سيارات رينج روفر.. الرفاهية والأداء في أعلى درجاتها    فرنسا تعزز الإجراءات الأمنية أمام أماكن العبادة المسيحية    القيادة المركزية للجيش الأمريكي تنشر الصور الأولى للرصيف البحري على سواحل قطاع غزة    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي في الدوري الممتاز    "هاتريك" ليفاندوفسكي يقود برشلونة لفوز ثمين على فالنسيا 4-2 في الدوري الإسباني    طقس اليوم مائل للحرارة نهارا مائل للبرودة ليلا على أغلب الأنحاء.. والعظمى بالقاهرة 30    حقيقة نشوب حريق بالحديقة الدولية بمدينة الفيوم    مقتل 3 ضباط شرطة في تبادل لإطلاق النار في ولاية نورث كارولينا الأمريكية    مباراة من العيار الثقيل| هل يفعلها ريال مدريد بإقصاء بايرن ميونخ الجريح؟.. الموعد والقنوات الناقلة    موعد صرف مرتبات شهر مايو 2024.. اعرف مرتبك بالزيادات الجديدة    اندلاع اشتباكات عنيفة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في مخيم عسكر القديم شرق نابلس    ظهور خاص لزوجة خالد عليش والأخير يعلق: اللهم ارزقني الذرية الصالحة    تعرف على أسباب تسوس الأسنان وكيفية الوقاية منه    السيطرة على حريق هائل داخل مطعم مأكولات شهير بالمعادي    حبس 4 مسجلين خطر بحوزتهم 16 كيلو هيروين بالقاهرة    العميد محمود محيي الدين: الجنائية الدولية أصدرت أمر اعتقال ل نتنياهو ووزير دفاعه    هل أكل لحوم الإبل ينقض الوضوء؟.. دار الإفتاء تجيب    ثروت الزيني: نصيب الفرد من البروتين 100 بيضة و 12 كيلو دواجن و 17 كيلو سمك سنوياً    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    نيويورك تايمز: إسرائيل خفضت عدد الرهائن الذين تريد حركة حماس إطلاق سراحهم    تعرف على موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    نظافة القاهرة تطلق أكبر خطة تشغيل على مدار الساعة للتعامل الفوري مع المخلفات    لتلوثها ببكتيريا برازية، إتلاف مليوني عبوة مياه معدنية في فرنسا    تراجع أسعار النفط مع تكثيف جهود الوصول إلى هدنة في غزة    العثور على جثة طفلة غارقة داخل ترعة فى قنا    محلل سياسي: أمريكا تحتاج صفقة الهدنة مع المقاومة الفلسطينية أكثر من اسرائيل نفسها    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    فتوى تحسم جدل زاهي حواس حول وجود سيدنا موسى في مصر.. هل عاصر الفراعنة؟    شقيقة الأسير باسم خندقجي: لا يوجد أى تواصل مع أخى ولم يعلم بفوزه بالبوكر    بين تقديم بلاغ للنائب العام ودفاعٌ عبر الفيسبوك.. إلي أين تتجه أزمة ميار الببلاوي والشيح محمَّد أبو بكر؟    حماية المستهلك: الزيت وصل سعره 65 جنيها.. والدقيق ب19 جنيها    د. محمود حسين: تصاعد الحملة ضد الإخوان هدفه صرف الأنظار عن فشل السيسى ونظامه الانقلابى    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30 أبريل في محافظات مصر    أستاذ بجامعة عين شمس: الدواء المصرى مُصنع بشكل جيد وأثبت كفاءته مع المريض    مفاجأة صادمة.. جميع تطعيمات كورونا لها أعراض جانبية ورفع ضدها قضايا    حكم الشرع في الوصية الواجبة.. دار الإفتاء تجيب    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    بمشاركة 10 كليات.. انطلاق فعاليات الملتقى المسرحي لطلاب جامعة كفر الشيخ |صور    رسميا.. بدء إجازة نهاية العام لطلاب الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية بهذا الموعد    السجيني: التحديات عديدة أمام هذه القوانين وقياس أثرها التشريعي    ضبط 575 مخالفة بائع متحول ب الإسكندرية.. و46 قضية تسول ب جنوب سيناء    «هربت من مصر».. لميس الحديدي تكشف مفاجأة عن نعمت شفيق (فيديو)    المتحدث باسم الحوثيون: استهدفنا السفينة "سيكلاديز" ومدمرتين أمريكيتين بالبحر الأحمر    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    ميدو: عامر حسين ب «يطلع لسانه» للجميع.. وعلى المسؤولين مطالبته بالصمت    «المقاطعة تنجح».. محمد غريب: سعر السمك انخفض 10% ببورسعيد (فيديو)    مصطفى عمار: القارئ يحتاج صحافة الرأي.. وواكبنا الثورة التكنولوجية ب3 أشياء    بعد اعتراف أسترازينيكا بآثار لقاح كورونا المميتة.. ما مصير من حصلوا على الجرعات؟ (فيديو)    ما رد وزارة الصحة على اعتراف أسترازينيكا بتسبب اللقاح في جلطات؟    توفيق السيد: لن يتم إعادة مباراة المقاولون العرب وسموحة لهذا السبب    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    برلماني يطالب بالتوقف عن إنشاء كليات جديدة غير مرتبطة بسوق العمل    تموين جنوب سيناء: تحرير 54 محضرا بمدن شرم الشيخ وأبو زنيمة ونوبيع    خليل شمام: نهائى أفريقيا خارج التوقعات.. والأهلى لديه أفضلية صغيرة عن الترجى    تقديم موعد مران الأهلى الأخير قبل مباراة الإسماعيلى    بالرابط، خطوات الاستعلام عن موعد الاختبار الإلكتروني لوظائف مصلحة الخبراء بوزارة العدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"هيك" أم "هكذا" ؟ .. تيّارات الحوار في الرواية العربيّة بين الفصحى والدارجة
نشر في صوت البلد يوم 03 - 03 - 2016

في عام 2008، كتب الروائي اللبناني حسن داود، مقالاً نقدياً عن رواية «الفاعل»، للروائي المصري حمدي أبو جليّل، وجاء في المقال: «.. تلك اللغة الملاعبة المتنقّلة على هواها بين الفصحى والعامية في تعدد وغنى يجعل من الكلام حقلاً متسعاً قابلاً لأن يضم إليه كل شيء. كل تعبير يخطر في الرأس، أثناء الكتابة، يمكن له أن يجد مكاناً في ذلك المجال اللغوي القابل لأي إضافة، بل والمستقبل لها محتفياً بها.
وهذه خصيصة للرواية في مصر، حيث اقتحمت لغة التخاطب اليومي، تلك الحيّة والدالة على طبائع متكلّميها كما على أشكالهم وهيئاتهم، صرح الفصحى التي ما زالت الروايات العربية الأخرى سجينته. أكثر ما توصّلت إليه الروايات العربية غير المصرية هو «شجاعة» أن تجعل الحوار بين الشخصيات يجري بعضه فصيحاً وبعضه عامياً، وذلك بدرجات متفاوتة تبعاً لشجاعة الكاتب. كأن في الكتابة بالعامية، أو بلغة الحياة، كما تُعاش، مجازفة تشبه الاقتراب من شريط مكهرب يسيجها. ربما تمكنت الرواية المصرية من إدخال هذه بتلك وتلك بهذه بعد عقود من التقدم خطوة خطوة، فيما تظل الروايات العربية الأخرى عند ذاك السجال الذي دار في مصر أيام الثلاثينيات والأربعينيات حول العامية والفصحى”
في الفقرة السابقة، يشير صاحب «لا طريق إلى الجنة» إلى مسألة اللغة في الرواية، سواء سرداً أو حواراً، ورغم أن ثماني سنوات مرت على تاريخ المقال، شهد فيها السرد العربي تطورات في الرواية وفنّياتها وطرائقها، إلا أن داود يتوقّف متأملاً مستوى الحوار في الرواية، حيث يتفرّع الروائيون العرب في أغلبهم إلى ثلاثة مسارات، فريق يفضّل الحوار بالفصحى، وفريق آخر ينحاز إلى الدارجة المحكية، ومجموعة أخيرة تمزج بين التيارين.
هارموني العاميّة
وبعيداً عن مسألة (الضرورة الفنية)، واشتراطات النص على الكاتب في تحديد مستوى لغة الحوار، تبقى هذه المسألة محل سجال بين الكتّاب العرب، بمختلف جنسياتهم، الروائي الفلسطيني ربعي المدهون، صاحب رواية «مصائر. كنشرتو الهولوكوست والنكبة»، ينحاز إلى اللغة المحكية بشكل كامل، يقول المدهون: «أعشق استخدام العامية في الحوار الروائي، لما تنطوي عليه من قدرة تعبيرية هائلة، وما توفره من قيم جمالية حسية يمكن إطلاقها، في أجواء أكثر حميمية وأقل كلفة لغوية. فالعامية، التي هي لغة سائدة في حياتنا اليومية، تعد تكثيفاً مذهلاً لمخزون تعبيري ودلالي رافق تشكلها عبر السنين، ما لا توفره الفصحى للحوار أحياناً، حين تصبح حملاً ثقيلاً على النص نفسه مثلا، بخلاف العامية المسيطر عليها فنيا، الموظفة في السرد ببراعة، التي توفر قدراً من التوليف الهارموني المنسجم مع سمات الشخصية الروائية، حيث يمكننا سماع الإيقاع الداخلي لمشاعر المتحاورين بوضوح، والتقاط الدلالات التي تأتي بها مفردات أكثر قدرة على التعبير بتلقائية، عن المشاعر الداخلية. غير أن هذا ليس حكماً مطلقاً، فبعض المحكيات العربية مغرق في محليته، وتقل فيه المشتركات مع المحكيات الأخرى، ويتضمّن العديد من المفردات والتعبيرات التي تبدو غريبة، أو عصية على الفهم. يستدعي هذا تطويع لغة الحوار، تماماً كما يفعل الروائي الذي اختار الفصحى، لتصبح مفهومة ومقبولة، من دون أن تفقد ممكناتها التي استدعت خيارها منذ البداية”
الفصحى للجميع
على الضّفة المقابلة تقف الروائية الكويتية باسمة العنزي، صاحبة «قطط إنستغرام»، التي تفضّل الفصحى على طول الخط، حرصاً على تساوي القرّاء العرب بمختلفهم جنسياتهم في استقبالهم للرواية، توضّح العنزي وجهة نظرها: «عن نفسي أميل للحوار بالعربية الفصحى المبسطة، القارئ العربي ما ذنبه كي يتوه في دهاليز لهجات لا يعرفها، سيؤثر ذلك في تفاعله القرائي، ويشعر بأن العمل كتب كي يصل لشريحة محدّدة من القراء. مؤخراً قرأت رواية جميلة بعنوان «سفر الاختفاء» للأديبة الفلسطينية ابتسام عازم، وأزعجني في النص تكرار استخدام اللغة العبرية في أغلب الحوارات! طبعا هناك أجزاء لا يمكن كتابتها بالعربية مثل استخدام الأمثال الشعبية أو بعض المصطلحات المحلية غير المفهومة، أرى أن تتم إشارة مختصرة لها في الهامش. بالنسبة للهجات الدارجة من مصرية وشامية كقارئة عربية لا تؤثر في انسجامي مع النص، وذلك لانتشارها الواسع، لكنني مع استخدامها المقنن، ومع الموازنة والتحكم في درجة شيوع المفردة، إذ ما فائدة النص المغرق حواره في المحلية إن لم يصل لكل القراء على السواء؟!»
مزيج
وكمتوسط حسابي للتيارين السابقين، ينبثق مذهب ثالث يرى أن الأنسب للحوار في الرواية أن يمزج بين مستويي اللغة بفصحاها وعامّيتها، وضمن هذا التيار تحضر الروائية اللبنانية مايا الحاج، صاحبة «بوركيني»: «مع أنني لا أميل إلى المبالغة في استخدام العامية المحكية في العمل الروائي، أرى أنه من الضروري تحديث اللغة بما ينسجم مع التطور الحاصل في كلّ المجالات، ومنها الرواية. لقد دخلت على حياتنا مصطلحات جديدة وفرضت بعض الكلمات الأجنبية نفسها على لغتنا المحكية بفعل الانفتاح والعولمة والتطور التكنولوجي ووسائل التواصل وما شابه، وهذا لا بدّ أن يترك أثره على اللغة الفصحى التي ليست مخزنّة، كما نعتقد في أقبية مُقفلة، بل إنها تتأثّر بالحالة اللغوية العامة، لذا لا أجد ضيراً في إقحام اللغة المحكية في النص الروائي أحياناً، من دون الإكثار منها إلى الحدّ الذي يدمّر اللغة الفصحى ويرهّل النص الأدبي. وأجد أنّ الحوارات يمكن أن تُنقل باللغة المحكية ما دامت محدودة في العمل. وفي ما يخص تجربتي، مزجت في روايتي «بوركيني» بين اللغة الفصحى والدارجة، بحيث نقلت بعض حوارات الشخصيات بالعامية، علماً بأنّ الحوارات كانت قليلة جداً في الرواية. ولكن أثناء الكتابة، وجدتُ أنّ اللغة العربية طيّعة جداً ويمكن تحديثها أو الاشتقاق منها من دون المساس بها، وهذا ما فعلته حين استعرت من قاموسنا اليومي كلمات وأفعالا ثمّ فصّحتها، وهذا ما لاحظه بعض النقاد في مقالاتهم عن الرواية. فعرّبت مثلاً كلمة Focus واستخدمتها كما لو أنها فعل مضارع، فقلت «يُفوكس» حين وجدتني بحاجة إلى فعل أقوى من فعل يُراقب أو يحدّق. وأدخلت كلمة «كوافور»- أي مصففة الشعر كما تُلفظ بالفرنسية- في صميم اللغة الفصحى إشارة إلى ثقافة الراوية/ البطلة الفرنكوفونية ومستواها العلمي أو الاجتماعي. تطعيم اللغة الفصحى بلغة محكية أمر وارد ومقبول، ولكن ليس إلى حدّ الاستخفاف باللغة ونسفها من أساسها. أما قراءة أعمال مكتوبة تقريباً بلغة عامية فهو أمر مزعج ومنفّر تماماً، كما الكتابة بلغة فصحى قديمة وبائدة وغير موجودة في واقعنا بتاتاً.
عن الضرورة الفنّية
على الأرجح، لا يكون اختيار لغة الحوار قراراً مسبقاً من الكاتب تجاه النص، أو حتى تجاه مشروعه الروائي كاملاً ومنذ العمل الأول، لأن (الرواية تكتب نفسها) وفق ما يذهب إليه الكثير من الكتّاب، وهنا تبرز مسألة الضرورة الفنّية، هناك روايات لا تحتمل فكرتها أن يكون حوارها بالدارجة، وبالمثل توجد أعمال أخرى لا تقبل إلا بالعامية. الروائي العماني سليمان المعمّري يؤمن بأن سياق الرواية هو العامل الحاسم، يقول صاحب «الذي لا يحب جمال عبد الناصر»: «من وجهة نظري فإن أي حوار في النص الأدبي رواية كان أم قصة يحدده النص نفسه.. فكما أن لكل نص سياقه الذي يحدد الشكل الفني الذي سيُكتب به فإن طبيعة الحوار ولغته يحددهما هذا السياق أيضا. فقط علينا أن نبتعد عن ثنائية الفصحى/العامية، وعن اعتبار استخدام العامية في الحوار مؤامرة تستهدف المساس بطهرانية الفصحى، وكأن العامية ليست ابنة الفصحى الشرعية.
هناك نصوص تغوص في قاع المجتمع وتقدم حياة الناس البسطاء بعفوية وبساطة وتلقائية يصبح معها استخدام لغة فصحى مقعرة في الحوار غير منسجم مع سياق العفوية والبساطة، وغير قابل للتصديق من قبل القارئ. وهناك نصوص أخرى يمكن وضع حوار شخصياتها باللغة الفصحى، لأن ذلك ينسجم مع الموضوع الذي يتناوله النص. باختصار شخصيات العمل الأدبي هي التي تفرض اللغة التي تتحدث بها، والفصحى والعامية هما جناحان يساعدان النص على التحليق عندما يُحسِن كاتب النص توظيفهما في عمله الأدبي بشكل صحيح».
يتبنّى الروائي التونسي أيمن الدبّوسي وجهة نظر مقاربة لما ذهب إليه المعمّري، في ما يتعلّق بشخصية النص التي تختار لغتها، وعن ذلك يقول صاحب «انتصاب أسود»: «مسألة لغة الحوار في النص الروائي – عامية كانت أم فصحى- لا تمثل قضية أساسية إلا عبر ما تطرحه من رهانات فنية وأسلوبية، خاصة سياسية. فمع «ساد» مثلا يصير الحوار مقاطع حجاجية مطولة وبرهنة نظرية ومنطقية يُبدع الأسيادُ الإباحيون في استعراضها، وهي أرهف أنواع العنف وأشدها ضراوة وقسوة. أما مع بوكوفسكي، صاحب شعرية «الجنون العادي»، فالحوار بالعامية الأمريكية يهدف إلى إلغاء تلك المنطقة التي تفصل الأدبي عن الواقعي. شخصيات بوكوفسكي تقضم الكلام، تلوكه وتمضغه ثم تبصقه في فظاظة وعنف. رهان بوكوفسكي هنا سياسي بامتياز. قلب لموازين القوى، يجعل المركز هامشاً والهامش مركزاً. وهو بفرضه أسلوب السّوقة وسقط المتاع في الحوار الروائي، إنما يفتك السلطة على الخطاب ويمنحها للملاعين. وفي هذا الرهان يتقاطع بوكوفسكي مع سليم بركات، الذي يحاول هو الآخر افتكاك السلطة على الخطاب ومنحها لأقلية هامشية تقيم داخل لغة المركز. شخصيات سليم بركات –غير العربية- على غرار شخصيات إبراهيم الكوني، تتكلم عربية فصحى بديعة، جعلت أدونيس يقول بأن «اللغة العربية اليوم في جيب هذا الكاتب الكردي». وهو بذلك يفتك اللسان من أصحابه الأصليين ويجعلهم داخل لغتهم أقلية وهامشيين.
في عام 2008، كتب الروائي اللبناني حسن داود، مقالاً نقدياً عن رواية «الفاعل»، للروائي المصري حمدي أبو جليّل، وجاء في المقال: «.. تلك اللغة الملاعبة المتنقّلة على هواها بين الفصحى والعامية في تعدد وغنى يجعل من الكلام حقلاً متسعاً قابلاً لأن يضم إليه كل شيء. كل تعبير يخطر في الرأس، أثناء الكتابة، يمكن له أن يجد مكاناً في ذلك المجال اللغوي القابل لأي إضافة، بل والمستقبل لها محتفياً بها.
وهذه خصيصة للرواية في مصر، حيث اقتحمت لغة التخاطب اليومي، تلك الحيّة والدالة على طبائع متكلّميها كما على أشكالهم وهيئاتهم، صرح الفصحى التي ما زالت الروايات العربية الأخرى سجينته. أكثر ما توصّلت إليه الروايات العربية غير المصرية هو «شجاعة» أن تجعل الحوار بين الشخصيات يجري بعضه فصيحاً وبعضه عامياً، وذلك بدرجات متفاوتة تبعاً لشجاعة الكاتب. كأن في الكتابة بالعامية، أو بلغة الحياة، كما تُعاش، مجازفة تشبه الاقتراب من شريط مكهرب يسيجها. ربما تمكنت الرواية المصرية من إدخال هذه بتلك وتلك بهذه بعد عقود من التقدم خطوة خطوة، فيما تظل الروايات العربية الأخرى عند ذاك السجال الذي دار في مصر أيام الثلاثينيات والأربعينيات حول العامية والفصحى”
في الفقرة السابقة، يشير صاحب «لا طريق إلى الجنة» إلى مسألة اللغة في الرواية، سواء سرداً أو حواراً، ورغم أن ثماني سنوات مرت على تاريخ المقال، شهد فيها السرد العربي تطورات في الرواية وفنّياتها وطرائقها، إلا أن داود يتوقّف متأملاً مستوى الحوار في الرواية، حيث يتفرّع الروائيون العرب في أغلبهم إلى ثلاثة مسارات، فريق يفضّل الحوار بالفصحى، وفريق آخر ينحاز إلى الدارجة المحكية، ومجموعة أخيرة تمزج بين التيارين.
هارموني العاميّة
وبعيداً عن مسألة (الضرورة الفنية)، واشتراطات النص على الكاتب في تحديد مستوى لغة الحوار، تبقى هذه المسألة محل سجال بين الكتّاب العرب، بمختلف جنسياتهم، الروائي الفلسطيني ربعي المدهون، صاحب رواية «مصائر. كنشرتو الهولوكوست والنكبة»، ينحاز إلى اللغة المحكية بشكل كامل، يقول المدهون: «أعشق استخدام العامية في الحوار الروائي، لما تنطوي عليه من قدرة تعبيرية هائلة، وما توفره من قيم جمالية حسية يمكن إطلاقها، في أجواء أكثر حميمية وأقل كلفة لغوية. فالعامية، التي هي لغة سائدة في حياتنا اليومية، تعد تكثيفاً مذهلاً لمخزون تعبيري ودلالي رافق تشكلها عبر السنين، ما لا توفره الفصحى للحوار أحياناً، حين تصبح حملاً ثقيلاً على النص نفسه مثلا، بخلاف العامية المسيطر عليها فنيا، الموظفة في السرد ببراعة، التي توفر قدراً من التوليف الهارموني المنسجم مع سمات الشخصية الروائية، حيث يمكننا سماع الإيقاع الداخلي لمشاعر المتحاورين بوضوح، والتقاط الدلالات التي تأتي بها مفردات أكثر قدرة على التعبير بتلقائية، عن المشاعر الداخلية. غير أن هذا ليس حكماً مطلقاً، فبعض المحكيات العربية مغرق في محليته، وتقل فيه المشتركات مع المحكيات الأخرى، ويتضمّن العديد من المفردات والتعبيرات التي تبدو غريبة، أو عصية على الفهم. يستدعي هذا تطويع لغة الحوار، تماماً كما يفعل الروائي الذي اختار الفصحى، لتصبح مفهومة ومقبولة، من دون أن تفقد ممكناتها التي استدعت خيارها منذ البداية”
الفصحى للجميع
على الضّفة المقابلة تقف الروائية الكويتية باسمة العنزي، صاحبة «قطط إنستغرام»، التي تفضّل الفصحى على طول الخط، حرصاً على تساوي القرّاء العرب بمختلفهم جنسياتهم في استقبالهم للرواية، توضّح العنزي وجهة نظرها: «عن نفسي أميل للحوار بالعربية الفصحى المبسطة، القارئ العربي ما ذنبه كي يتوه في دهاليز لهجات لا يعرفها، سيؤثر ذلك في تفاعله القرائي، ويشعر بأن العمل كتب كي يصل لشريحة محدّدة من القراء. مؤخراً قرأت رواية جميلة بعنوان «سفر الاختفاء» للأديبة الفلسطينية ابتسام عازم، وأزعجني في النص تكرار استخدام اللغة العبرية في أغلب الحوارات! طبعا هناك أجزاء لا يمكن كتابتها بالعربية مثل استخدام الأمثال الشعبية أو بعض المصطلحات المحلية غير المفهومة، أرى أن تتم إشارة مختصرة لها في الهامش. بالنسبة للهجات الدارجة من مصرية وشامية كقارئة عربية لا تؤثر في انسجامي مع النص، وذلك لانتشارها الواسع، لكنني مع استخدامها المقنن، ومع الموازنة والتحكم في درجة شيوع المفردة، إذ ما فائدة النص المغرق حواره في المحلية إن لم يصل لكل القراء على السواء؟!»
مزيج
وكمتوسط حسابي للتيارين السابقين، ينبثق مذهب ثالث يرى أن الأنسب للحوار في الرواية أن يمزج بين مستويي اللغة بفصحاها وعامّيتها، وضمن هذا التيار تحضر الروائية اللبنانية مايا الحاج، صاحبة «بوركيني»: «مع أنني لا أميل إلى المبالغة في استخدام العامية المحكية في العمل الروائي، أرى أنه من الضروري تحديث اللغة بما ينسجم مع التطور الحاصل في كلّ المجالات، ومنها الرواية. لقد دخلت على حياتنا مصطلحات جديدة وفرضت بعض الكلمات الأجنبية نفسها على لغتنا المحكية بفعل الانفتاح والعولمة والتطور التكنولوجي ووسائل التواصل وما شابه، وهذا لا بدّ أن يترك أثره على اللغة الفصحى التي ليست مخزنّة، كما نعتقد في أقبية مُقفلة، بل إنها تتأثّر بالحالة اللغوية العامة، لذا لا أجد ضيراً في إقحام اللغة المحكية في النص الروائي أحياناً، من دون الإكثار منها إلى الحدّ الذي يدمّر اللغة الفصحى ويرهّل النص الأدبي. وأجد أنّ الحوارات يمكن أن تُنقل باللغة المحكية ما دامت محدودة في العمل. وفي ما يخص تجربتي، مزجت في روايتي «بوركيني» بين اللغة الفصحى والدارجة، بحيث نقلت بعض حوارات الشخصيات بالعامية، علماً بأنّ الحوارات كانت قليلة جداً في الرواية. ولكن أثناء الكتابة، وجدتُ أنّ اللغة العربية طيّعة جداً ويمكن تحديثها أو الاشتقاق منها من دون المساس بها، وهذا ما فعلته حين استعرت من قاموسنا اليومي كلمات وأفعالا ثمّ فصّحتها، وهذا ما لاحظه بعض النقاد في مقالاتهم عن الرواية. فعرّبت مثلاً كلمة Focus واستخدمتها كما لو أنها فعل مضارع، فقلت «يُفوكس» حين وجدتني بحاجة إلى فعل أقوى من فعل يُراقب أو يحدّق. وأدخلت كلمة «كوافور»- أي مصففة الشعر كما تُلفظ بالفرنسية- في صميم اللغة الفصحى إشارة إلى ثقافة الراوية/ البطلة الفرنكوفونية ومستواها العلمي أو الاجتماعي. تطعيم اللغة الفصحى بلغة محكية أمر وارد ومقبول، ولكن ليس إلى حدّ الاستخفاف باللغة ونسفها من أساسها. أما قراءة أعمال مكتوبة تقريباً بلغة عامية فهو أمر مزعج ومنفّر تماماً، كما الكتابة بلغة فصحى قديمة وبائدة وغير موجودة في واقعنا بتاتاً.
عن الضرورة الفنّية
على الأرجح، لا يكون اختيار لغة الحوار قراراً مسبقاً من الكاتب تجاه النص، أو حتى تجاه مشروعه الروائي كاملاً ومنذ العمل الأول، لأن (الرواية تكتب نفسها) وفق ما يذهب إليه الكثير من الكتّاب، وهنا تبرز مسألة الضرورة الفنّية، هناك روايات لا تحتمل فكرتها أن يكون حوارها بالدارجة، وبالمثل توجد أعمال أخرى لا تقبل إلا بالعامية. الروائي العماني سليمان المعمّري يؤمن بأن سياق الرواية هو العامل الحاسم، يقول صاحب «الذي لا يحب جمال عبد الناصر»: «من وجهة نظري فإن أي حوار في النص الأدبي رواية كان أم قصة يحدده النص نفسه.. فكما أن لكل نص سياقه الذي يحدد الشكل الفني الذي سيُكتب به فإن طبيعة الحوار ولغته يحددهما هذا السياق أيضا. فقط علينا أن نبتعد عن ثنائية الفصحى/العامية، وعن اعتبار استخدام العامية في الحوار مؤامرة تستهدف المساس بطهرانية الفصحى، وكأن العامية ليست ابنة الفصحى الشرعية.
هناك نصوص تغوص في قاع المجتمع وتقدم حياة الناس البسطاء بعفوية وبساطة وتلقائية يصبح معها استخدام لغة فصحى مقعرة في الحوار غير منسجم مع سياق العفوية والبساطة، وغير قابل للتصديق من قبل القارئ. وهناك نصوص أخرى يمكن وضع حوار شخصياتها باللغة الفصحى، لأن ذلك ينسجم مع الموضوع الذي يتناوله النص. باختصار شخصيات العمل الأدبي هي التي تفرض اللغة التي تتحدث بها، والفصحى والعامية هما جناحان يساعدان النص على التحليق عندما يُحسِن كاتب النص توظيفهما في عمله الأدبي بشكل صحيح».
يتبنّى الروائي التونسي أيمن الدبّوسي وجهة نظر مقاربة لما ذهب إليه المعمّري، في ما يتعلّق بشخصية النص التي تختار لغتها، وعن ذلك يقول صاحب «انتصاب أسود»: «مسألة لغة الحوار في النص الروائي – عامية كانت أم فصحى- لا تمثل قضية أساسية إلا عبر ما تطرحه من رهانات فنية وأسلوبية، خاصة سياسية. فمع «ساد» مثلا يصير الحوار مقاطع حجاجية مطولة وبرهنة نظرية ومنطقية يُبدع الأسيادُ الإباحيون في استعراضها، وهي أرهف أنواع العنف وأشدها ضراوة وقسوة. أما مع بوكوفسكي، صاحب شعرية «الجنون العادي»، فالحوار بالعامية الأمريكية يهدف إلى إلغاء تلك المنطقة التي تفصل الأدبي عن الواقعي. شخصيات بوكوفسكي تقضم الكلام، تلوكه وتمضغه ثم تبصقه في فظاظة وعنف. رهان بوكوفسكي هنا سياسي بامتياز. قلب لموازين القوى، يجعل المركز هامشاً والهامش مركزاً. وهو بفرضه أسلوب السّوقة وسقط المتاع في الحوار الروائي، إنما يفتك السلطة على الخطاب ويمنحها للملاعين. وفي هذا الرهان يتقاطع بوكوفسكي مع سليم بركات، الذي يحاول هو الآخر افتكاك السلطة على الخطاب ومنحها لأقلية هامشية تقيم داخل لغة المركز. شخصيات سليم بركات –غير العربية- على غرار شخصيات إبراهيم الكوني، تتكلم عربية فصحى بديعة، جعلت أدونيس يقول بأن «اللغة العربية اليوم في جيب هذا الكاتب الكردي». وهو بذلك يفتك اللسان من أصحابه الأصليين ويجعلهم داخل لغتهم أقلية وهامشيين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.