن النصوص المفردة لا يمكن أن تنتسب إليه رغم اشتراكها فيه.
إن النصوص المفردة تتأبى على التصنيف؛ لأنها غير محددة في تأويلها. ويتساءل ديريدا: "يمكن للمرء أن يحدد عملا فنيا من أي نوع هو، لكن ماذا عن عمل فني متطرف، إذا كان لا يحمل علامة النوع؟ ماذا إذا لم تكن له علامة تشير إليه، أو تجعل من الممكن تحديده بأي طريقة؟".
من الممكن أن نجد في الأدب أنواعا تتضمن الرواية وقصيدة الرثاء والتراجيديا وما إلى ذلك، فالأدب نوع يتضمن أنواعا أخرى تحدده. وفي حالة أخرى يمكن لنوع ما أن يقوم بعملية دمج لأنواع متعددة.
لا توجد سمة من سمات النوع – عند ديريدا - يمكنها أن تحصر على نحو كامل ونهائي نصا في نوع أو صنف محدد، لماذا؟ لأن مثل هذا الانتساب للنوع يغيّر ويشوّه مقومات النص.
يقول ديريدا: "إذا كانت مثل هذه السمة (النوعية) لافتة للنظر، فإن الجدير بالملاحظة عندئذ لدى كل عالم جمالٍ، وكل عالم بويطيقا أو مقنن أدبي، هو تأمل هذا التناقض، وهذه المفارقة، عن هذه السمة الإضافية والمحددة، التي هي علامة على الانتساب إلى النوع أو التضمن فيه، ليست مقصورة على نوع أو صنف بالمعنى الضيق للكلمة. إن علامة الانتساب ليست انتسابا، إنه انتساب دون انتساب"..
ومن الواضح أن أكبر تقسيم للأدب هو تقسيمه إلى شعر ونثر، وبالرّغم من وضوح هذا التقسيم، فإنّ هذا الوضوح ظاهريّ فقط، ويتبيّن ذلك عندما ننظر في الأساس أو الأسس التي تفصل بين الشعر والنّثر، ولقد يبدو أنّ النّظم هو الّذي يميّز الشعر عن النّثر.
لكننا نلاحظ أَنَّ واضع نظريّة الفنون الأدبيّة والتمييز بين الشعر والنثر هو أرسطو؛ حيث يقول: "إنّ ما يكتبه المؤرّخ اليونانيّ هيرودوت عن الحرب الفارسيّة اليونانية قد كان من الممكن أن يكتبه نظماً دون أن يدخله ذلك في الشعر"، وذلك لأنّ أرسطو يرى أنّ الشعر في مثل هذه الحالة لا يتميّز عن النثر التّاريخي بقالبه المنظوم، بل يتميّز عنه بمضمونه الشّعريّ، ويطرح هذا الكلام جوهر التّمييز بين الشعر والنّثر الذي لا يتجلى في النّظم وإنّما يتجلّى في المضمون الشعريّ. وهاتان القضيّتان هما ما دارت حولهما نقاشات طويلة وحادّة، ومازالت إمكانيات هذا النقاش تتفاعل إلى يومنا هذا.
يُضاف إلى ذلك، ما ظهر من دعوات لاستقلاليّة الشعر عن أيّ فنّ من الفنون الأخرى، وأوّلها الموسيقى فظهرت في أوروبا "نظريّة الشعر الصّافي Purepoetry: وهي نظريّة قال بها عدد من الشعراء الأوروبيين في القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل هذا القرن، ومضمونها أنّ الشعر يجب أن يقوم بذاته كفنّ "مستقلِّ، له مقوّماته الخاصّة الّتي لا يستمدّها من أيّ فن آخر كفنّ الموسيقى"،
ويجمع الأدباء والنّقّاد على أنّ "أرسطو في كتابه "الشعر" واضع الأسس الّتي تقوم عليها نظريّة "فنون الأدب" والفواصل التي تقوم بين كلّ فنّ وآخر على أساس خصائص من ناحية المضمون ومن ناحية الشكل على السّواء.
وكان أرسطو يلاحظ في عصره أن متون الأدب ينفصل بعضها عن بعضٍ انفصالًا تامّاً، حتّى لنراه يحوّل هذه الملاحظة إلى قاعدة عامّة أخذ بها الكلاسيكيّون في القرن السّابع عشر، وأصبحت من المبادئ الرئيسة للمذهب الكلاسيّ الذي كان إنتاجه أوضح وأكبر ما يكون في فنون المسرح الشعري، حيث نرى الكلاسيكيين ينادون بضرورة فصل التراجيديا عن الكوميديا فصلاً تامّاً، ويعيبون أشدّ العيب أن تتخلل المأساة مشاهد أو شخصيّات فكاهيّة "ويعود ذلك إلى طبيعة كلّ نوع أدبيّ، فالتراجيديا يجب أن تكون مستقلّة عن الكوميديا؛ لأن التداخل يكسر حدّة الإخلاص الفنّي ويخلّ بالمعادل النفسي الذي يقدّمه كلّ نوع.
وفي النقد الحديث فقد قُوضت دعائم مقولة عدم التداخل بين الأجناس، ودعا الكثير إلى تداخل الأجناس الأدبية، انهارت الحدود المرسومة بينهما وأصبحنا نواجه في الشعر مظاهر السرد، كما نجد في السرد مظاهر الشعر المتمثلة خاصة في اللغة الشعرية، فأصبحنا نسمع بشعرية القص، وشعرية المحكي....إلخ فتشعرن السرد وتسردن الشعر.
وبالتالي، يسعى الشاعر إلى خلق نصية مغايرة في جماليتها، حيث تتأسس بنيتها الشعرية على حدود مفهوم الخارج/الداخل. إذ يتضافر البناء الداخلي مع البناء الخارجي؛ لتوصيل التجربة الشعرية.
وربما كان تراسل فنون القول ضرورة تفرضها المرحلة الراهنة بما فيها من تحولات في شكل القصيدة المعاصرة ومضمونها، وما تقتضيه هذه التحولات من بحث عن وسائل تعبيرية يتيحها لجوء الشاعر إلى أجناس أدبية أخرى، يطعم بها إبداعه ويستفيد منها في إغناء تجربته وخلق نموذج ينفتح على المرحلة الراهنة ليرفدها بنماذج لا تقف عند المعطى القديم، بل تتجاوزه من غير أن تلغيه، مستفيدًا مما تقدمه هذه الأجناس من تقنيات متاحة توسع حدود النص وتغني فضاءه.
والإشكاليات المتعلقة بالتجنيس قد سوّغت لبعض النقاد فكرة تحديث الأجناس الأدبية، بيد أن "الوعي بهذه الأجناس على مستوى النقاد العرب والقراء العرب لم يبلغ بعد درجة مرضية وكافية للإقدام على تحديث الأجناس".
ولعل الجاحظ هو أول من استعار مصطلح الجنس للمقولات الأدبية بعد أن نفّض عنها الغبار القاموسي، حين قال "الشعر صناعة وضرب من الصياغة وجنس من التصوير".
وانطلقت أكثر الدراسات التي تصدّت لأجناس الأدب من مفاهيم غربية تبلورت عبر مناقشات طويلة لمقولات أفلاطون وأرسطو. وهي مقولات اشتغلت على طبائع الآداب القديمة ومنذ ذلك والأجناس الأدبية الكبرى هي ذاتها الأجناس المتوفرة على صيغها التعبيرية المتميزة مثل الخطابة والشعر الغنائي والمسرحية إذ إن كل جنس يشير إلى إجناسيته من جهة شحناته التأثيرية وجاذبياته الخاصة المتأصلّة عن الألفاظ والأخيلة والمعاني والمجازات.
واليونان يميزون بين نمطين من الأدب: الأول ذاتي ويتكفّل به الشعر الغنائي، والآخر موضوعي وتتكفلَ به المسرحية والقصة وما يدور معهما وحولهما، ثم تتبلور الخطابة بوصفها جنسًا مركبًا بسبب اشتراطاته النفعية.
إن تقسيم الأدب إلى نثر وشعر لم يحسم المشكلة؛ فقد ارتبط النثر مثلًا بالخطبة والمثل والقصة والسيرة الأدبية (وبدرجة أقل المسرحية التي نشأت شعراً)، كما ارتبط الشعر بالملحمة والغنائيات والمسرحيات الشعرية وبصفة أقل الأمثال والقصص الشعري، الذي حل محل الملاحم الكلاسية الكبرى!
فالقسمة الثنائية تقرّب ولا تحسم "وهي لا تعني شيئًا كثيرًا في صياغة الجنس الواحد إلا بمقدار ما يكون هناك من فرق بين الأداء الشعري في المسرحية مثلًا والأداء النثري".
إن الحدود بين جنسي الشعر والنثر ليست خبيئة على الدارسين: الأجانب والعرب؛ فهي تفصح عن مدخولاتها من خلال إبداع المبدعين ونقد الناقدين، بيد أن تشريح كل جنس من هذين الجنسين وفق علم الأجناس (الجينولوجيا)، لم يلق الاهتمام المناسب لخطورته، ولم نعثر -بحدود اطلاعنا - على جهد مكرّس لدراسة هذه المعضلة العلمية والفنية معًا!
ويبدو أن المعضلة ستستمر؛ فالنقاد العرب لم يتفقوا بعد على دلالات صارمة ومحددة لمقولات الجنس والنوع في أدبينا: القديم والحديث والنقاد العرب المعاصرون لم يستطيعوا بعد ترسيخ مفاهيمها، ومحاولاتهم في هذا الاتجاه مازالت محاولات مدرسية بسيطة متواضعة، محمد مندور، عز الدين إسماعيل. وما يربط هذه المحاولات هو إصرارها على نعت الجنس الأدبي بالفن الأدبي، الأمر الذي أدى إلى زعزعة مفهوم الجنس الأدبي في ذهن القارئ.
يقول عبدالمالك مرتاض في هذا المضمار: فبمقدار ما كانت الهوة سحيقة بين الشعر والنثر الأدبي في العصور القديمة، بمقدار ما اغتدت ضيقة في العصور المتأخرة، حتى أن بعض النظريات النقدية الجديدة تحاول في بعض مقولاتها إزالة الحواجز بين الصناعتين.
.......
د. عادل بدر كاتب وأكاديمي مصري مقيم في الدوحة
أقدّم تصوّري لحدود الأجناس الأدبيّة مستندًا إلى اختيار ثابتٍ ومدروس لمصطلح (الجنس) للدّلالة على الأنواع الأدبيّة الكبرى، ومصطلح النوع للدلالة على الأنواع الصّغرى، وبهذا نتخلص من المرونة والاتِّساع الدّلاليَّيْن.
ويبرهن جاك ديريدا، على نحو مميز، على الحاجة إلى التحديد النوعي، فيلفت إلى أن أي نظام لتصنيف الأنواع لا يمكن الدفاع عنه؛ لأن النصوص المفردة لا يمكن أن تنتسب إليه رغم اشتراكها فيه.
إن النصوص المفردة تتأبى على التصنيف؛ لأنها غير محددة في تأويلها. ويتساءل ديريدا: "يمكن للمرء أن يحدد عملا فنيا من أي نوع هو، لكن ماذا عن عمل فني متطرف، إذا كان لا يحمل علامة النوع؟ ماذا إذا لم تكن له علامة تشير إليه، أو تجعل من الممكن تحديده بأي طريقة؟".
من الممكن أن نجد في الأدب أنواعا تتضمن الرواية وقصيدة الرثاء والتراجيديا وما إلى ذلك، فالأدب نوع يتضمن أنواعا أخرى تحدده. وفي حالة أخرى يمكن لنوع ما أن يقوم بعملية دمج لأنواع متعددة.
لا توجد سمة من سمات النوع – عند ديريدا - يمكنها أن تحصر على نحو كامل ونهائي نصا في نوع أو صنف محدد، لماذا؟ لأن مثل هذا الانتساب للنوع يغيّر ويشوّه مقومات النص.
يقول ديريدا: "إذا كانت مثل هذه السمة (النوعية) لافتة للنظر، فإن الجدير بالملاحظة عندئذ لدى كل عالم جمالٍ، وكل عالم بويطيقا أو مقنن أدبي، هو تأمل هذا التناقض، وهذه المفارقة، عن هذه السمة الإضافية والمحددة، التي هي علامة على الانتساب إلى النوع أو التضمن فيه، ليست مقصورة على نوع أو صنف بالمعنى الضيق للكلمة. إن علامة الانتساب ليست انتسابا، إنه انتساب دون انتساب"..
ومن الواضح أن أكبر تقسيم للأدب هو تقسيمه إلى شعر ونثر، وبالرّغم من وضوح هذا التقسيم، فإنّ هذا الوضوح ظاهريّ فقط، ويتبيّن ذلك عندما ننظر في الأساس أو الأسس التي تفصل بين الشعر والنّثر، ولقد يبدو أنّ النّظم هو الّذي يميّز الشعر عن النّثر.
لكننا نلاحظ أَنَّ واضع نظريّة الفنون الأدبيّة والتمييز بين الشعر والنثر هو أرسطو؛ حيث يقول: "إنّ ما يكتبه المؤرّخ اليونانيّ هيرودوت عن الحرب الفارسيّة اليونانية قد كان من الممكن أن يكتبه نظماً دون أن يدخله ذلك في الشعر"، وذلك لأنّ أرسطو يرى أنّ الشعر في مثل هذه الحالة لا يتميّز عن النثر التّاريخي بقالبه المنظوم، بل يتميّز عنه بمضمونه الشّعريّ، ويطرح هذا الكلام جوهر التّمييز بين الشعر والنّثر الذي لا يتجلى في النّظم وإنّما يتجلّى في المضمون الشعريّ. وهاتان القضيّتان هما ما دارت حولهما نقاشات طويلة وحادّة، ومازالت إمكانيات هذا النقاش تتفاعل إلى يومنا هذا.
يُضاف إلى ذلك، ما ظهر من دعوات لاستقلاليّة الشعر عن أيّ فنّ من الفنون الأخرى، وأوّلها الموسيقى فظهرت في أوروبا "نظريّة الشعر الصّافي Purepoetry: وهي نظريّة قال بها عدد من الشعراء الأوروبيين في القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل هذا القرن، ومضمونها أنّ الشعر يجب أن يقوم بذاته كفنّ "مستقلِّ، له مقوّماته الخاصّة الّتي لا يستمدّها من أيّ فن آخر كفنّ الموسيقى"،
ويجمع الأدباء والنّقّاد على أنّ "أرسطو في كتابه "الشعر" واضع الأسس الّتي تقوم عليها نظريّة "فنون الأدب" والفواصل التي تقوم بين كلّ فنّ وآخر على أساس خصائص من ناحية المضمون ومن ناحية الشكل على السّواء.
وكان أرسطو يلاحظ في عصره أن متون الأدب ينفصل بعضها عن بعضٍ انفصالًا تامّاً، حتّى لنراه يحوّل هذه الملاحظة إلى قاعدة عامّة أخذ بها الكلاسيكيّون في القرن السّابع عشر، وأصبحت من المبادئ الرئيسة للمذهب الكلاسيّ الذي كان إنتاجه أوضح وأكبر ما يكون في فنون المسرح الشعري، حيث نرى الكلاسيكيين ينادون بضرورة فصل التراجيديا عن الكوميديا فصلاً تامّاً، ويعيبون أشدّ العيب أن تتخلل المأساة مشاهد أو شخصيّات فكاهيّة "ويعود ذلك إلى طبيعة كلّ نوع أدبيّ، فالتراجيديا يجب أن تكون مستقلّة عن الكوميديا؛ لأن التداخل يكسر حدّة الإخلاص الفنّي ويخلّ بالمعادل النفسي الذي يقدّمه كلّ نوع.
وفي النقد الحديث فقد قُوضت دعائم مقولة عدم التداخل بين الأجناس، ودعا الكثير إلى تداخل الأجناس الأدبية، انهارت الحدود المرسومة بينهما وأصبحنا نواجه في الشعر مظاهر السرد، كما نجد في السرد مظاهر الشعر المتمثلة خاصة في اللغة الشعرية، فأصبحنا نسمع بشعرية القص، وشعرية المحكي....إلخ فتشعرن السرد وتسردن الشعر.
وبالتالي، يسعى الشاعر إلى خلق نصية مغايرة في جماليتها، حيث تتأسس بنيتها الشعرية على حدود مفهوم الخارج/الداخل. إذ يتضافر البناء الداخلي مع البناء الخارجي؛ لتوصيل التجربة الشعرية.
وربما كان تراسل فنون القول ضرورة تفرضها المرحلة الراهنة بما فيها من تحولات في شكل القصيدة المعاصرة ومضمونها، وما تقتضيه هذه التحولات من بحث عن وسائل تعبيرية يتيحها لجوء الشاعر إلى أجناس أدبية أخرى، يطعم بها إبداعه ويستفيد منها في إغناء تجربته وخلق نموذج ينفتح على المرحلة الراهنة ليرفدها بنماذج لا تقف عند المعطى القديم، بل تتجاوزه من غير أن تلغيه، مستفيدًا مما تقدمه هذه الأجناس من تقنيات متاحة توسع حدود النص وتغني فضاءه.
والإشكاليات المتعلقة بالتجنيس قد سوّغت لبعض النقاد فكرة تحديث الأجناس الأدبية، بيد أن "الوعي بهذه الأجناس على مستوى النقاد العرب والقراء العرب لم يبلغ بعد درجة مرضية وكافية للإقدام على تحديث الأجناس".
ولعل الجاحظ هو أول من استعار مصطلح الجنس للمقولات الأدبية بعد أن نفّض عنها الغبار القاموسي، حين قال "الشعر صناعة وضرب من الصياغة وجنس من التصوير".
وانطلقت أكثر الدراسات التي تصدّت لأجناس الأدب من مفاهيم غربية تبلورت عبر مناقشات طويلة لمقولات أفلاطون وأرسطو. وهي مقولات اشتغلت على طبائع الآداب القديمة ومنذ ذلك والأجناس الأدبية الكبرى هي ذاتها الأجناس المتوفرة على صيغها التعبيرية المتميزة مثل الخطابة والشعر الغنائي والمسرحية إذ إن كل جنس يشير إلى إجناسيته من جهة شحناته التأثيرية وجاذبياته الخاصة المتأصلّة عن الألفاظ والأخيلة والمعاني والمجازات.
واليونان يميزون بين نمطين من الأدب: الأول ذاتي ويتكفّل به الشعر الغنائي، والآخر موضوعي وتتكفلَ به المسرحية والقصة وما يدور معهما وحولهما، ثم تتبلور الخطابة بوصفها جنسًا مركبًا بسبب اشتراطاته النفعية.
إن تقسيم الأدب إلى نثر وشعر لم يحسم المشكلة؛ فقد ارتبط النثر مثلًا بالخطبة والمثل والقصة والسيرة الأدبية (وبدرجة أقل المسرحية التي نشأت شعراً)، كما ارتبط الشعر بالملحمة والغنائيات والمسرحيات الشعرية وبصفة أقل الأمثال والقصص الشعري، الذي حل محل الملاحم الكلاسية الكبرى!
فالقسمة الثنائية تقرّب ولا تحسم "وهي لا تعني شيئًا كثيرًا في صياغة الجنس الواحد إلا بمقدار ما يكون هناك من فرق بين الأداء الشعري في المسرحية مثلًا والأداء النثري".
إن الحدود بين جنسي الشعر والنثر ليست خبيئة على الدارسين: الأجانب والعرب؛ فهي تفصح عن مدخولاتها من خلال إبداع المبدعين ونقد الناقدين، بيد أن تشريح كل جنس من هذين الجنسين وفق علم الأجناس (الجينولوجيا)، لم يلق الاهتمام المناسب لخطورته، ولم نعثر -بحدود اطلاعنا - على جهد مكرّس لدراسة هذه المعضلة العلمية والفنية معًا!
ويبدو أن المعضلة ستستمر؛ فالنقاد العرب لم يتفقوا بعد على دلالات صارمة ومحددة لمقولات الجنس والنوع في أدبينا: القديم والحديث والنقاد العرب المعاصرون لم يستطيعوا بعد ترسيخ مفاهيمها، ومحاولاتهم في هذا الاتجاه مازالت محاولات مدرسية بسيطة متواضعة، محمد مندور، عز الدين إسماعيل. وما يربط هذه المحاولات هو إصرارها على نعت الجنس الأدبي بالفن الأدبي، الأمر الذي أدى إلى زعزعة مفهوم الجنس الأدبي في ذهن القارئ.
يقول عبدالمالك مرتاض في هذا المضمار: فبمقدار ما كانت الهوة سحيقة بين الشعر والنثر الأدبي في العصور القديمة، بمقدار ما اغتدت ضيقة في العصور المتأخرة، حتى أن بعض النظريات النقدية الجديدة تحاول في بعض مقولاتها إزالة الحواجز بين الصناعتين.
.......
د. عادل بدر كاتب وأكاديمي مصري مقيم في الدوحة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.