قطع المياه 6 ساعات ببعض مناطق الجيزة لتحويل خط رئيسي    سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا    جوتيريش:نصف مليون شخص بغزة محاصرون في مجاعة    ضبط 50 محلًا بدون ترخيص وتنفيذ 40 حكمًا قضائيًا بحملة أمنية بالفيوم    لمحبي الآكلات الجديدة.. حضري «الفاصوليا البيضاء» على الطريقة التونسية (الخطوات والمكونات)    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    جامعة أسوان تهنئ البروفيسور مجدي يعقوب لتكريمه من جمعية القلب الأمريكية    الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    بورسعيد.. أجمل شاطئ وأرخص مصيف| كيف كانت الحياة في المدينة الباسلة عام 1960؟    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    أسوان يستضيف بلدية المحلة في الجولة الأولى بدوري المحترفين    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    رياضة ½ الليل| إيقاف تدريبات الزمالك.. كشف منشطات بالدوري.. تعديلات بالمباريات.. وتألق الفراعنة بالإمارات    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    أول تعليق من النني بعد فوز الجزيرة على الشارقة بالدوري الإماراتي    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    مراسل من دير البلح: المنطقة باتت مستباحة بالكامل تحت نيران الاحتلال    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحدي الواقع
نشر في صوت البلد يوم 13 - 04 - 2016

زها حديد العراقية ابنة السياسي العراقي محمد حديد ولدت 1955 وأصبحت من مهندسي العصر. إذ مشت في التيار ما بعد الحداثي تأثرت بنظريات الفنان الروسي مالفيتش والبنائين الروس لكنها انتقلت من التفكيكية إلى الانسيابية متأثرة بالثورة الرقمية. وفيما يُعدّها البعض من عظماء المعماريين يعتبرها البعض الآخر رائدة فن معولم لا يبالي إلا بالغريب ولا يعطي بالاً للتراث والتاريخ والبيئة من أعمالها مبنى الأسواق في بيروت، جسر الشيخ زايد، متحف الفن المعاصر في سنسناتي، قاعة الحديقة الألمانية ومركز الفنون الحديثة في روما ومحطة قطارات ستراسبورغ. في ما يلي ثلاث دراسات لثلاثة أكاديميين في فن العمارة.
لم يكن أحد يتوقع غياب زها حديد بهذا الشكل والتوقيت المفاجئ. غابت المعمارية الكبرى من دون سابق إنذار، في وقت أصبحت مشاريعها تملأ البلدان في الشرق والغرب، مثيرة الاعجاب في اكثر الاحيان، كما الاستهجان في احيان اخرى.
بعد هدوء «سكرة الموت» أصبح بالامكان ان نبدأ بمراجعة لأعمال هذه المعمارية الفذة، من دون عاطفية جياشة أو حكم مسبق. فدور الناقد يجب ان يرتفع فوق صخب اللحظة كما فوق العواطف الخاصة او الذكريات الحميمة ليتناول النتاج الفعلي للفنان او المعمار او الكاتب، وما يمثله العمل الفني ليس فقط على المستوى الجمالي البحت وانما ايضا على افرازاته الفكرية والسياسية والاجتماعية.
لقد كنت من اكثر المتحمسين لأعمال فرانك غيري وزها حديد وريم كولهاس في بداية مشواري التعليمي في الجامعة، وكنت في تلك الفترة، اي بداية التسعينيات، من التواقين الى كسر الجمود المعماري والانزلاق «الرجعي» نحو اعادة استنساخ التاريخ من دون اي عملية نقدية والذي، على أيدي بعض المعمارين، حوّل التاريخ والتراث الى مادة مبتذلة فاقدة لأدنى المعايير الكلاسيكية. لذلك كنت في البدايات من المرحبين بعودة الحديث عن «يوطوبيا» الحداثة الاولى، التي برزت في أعمال كولهاس وحديد وغيرهما. وكانت حديد من اولئك الذين اختاروا العودة الى اعمال «البنائين» الروس Constructivists كما الى اعمال الفنان كازيمير ماليفيتشي صاحب النظريات التجريدية. وكان مشروع زها حديد الاول على نطاق عالمي، مشروع مجمع سياحي على هضبة هونغ كونغ، ترجمة فعلية لهذه النظريات «البنائية»، محولة المبنى الى مجموعة من المسطحات الطائرة، مركبة بطريقة تتحدى فيها الجاذبية الارضية. لم يكتب لهذا المشروع (1982)، الذي فازت فيه حديد بالجائزة الاولى في مباراة عالمية، ان يتحقق، لكنه أوصل المعمارية الشابة الى النجومية فبدأت رسوماتها تحتل غلافات المجلات وتعرض في معارض العمارة.
أعطت المانيا هذه الشابة الصاعدة فرصتها الاولى لاختراق عالم الواقع فكان ان أنجزت اول مشاريعها في برلين (مجمع سكني، 1993) وثانيها في بلدة وايل ام راين (مركز الدفاع المدني، 1994). في مشروع مركز الدفاع المدني، ترجمت حديد للمرة الاولى الافكار «البنائية» فصاغت المبنى من مسطحات افقية وجدران ملتوية تظهر وكأنها في مبارزة، ينتج منها الفضاء الداخلي. لكن المبنى في النتيجة، لم يطف فوق الارض ولم يظهر وكأنه بخفة الطائرة بل كان مرتكزا بصلابة جدرانه الخرسانية في الارض.
لكن هذا العمل شكل بداية نجومية زها حديد في عالم الواقع، فكرّت المشاريع الواحد تلو الآخر، من متحف الفن المعاصر في سنسناتي (2003) الى مركز BMW الصناعي في لايبزغ (2005) الى مجمع فانو العلمي في ولسبرغ (2005)، فمتحف ماكسي في روما (2010) ومبنى الاوبرا في غانغزو (2010) والمركز الثقافي في باكو (2012).
الزمن الثاني لحديد
يمكن لأي متابع لأعمال حديد ان يرى بوضوح تغيرا ملموسا بعد متحف سنسناتي. انتهت مرحلة زها حديد الاولى، لتبدأ مرحلة ثانية، تحولت فيها لغتها المعمارية من الاقسام والمقاطع والخطوط المتواجهة، الى لغة اكثر انسيابية، اختفت بالكامل مواجهات «البنائين» الروس لتحل مكانها «احتفالية مشهدية» تغلب الطابع الجمالي على النقد الفكري للواقع.
هذا التحول في مسيرة زها حديد المعمارية أتى مع تطور تقنيات الرسم من وسائل يدوية، تلعب فيها اليد دورا خاصا، الى وسائل تكنولوجية تحتل فيها التقنيات الرقمية الموقع الاساس. كذلك أتى هذا التحول مع دخول لاعب بارز الى فريق زها حديد، وهو المعماري الالماني باتريك شومخر، احد ابرز المنظرين والمروجين للثورة الرقمية في المعمارة Parametricism. هنا انتهى زمن زها حديد الاول ليبدأ الزمن الثاني، المفعم بالأشكال الانسيابية الحسية، التي لم تكن لتجد طريق ترجمتها الى الواقع لولا تطور تقنيات الرسم والبناء في عصرنا. مع هذه الاشكال الجديدة الطامحة الى مرتبة «الجلالة» الجمالية (Sublime) غابت عن المشهد آثار اليد الحديدية الاولى التي كانت بالرغم من مواجهتها المزعومة للواقع، أكثر التزاما بحدود المكان والمحيط التاريخي للاشياء، ليحل مكانها طغيان الأشكال البراقة التي تتحدى «المقياس» الانساني فيصعب ربطها بمحيطها، كما نرى على سبيل المثال في مبنى عصام فارس في حرم الجامعة اللبنانية الاميركية في بيروت، أو كما سنرى بشكل اوضح في مبنى الاسواق المنتظر في موقع خان انطون بك التاريخي وعلى مقربة من مسجد المجيدية.
هنا تجدر الاشارة الى ان حديد كانت قد شاركت في مسابقة تصميم الاسواق التجارية (1994) وكان تصميمها في ذلك الوقت تشكيلة من الخطوط المقطعة التي تنسج في ما بينها الأسواق التجارية.
بالطبع، مع نجاح زها حديد العالمي، كان لا بد من ارتفاع الاصوات المؤيدة لنهجها المعماري، كما الاصوات المنتقدة لهذا المسار الذي يرى فيه بعض النقاد، استسلاما لنظام السوق الاقتصادي الليبرالي، وفقدانا للاتجاهات «النقدية» الاولى. كما يرى بعض النقاد في اعمال زها حديد الاخيرة تجاهلا لخصوصيات الامكنة والمدن المختلفة، بحيث تتحول العمارة الى نظرة شخصية (style) والى علامة تجارية (signature).
ربما قد يعطي الزمن زها حديد حقها، فبعد بضعة عقود قد يتحول مبنى عصام فارس الى جزء من تركيبة محيطه، وقد تتقبل الاجيال القادمة اكثر فكرة المجمع التجاري الذي حل مكان خان انطون بك، لكن أعمالها تبقى في اللحظة الراهنة اعمالا تتحدى الواقع.
تيار عالمي معولم
من هنا يمكننا ان ننطلق في عملية إعادة تقييم لأعمال زها حديد، كما لهذا التيار الجديد الذي كانت هي من أبرز مروّجيه والذي تحول الى تيار عالمي ومعولم، مستوطنا العالم بأعمال يشبه بعضها بعضا، من شانغهاي الى باكو وابو ظبي ونيويورك. طبعا يندرج ضمن هذا التيار معماريون كبار من امثال فرانك غيري وريم كولهاس وهيرزوغ ودي ميرون وغيرهم. كما يقول الناقد هال فوستر، فإن بعض هذه الاعمال التي تتسم بالاعتباطية ترتبط باقتصاد عالمي تسويقي، يروج لها كأدوات للحرية والديموقراطية. لكن هذه الحرية بالفعل تقتصر على حرية الفنان او المعمار في استنباط أشكال جديدة ومثيرة، فلا تتخطى هذه حدوداً تصل الى امكانية تغيير الواقع، وقد وصلت الى ترجمتها الفعلية على ارض الواقع من خلال حرية اخرى، هي حرية تنقل رؤوس الاموال في اقتصاد معولم، غالبا ما يترك آثارا سلبية على الفئات الاجتماعية التي لا يشركها هذا «التطور التكنولوجي» في لعبته. هنا قد يهب المدافعون عن هذا التيار التجديدي، كما فعلت حديد عدة مرات، بأن مسؤولية المعمار تقف عند حدود مهنيته واطار «خدماته» المهنية. لكن المعماريين الاول، وخاصة البنائين الروس، الذين شكلوا مصدر الالهام الاساسي في مسيرة حديد، كانوا ايضا أصحاب مشروع حداثي فعلي يرتبط ارتباطا وثيقا بمشروع تحديث المجتمع وتطويره، وتلعب فيه العمارة دورا رياديا للوصول الى مجتمع اكثر عدالة وتوازنا وديموقراطية. هنا نسترجع أحد أقوال كارل ماركس الشهيرة:
ان التاريخ يعيد نفسه، في المرة الاولى كتراجيديا، وفي المرة الثانية كخدعة. ربما نكون الآن نعيش زمن الخدعة حيث تشكل عملية إعادة استنباط الاشكال الثورية أو «التقدمية» مجرد قناع لمشاريع تغيب عنها المثاليات الاجتماعية. ليست هذه مسؤولية المعمار بالطبع بل هي حالة انعكاس لنظام اقتصادي عالمي بات يطغى على العالم.
زها حديد العراقية ابنة السياسي العراقي محمد حديد ولدت 1955 وأصبحت من مهندسي العصر. إذ مشت في التيار ما بعد الحداثي تأثرت بنظريات الفنان الروسي مالفيتش والبنائين الروس لكنها انتقلت من التفكيكية إلى الانسيابية متأثرة بالثورة الرقمية. وفيما يُعدّها البعض من عظماء المعماريين يعتبرها البعض الآخر رائدة فن معولم لا يبالي إلا بالغريب ولا يعطي بالاً للتراث والتاريخ والبيئة من أعمالها مبنى الأسواق في بيروت، جسر الشيخ زايد، متحف الفن المعاصر في سنسناتي، قاعة الحديقة الألمانية ومركز الفنون الحديثة في روما ومحطة قطارات ستراسبورغ. في ما يلي ثلاث دراسات لثلاثة أكاديميين في فن العمارة.
لم يكن أحد يتوقع غياب زها حديد بهذا الشكل والتوقيت المفاجئ. غابت المعمارية الكبرى من دون سابق إنذار، في وقت أصبحت مشاريعها تملأ البلدان في الشرق والغرب، مثيرة الاعجاب في اكثر الاحيان، كما الاستهجان في احيان اخرى.
بعد هدوء «سكرة الموت» أصبح بالامكان ان نبدأ بمراجعة لأعمال هذه المعمارية الفذة، من دون عاطفية جياشة أو حكم مسبق. فدور الناقد يجب ان يرتفع فوق صخب اللحظة كما فوق العواطف الخاصة او الذكريات الحميمة ليتناول النتاج الفعلي للفنان او المعمار او الكاتب، وما يمثله العمل الفني ليس فقط على المستوى الجمالي البحت وانما ايضا على افرازاته الفكرية والسياسية والاجتماعية.
لقد كنت من اكثر المتحمسين لأعمال فرانك غيري وزها حديد وريم كولهاس في بداية مشواري التعليمي في الجامعة، وكنت في تلك الفترة، اي بداية التسعينيات، من التواقين الى كسر الجمود المعماري والانزلاق «الرجعي» نحو اعادة استنساخ التاريخ من دون اي عملية نقدية والذي، على أيدي بعض المعمارين، حوّل التاريخ والتراث الى مادة مبتذلة فاقدة لأدنى المعايير الكلاسيكية. لذلك كنت في البدايات من المرحبين بعودة الحديث عن «يوطوبيا» الحداثة الاولى، التي برزت في أعمال كولهاس وحديد وغيرهما. وكانت حديد من اولئك الذين اختاروا العودة الى اعمال «البنائين» الروس Constructivists كما الى اعمال الفنان كازيمير ماليفيتشي صاحب النظريات التجريدية. وكان مشروع زها حديد الاول على نطاق عالمي، مشروع مجمع سياحي على هضبة هونغ كونغ، ترجمة فعلية لهذه النظريات «البنائية»، محولة المبنى الى مجموعة من المسطحات الطائرة، مركبة بطريقة تتحدى فيها الجاذبية الارضية. لم يكتب لهذا المشروع (1982)، الذي فازت فيه حديد بالجائزة الاولى في مباراة عالمية، ان يتحقق، لكنه أوصل المعمارية الشابة الى النجومية فبدأت رسوماتها تحتل غلافات المجلات وتعرض في معارض العمارة.
أعطت المانيا هذه الشابة الصاعدة فرصتها الاولى لاختراق عالم الواقع فكان ان أنجزت اول مشاريعها في برلين (مجمع سكني، 1993) وثانيها في بلدة وايل ام راين (مركز الدفاع المدني، 1994). في مشروع مركز الدفاع المدني، ترجمت حديد للمرة الاولى الافكار «البنائية» فصاغت المبنى من مسطحات افقية وجدران ملتوية تظهر وكأنها في مبارزة، ينتج منها الفضاء الداخلي. لكن المبنى في النتيجة، لم يطف فوق الارض ولم يظهر وكأنه بخفة الطائرة بل كان مرتكزا بصلابة جدرانه الخرسانية في الارض.
لكن هذا العمل شكل بداية نجومية زها حديد في عالم الواقع، فكرّت المشاريع الواحد تلو الآخر، من متحف الفن المعاصر في سنسناتي (2003) الى مركز BMW الصناعي في لايبزغ (2005) الى مجمع فانو العلمي في ولسبرغ (2005)، فمتحف ماكسي في روما (2010) ومبنى الاوبرا في غانغزو (2010) والمركز الثقافي في باكو (2012).
الزمن الثاني لحديد
يمكن لأي متابع لأعمال حديد ان يرى بوضوح تغيرا ملموسا بعد متحف سنسناتي. انتهت مرحلة زها حديد الاولى، لتبدأ مرحلة ثانية، تحولت فيها لغتها المعمارية من الاقسام والمقاطع والخطوط المتواجهة، الى لغة اكثر انسيابية، اختفت بالكامل مواجهات «البنائين» الروس لتحل مكانها «احتفالية مشهدية» تغلب الطابع الجمالي على النقد الفكري للواقع.
هذا التحول في مسيرة زها حديد المعمارية أتى مع تطور تقنيات الرسم من وسائل يدوية، تلعب فيها اليد دورا خاصا، الى وسائل تكنولوجية تحتل فيها التقنيات الرقمية الموقع الاساس. كذلك أتى هذا التحول مع دخول لاعب بارز الى فريق زها حديد، وهو المعماري الالماني باتريك شومخر، احد ابرز المنظرين والمروجين للثورة الرقمية في المعمارة Parametricism. هنا انتهى زمن زها حديد الاول ليبدأ الزمن الثاني، المفعم بالأشكال الانسيابية الحسية، التي لم تكن لتجد طريق ترجمتها الى الواقع لولا تطور تقنيات الرسم والبناء في عصرنا. مع هذه الاشكال الجديدة الطامحة الى مرتبة «الجلالة» الجمالية (Sublime) غابت عن المشهد آثار اليد الحديدية الاولى التي كانت بالرغم من مواجهتها المزعومة للواقع، أكثر التزاما بحدود المكان والمحيط التاريخي للاشياء، ليحل مكانها طغيان الأشكال البراقة التي تتحدى «المقياس» الانساني فيصعب ربطها بمحيطها، كما نرى على سبيل المثال في مبنى عصام فارس في حرم الجامعة اللبنانية الاميركية في بيروت، أو كما سنرى بشكل اوضح في مبنى الاسواق المنتظر في موقع خان انطون بك التاريخي وعلى مقربة من مسجد المجيدية.
هنا تجدر الاشارة الى ان حديد كانت قد شاركت في مسابقة تصميم الاسواق التجارية (1994) وكان تصميمها في ذلك الوقت تشكيلة من الخطوط المقطعة التي تنسج في ما بينها الأسواق التجارية.
بالطبع، مع نجاح زها حديد العالمي، كان لا بد من ارتفاع الاصوات المؤيدة لنهجها المعماري، كما الاصوات المنتقدة لهذا المسار الذي يرى فيه بعض النقاد، استسلاما لنظام السوق الاقتصادي الليبرالي، وفقدانا للاتجاهات «النقدية» الاولى. كما يرى بعض النقاد في اعمال زها حديد الاخيرة تجاهلا لخصوصيات الامكنة والمدن المختلفة، بحيث تتحول العمارة الى نظرة شخصية (style) والى علامة تجارية (signature).
ربما قد يعطي الزمن زها حديد حقها، فبعد بضعة عقود قد يتحول مبنى عصام فارس الى جزء من تركيبة محيطه، وقد تتقبل الاجيال القادمة اكثر فكرة المجمع التجاري الذي حل مكان خان انطون بك، لكن أعمالها تبقى في اللحظة الراهنة اعمالا تتحدى الواقع.
تيار عالمي معولم
من هنا يمكننا ان ننطلق في عملية إعادة تقييم لأعمال زها حديد، كما لهذا التيار الجديد الذي كانت هي من أبرز مروّجيه والذي تحول الى تيار عالمي ومعولم، مستوطنا العالم بأعمال يشبه بعضها بعضا، من شانغهاي الى باكو وابو ظبي ونيويورك. طبعا يندرج ضمن هذا التيار معماريون كبار من امثال فرانك غيري وريم كولهاس وهيرزوغ ودي ميرون وغيرهم. كما يقول الناقد هال فوستر، فإن بعض هذه الاعمال التي تتسم بالاعتباطية ترتبط باقتصاد عالمي تسويقي، يروج لها كأدوات للحرية والديموقراطية. لكن هذه الحرية بالفعل تقتصر على حرية الفنان او المعمار في استنباط أشكال جديدة ومثيرة، فلا تتخطى هذه حدوداً تصل الى امكانية تغيير الواقع، وقد وصلت الى ترجمتها الفعلية على ارض الواقع من خلال حرية اخرى، هي حرية تنقل رؤوس الاموال في اقتصاد معولم، غالبا ما يترك آثارا سلبية على الفئات الاجتماعية التي لا يشركها هذا «التطور التكنولوجي» في لعبته. هنا قد يهب المدافعون عن هذا التيار التجديدي، كما فعلت حديد عدة مرات، بأن مسؤولية المعمار تقف عند حدود مهنيته واطار «خدماته» المهنية. لكن المعماريين الاول، وخاصة البنائين الروس، الذين شكلوا مصدر الالهام الاساسي في مسيرة حديد، كانوا ايضا أصحاب مشروع حداثي فعلي يرتبط ارتباطا وثيقا بمشروع تحديث المجتمع وتطويره، وتلعب فيه العمارة دورا رياديا للوصول الى مجتمع اكثر عدالة وتوازنا وديموقراطية. هنا نسترجع أحد أقوال كارل ماركس الشهيرة:
ان التاريخ يعيد نفسه، في المرة الاولى كتراجيديا، وفي المرة الثانية كخدعة. ربما نكون الآن نعيش زمن الخدعة حيث تشكل عملية إعادة استنباط الاشكال الثورية أو «التقدمية» مجرد قناع لمشاريع تغيب عنها المثاليات الاجتماعية. ليست هذه مسؤولية المعمار بالطبع بل هي حالة انعكاس لنظام اقتصادي عالمي بات يطغى على العالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.