تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المعماري إيلي حداد: نعيش اليوم فكرة موت المدينة
نشر في صوت البلد يوم 18 - 05 - 2016

يعد موضوع الذاكرة التاريخية والاجتماعية للعمارة، واحدا من المواضيع التي لا تحظى باهتمام واسع داخل حقلنا الثقافي العربي، حيث ما تزال النظرة إلى مسألة العمارة وكأنها مجرد وظيفة خدماتية هدفها «تجهيز المدن» والضواحي وتأمين الحاجات الوظيفية من سكن إلى مبان حكومية ومؤسساتية، من دون أي عمق فلسفي، اجتماعي أو سياسي. وبالتالي عادة ما يتم تحجيم دور البعد الأنثربولوجي للعمارة إلى مسألة هامشية تتعلق بالذوق الشخصي للمستهلك، أو للمطور العقاري في أغلب الأحيان.
وللأسف هذا التجاهل والمفهوم الخاطئ للعمارة ولدورها التاريخي كغلاف حيوي للأنشطة الاجتماعية، بات يمتد إلى قسم كبير من التلامذة في كليات العمارة في جامعاتنا العربية، حيث اكتسح النمط الاستهلاكي الكلاسيكي لدراسة العمارة مستبدلا إياها بمفاهيم «استعراضية» تحولها إلى سلعة تسويقية ضمن مجتمع «مشهدي» بات أسيرا لطغيان استبدال التراث الثقافي أو المادي بمستوردات اصطناعية الشكل ومفرغة المحتوى، وأصبح أمرا طبيعيا لا يثير سخط المجتمع واستهجانه، لا بل ينال الاستحسان من أكثريته.
في هذا السياق يرى الأكاديمي والمعماري اللبناني إيلي حداد في كتابه «إشكالية العمارة الحداثية» دار الفارابي، أننا نعيش اليوم نهاية فكرة المدينة. ذلك أن الأخطار التي تهدد مدننا ما عادت تتعلق بأمور التلوث البيئي والتزايد السكاني فقط، وإنما أخذت تمتد إلى مفهوم المدينة كجسم يجسد حضارة ما وفلسفة للحياة، خاصة في ظل خطر الذوبان داخل «الاقتصاد العالمي الحر» الذي لم يعد يتوقف عند خصوصيات معينة، بل أخذ يبرر لنفسه إزالة مناطق سكنية كاملة إذا ما تبين أن هناك حاجة إلى منشآت صناعية أو تجارية في ذلك المكان.
وبرأي حداد، فإن الإحساس الفني في فترة ما قبل الحداثة كان يلعب دورا أساسيا في وضع تصاميم جذابة وعملية للمدن، بينما يرزح عالمنا اليوم تحت القوانين والنظريات التي لا توصل إلى النتيجة المرجوة. فالفنان والمعماري في عصرنا أصبحا يفتقدان شيئا أساسيا، ألا وهو الإحساس المرهف بالأشياء وعلاقتها بعضها ببعض، أضف إلى ذلك تلزيم عملية تصميم المدن في معظم الأحيان إلى مهندسين مدنيين يرون المدينة مجموعة من البنى التحتية لا أكثر. وبخلاف المبادئ الحداثية التي تفضل تحرير الأبنية بعضها عن بعض، ومنها لأسباب صحية، عملية أو أيديولوجية، فإن المدن التاريخية كانت تشهد على مبدأ التلاصق بين الأبنية وحتى الدينية منها لا تنجو من هذا التدبير.
من جانب آخر، يرى أن النظريات الحداثية الجديدة، وأبرزها نظريات لوكوربوزيه في «المدينة المشعة» أعطت أولوية للعوامل الطبيعية مثل الهواء والشمس والضوء، ودورها في تنقية وتطهير المدينة التاريخية، لتعيد تركيبها على أسس جديدة، مترجمة بذلك فكرة الإنسان الجديد المحرر من النسيج التاريخي الذي وصفه لوكوربوزيه ب«طريق الحمير»، الذي أخذ يعني أن المخطط المعماري في هذه المدن التاريخية لا يعدو كونه مخططا رسمته حوافر الماشية في شقها للطرق، وأن البديل يكمن في المدينة المنظمة على أسس عقلانية ومبنية على محاور هندسية تلعب فيها وسائل النقل الحديثة الدور الأبرز في رسم هيكليتيها.
العمارة وما بعد الحداثة:
من جهة أخرى، يرى حداد أن هذه النظريات الحداثية لم تلاق النجاح المنتظر عند تطبيقها داخل المدن الأوروبية والأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، فأدت لردات فعل مضادة لهذه الطروحات في الستينيات ومن مجالات مختلفة. فالباحثة في علم الاجتماع جاين جاكوبز، أظهرت في كتابها «موت وحياة المدن الكبرى الأمريكية» أن اكثر الأحياء أمانا وحيوية في المدن ليست تلك التي رسمها مهندسو المدينة في القرن العشرين، وإنما تلك الأحياء التاريخية التي نشأت بشكل طبيعي عبر القرون، ومن أبرز خصائصها الاختلاط الطبقي الاجتماعي. تنوع أشكال العمارة فيها، إضافة إلى أهمية أرصفة المشاة كأماكن للالتقاء في المدينة، وبعدها يأتي دور الحدائق العامة في الأحياء المختلفة، ومن ثم دور الأحياء السكنية في المدينة. ووفقا لحداد، فقد شكل الرصيف، هذا التفصيل المبتذل في مدننا، أحد الأسس لحياة الناس في الأحياء العربية التقليدية، حيت تشكل النشاطات المختلفة عبر النهار، من النساء اللواتي يخرجن في نزهة صباحية إلى النشاطات الاقتصادية إلى الأولاد الذين يلعبون بعد الظهر على الرصيف، سيمفونية حياتية غير ممكنة في الأحياء التي تفتقد هذا المجال الحيوي.. ووفقا لحداد، فإن ما سمي ب»ما بعد الحداثة» لا يمثل بالضرورة عودة رومنطيقية يائسة إلى ماض لم يعد موجودا إلا في الخيال، بل هو عودة تسعى بالأساس إلى خلق أشكال جديدة تتناسب مع واقع المدينة التاريخي، وبالتالي تؤمن استمراريتها. هذه الأشكال في النتيجة تصبح عند تكوينها «جديدة – قديمة» أي تختلط فيها الحداثة مع التراث، والواقع مع الذاكرة. فالإيطالي ألدور روسي، مثلا الذي يعد واحدا من أهم رواد الرؤية ما بعد الحداثية للعمارة، رفض فكرة تحويل المدينة التاريخية إلى متحف يفتقد الحياة، بل أصر على فكرة الاستمرارية في حياة المدينة والتفاعل الدائم بين الحاضر والماضي والمستقبل..
فالصرح المدني بالنسبة إلى روسي يلعب دورا مهما في استمرارية المدينة، وهو لا يرتبط بشكل محدد أو بوظيفة معينة، إنما يتحول ويتأقلم مع الزمن، وهو لا يقتصر على الأبنية أو الصروح المهمة فحسب، إنما قد ينتشر إلى تشخيص منطقة ما أو شارع بأكمله.
وبناء على الرؤية السابقة لروسي، يجري مقارنة بينه وبين مشروع المعمارية الراحلة زها حديد، فيتبين لنا (بحسب حداد) مدى الاختلاف الشاسع بين النظرتين المعماريتين. مشروع حديد انطلق من نظرة مستقبلية إلى المدينة، تترجم بعض المبادئ التطورية من «سرعة» و»حركة» و»ديناميكة» إلى أشكال تجسد هذه الطروحات وتشكل الإطار المسبق للوظائف التي توضع فيها. في نظرية حديد، تختفي المدينة إذن بمكوناتها الكلاسيكية لتحل محلها فكرة الفضاء المفتوح الخاضع لمنظومات العصر الحديث. أما عند روسي فإن المدينة تبقى «مكانا» لحياة المواطنين، حياة أبناء المدينة الذين يؤمونها ليتجولوا في ماضيهم، كما في الحاضر، وعلى أقدامهم وليس في سيارة مسرعة في جادات واسعة بلا أفق. تبقى المدينة أكثر من حفنة تراب أو مجال للاستثمار والربح المادي في نظر المعماريين الذين يؤمنون بالدور الاجتماعي الحضاري الذي تلعبه المدينة، والذي يتخطى «اللعبة» التشكيلية التي جذبت العديد من المعماريين في عصرنا. فالبناء الواحد ليس هو الأساس في عملية تكوين النسيج المدني، إلا إذا كان له دور محوري في حياة المدينة (الجامع/الكنيسة/المدرسة/المركز البلدي….) أما الجهود التي يبذلها المعماريون لإظهار كل بناء جديد وكأنه فريد في محيطه إنما هي عملية متناقضة مع الأسس المدنية المبنية على المشاركة والتفاعل والانسجام، وهذا ما أصبحنا نفتقده في الكثير من المشاريع الحديثة، كما في نظرتنا الأوسع إلى المدينة.
المدينة والفساد السياسي في بيروت
وبالعودة إلى الفكرة الأساسية التي طرحها حداد في بداية كتابه حول «موت المدينة»، يرى الكاتب أن الفساد السياسي قد أسس لفساد اجتماعي وثقافي تظهر نتائجه في مختلف أشكال الفن من نحت ورسم إلى مسرح وعمارة، وهي في معظمها تشكل إفلاسا فنيا قياسا على التجارب العالمية. وهنا يشير حداد إلى رؤية عالم العمارة العراقي رفعت الجادرجي الذي يرى «أن فن العمارة مرتبط بواقع محيطه، وليس عليه بالتالي أن يكون تابعا لأشكال العمارة التي تظهر في الغرب، بل عليه أن يلعب دوره كأحد الأسس للاجتماع حيثما ينشأ.» ولكن كما يشير أيضا هذا المعماري «فإن العمارة لا تبقى خارج تحولات العصر وإنجازاته». إن الفساد المعماري الذي نعيشه يتجلى أيضا في انهيار الأسس المدنية للعمارة التي من شأنها أن تؤمن التمايز بين المدينة والقرية وتحافظ على المساحات الخضراء والأبنية القديمة.. كل هذا يشهد الآن عملية تدمير كاملة تحت تأثير لعبة الاستثمارات العقارية وغياب تام للأقانيم التي من شأنها الحفاظ على البيئة كأساس للحفاظ على الاقتصاد والاجتماع.
ولمواجهة هذه الإشكالية، يقترح علينا الاستفادة من بعض التجارب التي حاولت التوفيق بين المفاهيم الحداثية والتقليدية للعمارة (الصين مثلا)، التي رغم استيرادها لأعمال نجوم العمارة الغربيين في العقود القليلة الماضية، في سياق مجاراتها للعبة الاقتصادية العالمية، إلا أنها لم تمنع جيلا جديدا من المعماريين الصينيين من أن يبحث عن خط وسطي يرتكز في جانب من جوانبه على إعادة إحياء التقنيات الحرفية واستعمال المواد المحلية، خصوصا الطبيعية منها، مثل الخشب والخيزران، وهو ما سمح بأن يحل البحث عن الحواس والجمالية الداخلية مكان طغيان المظاهر الخارجية المذهلة التي تطبع العمارة السطحية المستوردة من الخارج، وبذلك تعود العمارة إلى نطاق الطبيعة بدل تأكيدها الانفصال عنها، خاصة أن التاريخ – وفقا لحداد- لن ينظر بانبهار إلى الإبداعات المستوردة والمنقولة من الخارج، بقدر ما سيلتفت بإعجاب إلى نتائج المحلي الذي يأتي نتيجة تطور وصراع طبيعي مع مسلتزمات المكان والزمان وطبيعة الأرض والمناخ، ونتيجة تفاعل مع الرغبات الجماعية التي تستمد بدورها شرعيتها التاريخية من التراث والهوية، وهذه كلها يصعب على أي معماري أجنبي قراءتها أو استلهامها في زيارة مؤقتة إلى بلدان أخرى.
هذه ليست دعوة للتقوقع أو الرجوع إلى الوراء، بل إلى إعادة اكتشاف الذات، مع اليقين الكامل بموقعنا التاريخي، كي لا نفقد ارتباطنا بالزمان والمكان. ففي وجه غطرسة مفهوم «الإبداع» الذي يرتكز على الاقتصاد الحر وعلى التدمير المنهجي للنسيج المديني، لا بد لنا من تقديم رؤية أخرى للإبداع ترتكز على احترام التراث القديم والحديث وعلى مقاومة الاستيراد اللانقدي للمفاهيم الغربية. عندئذ فقط يمكننا إعادة اللحمة التاريخية مع التراث الإقليمي والمحلي، بشكل يعيد إلى الحركة التاريخية قيمتها وارتباطها بواقعها السياسي والاجتماعي…
يعد موضوع الذاكرة التاريخية والاجتماعية للعمارة، واحدا من المواضيع التي لا تحظى باهتمام واسع داخل حقلنا الثقافي العربي، حيث ما تزال النظرة إلى مسألة العمارة وكأنها مجرد وظيفة خدماتية هدفها «تجهيز المدن» والضواحي وتأمين الحاجات الوظيفية من سكن إلى مبان حكومية ومؤسساتية، من دون أي عمق فلسفي، اجتماعي أو سياسي. وبالتالي عادة ما يتم تحجيم دور البعد الأنثربولوجي للعمارة إلى مسألة هامشية تتعلق بالذوق الشخصي للمستهلك، أو للمطور العقاري في أغلب الأحيان.
وللأسف هذا التجاهل والمفهوم الخاطئ للعمارة ولدورها التاريخي كغلاف حيوي للأنشطة الاجتماعية، بات يمتد إلى قسم كبير من التلامذة في كليات العمارة في جامعاتنا العربية، حيث اكتسح النمط الاستهلاكي الكلاسيكي لدراسة العمارة مستبدلا إياها بمفاهيم «استعراضية» تحولها إلى سلعة تسويقية ضمن مجتمع «مشهدي» بات أسيرا لطغيان استبدال التراث الثقافي أو المادي بمستوردات اصطناعية الشكل ومفرغة المحتوى، وأصبح أمرا طبيعيا لا يثير سخط المجتمع واستهجانه، لا بل ينال الاستحسان من أكثريته.
في هذا السياق يرى الأكاديمي والمعماري اللبناني إيلي حداد في كتابه «إشكالية العمارة الحداثية» دار الفارابي، أننا نعيش اليوم نهاية فكرة المدينة. ذلك أن الأخطار التي تهدد مدننا ما عادت تتعلق بأمور التلوث البيئي والتزايد السكاني فقط، وإنما أخذت تمتد إلى مفهوم المدينة كجسم يجسد حضارة ما وفلسفة للحياة، خاصة في ظل خطر الذوبان داخل «الاقتصاد العالمي الحر» الذي لم يعد يتوقف عند خصوصيات معينة، بل أخذ يبرر لنفسه إزالة مناطق سكنية كاملة إذا ما تبين أن هناك حاجة إلى منشآت صناعية أو تجارية في ذلك المكان.
وبرأي حداد، فإن الإحساس الفني في فترة ما قبل الحداثة كان يلعب دورا أساسيا في وضع تصاميم جذابة وعملية للمدن، بينما يرزح عالمنا اليوم تحت القوانين والنظريات التي لا توصل إلى النتيجة المرجوة. فالفنان والمعماري في عصرنا أصبحا يفتقدان شيئا أساسيا، ألا وهو الإحساس المرهف بالأشياء وعلاقتها بعضها ببعض، أضف إلى ذلك تلزيم عملية تصميم المدن في معظم الأحيان إلى مهندسين مدنيين يرون المدينة مجموعة من البنى التحتية لا أكثر. وبخلاف المبادئ الحداثية التي تفضل تحرير الأبنية بعضها عن بعض، ومنها لأسباب صحية، عملية أو أيديولوجية، فإن المدن التاريخية كانت تشهد على مبدأ التلاصق بين الأبنية وحتى الدينية منها لا تنجو من هذا التدبير.
من جانب آخر، يرى أن النظريات الحداثية الجديدة، وأبرزها نظريات لوكوربوزيه في «المدينة المشعة» أعطت أولوية للعوامل الطبيعية مثل الهواء والشمس والضوء، ودورها في تنقية وتطهير المدينة التاريخية، لتعيد تركيبها على أسس جديدة، مترجمة بذلك فكرة الإنسان الجديد المحرر من النسيج التاريخي الذي وصفه لوكوربوزيه ب«طريق الحمير»، الذي أخذ يعني أن المخطط المعماري في هذه المدن التاريخية لا يعدو كونه مخططا رسمته حوافر الماشية في شقها للطرق، وأن البديل يكمن في المدينة المنظمة على أسس عقلانية ومبنية على محاور هندسية تلعب فيها وسائل النقل الحديثة الدور الأبرز في رسم هيكليتيها.
العمارة وما بعد الحداثة:
من جهة أخرى، يرى حداد أن هذه النظريات الحداثية لم تلاق النجاح المنتظر عند تطبيقها داخل المدن الأوروبية والأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، فأدت لردات فعل مضادة لهذه الطروحات في الستينيات ومن مجالات مختلفة. فالباحثة في علم الاجتماع جاين جاكوبز، أظهرت في كتابها «موت وحياة المدن الكبرى الأمريكية» أن اكثر الأحياء أمانا وحيوية في المدن ليست تلك التي رسمها مهندسو المدينة في القرن العشرين، وإنما تلك الأحياء التاريخية التي نشأت بشكل طبيعي عبر القرون، ومن أبرز خصائصها الاختلاط الطبقي الاجتماعي. تنوع أشكال العمارة فيها، إضافة إلى أهمية أرصفة المشاة كأماكن للالتقاء في المدينة، وبعدها يأتي دور الحدائق العامة في الأحياء المختلفة، ومن ثم دور الأحياء السكنية في المدينة. ووفقا لحداد، فقد شكل الرصيف، هذا التفصيل المبتذل في مدننا، أحد الأسس لحياة الناس في الأحياء العربية التقليدية، حيت تشكل النشاطات المختلفة عبر النهار، من النساء اللواتي يخرجن في نزهة صباحية إلى النشاطات الاقتصادية إلى الأولاد الذين يلعبون بعد الظهر على الرصيف، سيمفونية حياتية غير ممكنة في الأحياء التي تفتقد هذا المجال الحيوي.. ووفقا لحداد، فإن ما سمي ب»ما بعد الحداثة» لا يمثل بالضرورة عودة رومنطيقية يائسة إلى ماض لم يعد موجودا إلا في الخيال، بل هو عودة تسعى بالأساس إلى خلق أشكال جديدة تتناسب مع واقع المدينة التاريخي، وبالتالي تؤمن استمراريتها. هذه الأشكال في النتيجة تصبح عند تكوينها «جديدة – قديمة» أي تختلط فيها الحداثة مع التراث، والواقع مع الذاكرة. فالإيطالي ألدور روسي، مثلا الذي يعد واحدا من أهم رواد الرؤية ما بعد الحداثية للعمارة، رفض فكرة تحويل المدينة التاريخية إلى متحف يفتقد الحياة، بل أصر على فكرة الاستمرارية في حياة المدينة والتفاعل الدائم بين الحاضر والماضي والمستقبل..
فالصرح المدني بالنسبة إلى روسي يلعب دورا مهما في استمرارية المدينة، وهو لا يرتبط بشكل محدد أو بوظيفة معينة، إنما يتحول ويتأقلم مع الزمن، وهو لا يقتصر على الأبنية أو الصروح المهمة فحسب، إنما قد ينتشر إلى تشخيص منطقة ما أو شارع بأكمله.
وبناء على الرؤية السابقة لروسي، يجري مقارنة بينه وبين مشروع المعمارية الراحلة زها حديد، فيتبين لنا (بحسب حداد) مدى الاختلاف الشاسع بين النظرتين المعماريتين. مشروع حديد انطلق من نظرة مستقبلية إلى المدينة، تترجم بعض المبادئ التطورية من «سرعة» و»حركة» و»ديناميكة» إلى أشكال تجسد هذه الطروحات وتشكل الإطار المسبق للوظائف التي توضع فيها. في نظرية حديد، تختفي المدينة إذن بمكوناتها الكلاسيكية لتحل محلها فكرة الفضاء المفتوح الخاضع لمنظومات العصر الحديث. أما عند روسي فإن المدينة تبقى «مكانا» لحياة المواطنين، حياة أبناء المدينة الذين يؤمونها ليتجولوا في ماضيهم، كما في الحاضر، وعلى أقدامهم وليس في سيارة مسرعة في جادات واسعة بلا أفق. تبقى المدينة أكثر من حفنة تراب أو مجال للاستثمار والربح المادي في نظر المعماريين الذين يؤمنون بالدور الاجتماعي الحضاري الذي تلعبه المدينة، والذي يتخطى «اللعبة» التشكيلية التي جذبت العديد من المعماريين في عصرنا. فالبناء الواحد ليس هو الأساس في عملية تكوين النسيج المدني، إلا إذا كان له دور محوري في حياة المدينة (الجامع/الكنيسة/المدرسة/المركز البلدي….) أما الجهود التي يبذلها المعماريون لإظهار كل بناء جديد وكأنه فريد في محيطه إنما هي عملية متناقضة مع الأسس المدنية المبنية على المشاركة والتفاعل والانسجام، وهذا ما أصبحنا نفتقده في الكثير من المشاريع الحديثة، كما في نظرتنا الأوسع إلى المدينة.
المدينة والفساد السياسي في بيروت
وبالعودة إلى الفكرة الأساسية التي طرحها حداد في بداية كتابه حول «موت المدينة»، يرى الكاتب أن الفساد السياسي قد أسس لفساد اجتماعي وثقافي تظهر نتائجه في مختلف أشكال الفن من نحت ورسم إلى مسرح وعمارة، وهي في معظمها تشكل إفلاسا فنيا قياسا على التجارب العالمية. وهنا يشير حداد إلى رؤية عالم العمارة العراقي رفعت الجادرجي الذي يرى «أن فن العمارة مرتبط بواقع محيطه، وليس عليه بالتالي أن يكون تابعا لأشكال العمارة التي تظهر في الغرب، بل عليه أن يلعب دوره كأحد الأسس للاجتماع حيثما ينشأ.» ولكن كما يشير أيضا هذا المعماري «فإن العمارة لا تبقى خارج تحولات العصر وإنجازاته». إن الفساد المعماري الذي نعيشه يتجلى أيضا في انهيار الأسس المدنية للعمارة التي من شأنها أن تؤمن التمايز بين المدينة والقرية وتحافظ على المساحات الخضراء والأبنية القديمة.. كل هذا يشهد الآن عملية تدمير كاملة تحت تأثير لعبة الاستثمارات العقارية وغياب تام للأقانيم التي من شأنها الحفاظ على البيئة كأساس للحفاظ على الاقتصاد والاجتماع.
ولمواجهة هذه الإشكالية، يقترح علينا الاستفادة من بعض التجارب التي حاولت التوفيق بين المفاهيم الحداثية والتقليدية للعمارة (الصين مثلا)، التي رغم استيرادها لأعمال نجوم العمارة الغربيين في العقود القليلة الماضية، في سياق مجاراتها للعبة الاقتصادية العالمية، إلا أنها لم تمنع جيلا جديدا من المعماريين الصينيين من أن يبحث عن خط وسطي يرتكز في جانب من جوانبه على إعادة إحياء التقنيات الحرفية واستعمال المواد المحلية، خصوصا الطبيعية منها، مثل الخشب والخيزران، وهو ما سمح بأن يحل البحث عن الحواس والجمالية الداخلية مكان طغيان المظاهر الخارجية المذهلة التي تطبع العمارة السطحية المستوردة من الخارج، وبذلك تعود العمارة إلى نطاق الطبيعة بدل تأكيدها الانفصال عنها، خاصة أن التاريخ – وفقا لحداد- لن ينظر بانبهار إلى الإبداعات المستوردة والمنقولة من الخارج، بقدر ما سيلتفت بإعجاب إلى نتائج المحلي الذي يأتي نتيجة تطور وصراع طبيعي مع مسلتزمات المكان والزمان وطبيعة الأرض والمناخ، ونتيجة تفاعل مع الرغبات الجماعية التي تستمد بدورها شرعيتها التاريخية من التراث والهوية، وهذه كلها يصعب على أي معماري أجنبي قراءتها أو استلهامها في زيارة مؤقتة إلى بلدان أخرى.
هذه ليست دعوة للتقوقع أو الرجوع إلى الوراء، بل إلى إعادة اكتشاف الذات، مع اليقين الكامل بموقعنا التاريخي، كي لا نفقد ارتباطنا بالزمان والمكان. ففي وجه غطرسة مفهوم «الإبداع» الذي يرتكز على الاقتصاد الحر وعلى التدمير المنهجي للنسيج المديني، لا بد لنا من تقديم رؤية أخرى للإبداع ترتكز على احترام التراث القديم والحديث وعلى مقاومة الاستيراد اللانقدي للمفاهيم الغربية. عندئذ فقط يمكننا إعادة اللحمة التاريخية مع التراث الإقليمي والمحلي، بشكل يعيد إلى الحركة التاريخية قيمتها وارتباطها بواقعها السياسي والاجتماعي…


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.