تختلف مستويات السرد في رواية مئة وثمانون غروبا للروائي اللبناني حسن داوود باختلاف طبيعة ممارسات الراوي السارد وتجربته الحياتية الناشئة عن تداخل العلاقات الإنسانية الملتبسة والدائرة على مدار الزمن الذي يحمله عنوان النص باعتبار العنوان هو سلطة النص والكاشف عن بعدي التعامل معه دلاليا ورمزيا. ربما كانت هذه المئة والثمانون غروبا هي نصف العام الذي جرت فيه هذه الأحداث المتواترة والمبعثرة على وجه هذه الشريحة من الحياة في هذا المكان، فمستويات السرد وتعقب الأحداث والشخوص منذ الاستهلال الأول في زمنها المتواتر تختزل علاقة الإنسان بالمكان وتوحده الذاتي معه. وهو ما يجسد لعدة أسئلة تدور مع وقائع النص المتواجدة في هاجس كل راو على حدة، والكاتب هنا يتوخى في أجزاء النص الثمانية الحاملة في مبتدئها ونهايتها طرحا خاصا لما يدور على أرض هذا المكان وعلى وجه التحديد في طريق منطقة شبه عشوائية تسمى الزهرانية من أمور وأحوال تبدو لأول وهلة عبثية وغير منطقية في طريقة تشكلها واختيار شخوصها وتعاملهم جميعا مع هذا المكان الذي يمثل طريقا عابرا تسير فيه السيارات المارة يمينا ويسارا والمحتوي على بضع محلات وبنايات ذات طابع عشوائي ودكاكين، خاصة دكان بيع لعب الأطفال الذي يملكه شقيقان يمثلان معا بؤرة خاصة في نسيج النص، كما يمثل طرح المكان منذ البداية وحتى النهاية متناقضات عدة تحمل في طياتها كثافة من الصمت والخواء كما تحمل معها في نفس الوقت صخبا وعنفا تتفاعل فيه الشخصيات مع أحداث تحدث على أرض المكان يعرضها الراوي في كل فصل حسب طبيعة تفاعله مع تجربته الذاتية المتماهية مع جبلتة وطبيعة تكونّه. ولا شك أن تفاعل جبلة الشخصية مع جبلة المكان الغرائبي تبدو تماما كحقيقة معاشة ترتبط فيها الشخصية ارتباطا وثيقا بإشكالية المنظور والرؤية في ذات المكان الذي بدوره يتوحد تماما مع طبيعة المكان الطريق بجغرافيته المحددة، شاطئ البحر القابع خلف البنايات من جهات ونواح عدة كذلك طبيعة كل شخصية مع ذاتها ومع ما يحيط بها من أحوال وأفعال تختلف باختلاف الشخصية وردود الأفعال الحاصلة معها، الأخوان أصحاب محل بيع لعب الأطفال، تيسير ووالده صاحب المصنع الصغيرالقائم في البناية التي يسكنها، بعض شخصيات ذات نزعة تميل إلى المشاكسة والتلصص وأحيانا القتال. كل هذا من خلال استخدام لغة الحياة اليومية اللاقطة لتفاصيل ممارسات عادية وغير عادية تدور في هذا المكان الباعث على الدهشة وأيضا في معالم ما يدور على أرض الزهرانية المكان الذي اعتمد عليه الكاتب في تحديد ماهية الرؤية وعمق التجربة في هذا المعمار الروائي المتعدد المستويات والمختلف الرؤى في طريقة سرده وعرضه والمرتكز على بنية سردية موغلة في الذاتية عند كل راو وموغلة في طرح أسئلتها وتحديد ماهية أبعاد التجديد في سردها وبنيتها، فهذه الكتابة السردية الموحية الآخذة في طريقة عرضها بتدفق وتأن وتعمق في الفعل ورد الفعل الناشئ من خلال تجسيد اللحظة النصية بفعلها وحدسها وواقعها عبر تجربة ذات الشخصية الراوية للحدث والمنشأة في نفس الوقت خطوط تعتمد على طبيعة الذات بصخبها والعنف الدائر فيها ومسكوتها وتأمل التخييل في واقعها وبين صورتها الآخذة في التحول منذ البداية النصية والبادئة بهذه العبارة الدالة والحاملة لتساؤل إشكالية هذا السيل من الأفكار المتسابقة في ذهن الشخصية: على رغم انقضاء عشرين سنة على وصولى إلى الزهرانية، حيث ما زلت أقيم، أراني كما أنني انتبهت الآن إلى أن لا مقبرة فيها (ص5). ولا شك أن المكان هنا أو الزهرانية البعيدة عن العمران، والمقيم فيها عدد محدود من الناس جاؤوا من خارجه يبدو وكأنه منتجع أو مكان لراحة العابرين وسوق لشراء بعض الحاجيات العابرة المطلوبة كهدايا ولوازم أخرى، المكان يطل على البحر ويأخذ شكلا هندسيا تعمل فيه المباني المقامة والدكاكين الخارجة منها دورا مهما في بلورة الأحداث وتشكيلها وتحديد العلاقات المقامة بين سكان هذا المكان وبين ساكنيه والحالة النفسية المتأثرة بطبيعة ما يدور فيه من ممارسات فجة. والنص كما قال عنه الشاعر عباس بيضون في التذييلات الأخيرة التي صاحبته: إنه عمارة روائية ستتوقف كثيرا عند البناء، عند هذا التوازن الكبير بين القص والتأمل، بين التخييل والواقع وبين الصورة والخبر. (الغلاف الأخير)، إضافة إلى ذلك هي فعلا عمارة روائية لها عدة طوابق في كل طابق يسرد صاحبه رؤيته ويستعرض معالم شريحة من عالمه الخاص ويحدد من خلاله علاقته بالمكان وعلاقته بما يحيط حوله من بشر لهم خصوصية في المعيشة وفي واقعهم الذاتي، استطاع الكاتب في هذا الصخب وهذا العنف أن يجسد ما يحويه المكان داخله من صخب إيحائي يتجلى في الرغبة التي تتلبس الجميع، الأخواّن أصحاب محل اللعب اللذان يشغلان جزءا من بناية على الطريق ويقطنان نفس البناية، وأسرة كبيرة العدد تشغل بقية البناية لا تستقر أحوالهم على شيء محدد، يلعب الجنس دوره من خلال نساء الأسرة من بين الفاعل والمتخيّل، وبيت آخر يشبه القلعة يقطنه رجل له سطوته الخاصة على المكان وعلى أسرته المكونة من عدة أبناء له أبن يشبه إلى حد كبير أبله ديستويفسكي، وشخوص أخرى تتبدى رغباتها الشاذة في التلصص والتحول إلى عشوائية المكان ومحاول التحّور معه إلى الاقتتال والسيطرة والقمع. لقد بدا المكان في صخبه وعنفه تتحول فيه اللحظات العادية إلى لحظات تحمل نذر الحرب ومظاهر التوتر والقمع. ولعل الإيقاع الروائي لنص مئة وثمانون غروبا قد جاء إيقاعا هادئا متوازنا منذ البداية مع طبيعة النص ثم لا يلبث أن يتسارع تدريجيا أثناء حدوث أزمات سطوة الأب على تيسير وأخيه في منزلهما المغلق وعلى تلصص الشباب على ما يحدث بين تيسير وسلمى وزوجة أخيها وبين هذه الحياة الهادئة عند الأخوين التخين والأخ الصغير، ثم تبدأ عجلة الحرب ويلبس بعض الشباب الملابس العسكرية فتتسارع حدة الإيقاع حتى تصمت تماما عندما يقتل الفتى الأبله الذي يتاجر في العصافير تيسير الشاب الأخرق ميخا صاحب السطوة والقهر في هذه المشاهد جميعها. لقد كانت الزهرانية في هذا النص الملتبس هي ساحة الحرب في لبنان في مخاضها وصخبها وعنف أحداثها بل وفي خوائها وعربدة المئة وثمانين غروبا التي تواجدت في النص بصور مختلفة من خلال أصوات الرواة. النص من النصوص الصوتية التي يحمل كل صوت فيها ملامح تجربته كاملة، وملامح التفاعل مع الحياة بعبثها والتباساتها وصخبها وعنفها وشهواتها المختلفة. ------ ناقد من مصر