«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الرواية إلي المونديال وأبلة فاهيتا: اللغة العربية في زمن الفيسبوك
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 03 - 2015

في زيارتي الرابعة لبيروت، انتبهت لأول مرة إلي الحشائش والنباتات الصغيرة النامية فوق الجدران الحجرية، طوال الطريق من المطار إلي الفندق، انشغلت بها متسائلة كيف لم تلفت نظري من قبل، مع أن العمارة والنباتات هما مدخلي الأول لقراءة المدن والتعرف عليها.
بعد يومين، ودون سؤال مني، شرح لي صديق، أن هذه الجدران مبنية من الحجر الرملي لذا تخترقها النباتات وتنمو فوقها. شعرت لحظتها، أن هذا معني بيروت ومبناها. بيروت هي تلك النبتات النامية فوق الحائط الحجري؛ هشة ومرتجفة لكنها أيضاً جميلة وقوية وقادرة علي البقاء في أصعب الظروف.
جدران بيروت صلابتها مشوبة بهشاشة ما، وجمالها صلب لا تعوقه حواجز. المدينة تبدو كأنها، بطبيعتها المنفتحة، الأقدر علي تبني المتناقضات والمواءمة بينها.
هكذا، كما في مثال امتزاج الحجر بالشجر، أجدني كل مرة أزور فيها المدينة علي موعد مع العديد من المفارقات والأسئلة المحيرة حيناً والملهِمة أغلب الأحيان. وهذه المرة تحديداً كنت منشغلة بأفكار حول العلاقة باللغة العربية. ولأنني اعتدت علي مفارقات بيروت وانفتاحها، لم يدهشني أن تحتضن جمعية اهتمامها الأول الفنون التشكيلية والبصرية، المنتدي الذي جئت للمشاركة في فعالياته والمخصص للّغة العربية اليوم.
الجمعية المقصودة هي »أشكال ألوان«، والمنتدي المشار إليه هو »اللغة العربية وشبكات التواصل الاجتماعي«، والذي أُقيم في الفترة من 26 حتي 28 فبراير الماضي وأشرف عليه كل من: الباحث والمؤرخ والعلامة اللغوي د. أحمد بيضون والمنشطة الثقافية منال خضر.
تميز المنتدي عن غيره من الندوات والمؤتمرات التي تناقش وضع اللغة العربية في عالم اليوم، بالمرونة والانفتاح والبعد عن التباكي علي حالها، كما تميز بتنوع المداخل المقدمة لمقاربة اللغة العربية (فصحي وعاميات) في علاقتها بشبكات التواصل الاجتماعي.
بدأ المنتدي بكلمة قصيرة لكريستين طعمة مديرة »أشكال ألوان« نوهت فيها بأهمية طرح هذا الموضوع من جوانبه المختلفة وأعلنت أن الأوراق المقدمة من المشاركين سوف تُنشَر قريباً في كتاب.
محاضرة د. أحمد بيضون المعنونة بالعربية مُفَسْبِكة: عاميات يُكتَب بها وفصحي حوارية؟« انطلقت من انسحاب الفصحي شبه التام، منذ زمن، من مناطق للمشافهة كانت تحتلها، ثم عودتها اليوم إلي نوع من الاستعمال المباشر يشبه المشافهة علي الفيسبوك.
بحسب د. بيضون، »ما يميّز الفيسبوك لجهة اللغة، ومعه ما جري مجراه من الشبكات، إنما هو أمران: 1- اعتماد العاميّة لغة مكتوبة علي نطاق يجعله اتساعه واقعة جسيمة في تطور العلاقة بين الفصحي والمحكيات. 2- اعتماد الفصحي، علي نطاقٍ أضيقَ بكثير من ذاك المتاح للعامّيّات، ولكنه جدير جدّاً بالاعتبار، لغةً لأنواع من الحوار الفوري كانت تختصّ بها العاميات في الأعمّ الأغلب.«
التجاور، علي شبكات التواصل، بين عاميّات مختلفة وفصحي متنوّعة الأغراض والمستويات ولكنّها واحدةٌ، من حيث الأساس، لا يخلو من تفاعل يسعه أن يثمر تجديداً ومكاسب، كما يري د. بيضون الذي يتوقف أمام ظاهرتين لهما شواهد لا تحصي علي الفيسبوك وعلي غيره من الشبكات. »1- تنحو العاميّات العربية إلي التعارف في ما بينها فيكتسب كلّ مطالع أو محاور من محاوريه الأبعدين قليلاً أو كثيراً من المعرفة بعاميّاتهم. وهو ما ينحو إلي جعل العاميّات نفسها شبكةً لغوية حية تنبض من زواياها كافّة ويصل كلّ نبض يحصل في زاوية منها إلي الزوايا الأخري. 2- تطوّع الفصحي نفسها لأغراض التبادل الكلامي اليومي، عبر التعرّض المتمادي لحالات منه ومناسبات له لا حدّ لوفرتها وتنوّعها. وهذا فضلاً عن احتفاظها بوظائفها المألوفة في الكلام المعدّ أصلاً للقالب المكتوب.«
أي أن مخالطة الفصحي للعاميّات علي أنحاء غير معهودة سابقاً وبكثافة وتكرار لا سابق لهما أيضاً. »يباشر بلا ريب نوعاً من التذليل النسبي للحاجز الماثل بين كلّ من العاميّات والفصحي التي نعرفها لغةً للكتابة. وهو ما يبقي الفصحي واسطة عقد في هذه الشبكة اللغوية الحية التي تمثّل العاميّات أجنحةً خافقةً لها. يزيد من هذا الإمكان شعور المتكلّمين علي الشبكات، حين يغادرون حلقات الدردشة المحصورة، أنهم يتوجّهون بكلامهم إلي جمهور، أي أن لهذا الكلام نصيباً من العمومية يقتضي القالب الفصيح أو ما يمتّ إليه بنسب قريب وإن يكن عاميّاً.
ليس لنا أن نطمح لأيّ من هذين المسارين (تعارف العاميّات وتطويع الفصحي للحوار ولأغراض الحياة اليومية) أن يفضي بنا إلي نهاية قطعية. فمثل هذا لا يحصل في المضمار اللغوي أو يحتاج حصوله إلي زمن مديد جدّاً. ولكن هذا شيء حسن يحصل للعربية ويدلّ حصوله، ولو تعرّج المسار أو تقطّع، علي أن ما يحلّ بلغتنا علي الشبكات لا يختصره غزو أجنبي ليس للشبكات مسؤولية خاصة عنه ولا يستنفده طغيان للعاميّات من غير ثمرةٍ طيبة تجنيها العاميّات والفصحي سواءً بسواء.«
أما د. عماد عبد اللطيف فقدم تحليلاً للغة الجمهور في الفضاء الإلكتروني انطلاقاً من تعليقات الجمهور علي المناظرة الشهيرة بين السيد عمرو موسي ود. عبد المنعم أبو الفتوح في المرحلة الأولي من الانتخابات الرئاسية المصرية لعام 2012.
ميّز صاحب »بلاغة الحرية« في محاضرته بين نوعين من الحجاج، استناداً إلي دراسات باسل حاتم، »الأول: الحجاج المساير Through-argumentation، ويبدأ بعرض وجهة نظر، يتم تدعيمها بالحجج والبراهين، ويُختتم بالاستنتاج، وذلك دون أن تكون هناك إشارة ظاهرة إلي وجهة نظر مخالِفة أو معارضة. والثاني: هو الحجاج المضاد Counter-argumentation، ويبدأ بموجز مُختار من وجهة نظر شخص آخر، يتبعه رأي مضاد، ثم البراهين التي تحدد أسس المخالفة، وفي النهاية يأتي الاستنتاج..
أثبت باسل (1997) أن النصوص العربية يشيع فيها الحجاج المساير بدرجة أكبر من الحجاج المضاد. وعلي العكس من ذلك يشيع في النصوص المكتوبة بالإنجليزية الحجاج المضاد بدرجة أكبر من الحجاج المساير. وأشار إلي أن تفضيل كل ثقافة لنوع مغاير من الحجاج متأثر بالأعراف الاجتماعية الموجودة داخل كل ثقافة، والطبيعة الاجتماعية-السياسية لها، خاصة ما يتعلق بموقف كل ثقافة من الحقيقة وحرية التعبير.«
شيوع استخدام الحجاج المساير في النصوص العربية يُبرّر، كما ذكر د. عبد اللطيف، »بأنه يُظهر حرصًا أكبر علي الحفاظ علي التناغم الاجتماعي، وعدم التصادم مع الآراء المخالفة، وإيثار الحفاظ علي العلاقات الاجتماعية، حتي لو كان ذلك علي حساب تعبير المرء عما يعتقد فيه أو يؤمن به. وعلي العكس من ذلك، يعكس شيوع استخدام الحجاج المضاد في النصوص الغربية ميلاً إلي الاشتباك مع وجهات النظر المخالفة، والتعبير الواضح عن موقف الفرد منها. كما يكشف عن إيثار إعلان »الحقيقة«، حتي لو كان ذلك علي حساب العلاقات الاجتماعية. ويكشف هذا الاختلاف بشكل غير مباشر عن أن الثقافة العربية لديها حساسية عالية تجاه مخالفة الآراء ومعارضتها بشكل مباشر أو معلن. وهو أمر ربما كان غير محمود؛ لأنه قد يؤثر علي حركة تطور الحجاج ذاته، الذي لا يمكن أن يتطور من غير نقد اللاحق للسابق نقدًا جذريًا، وإعلان هذا النقد.«
لكن هل الأمر نفسه علي شبكات التواصل الاجتماعي؟! تفحص د. عبد اللطيف للتواصل اللغوي عبر وسائط التواصل الاجتماعية أثناء الربيع العربي، دفعه للخروج بنتيجة مفادها ضرورة مراجعة فرضية باسل حاتم. فمادة بحثه، ممثلة في التعليقات علي مناظرة موسي أبو الفتوح، يهيمن عليها الحجاج المضاد، ويتراجع إلي حد كبير استخدام الحجاج المساير.
خلص عماد عبد اللطيف إلي أنه »ربما تصدق فرضية باسل علي التواصل المباشر في السياق الاجتماعي بين أشخاص تجمعهم صلات ما. في حين أن معطيات المدونة التي بين أيدينا تبرهن علي أن الأفراد يلجأون إلي الحجاج المضاد بصورة أكبر في سياق التواصل غير المباشر عبر وسيط إلكتروني، الذي يدور حول موضوعات سياسية ساخنة، ويكون المشاركين فيه غرباء عن بعضهم البعض. واتساقًا مع فكرة التناسب الطردي بين المجهولية واستخدام الحجاج المضاد،
يمكن افتراض أن اللجوء إلي الحجاج المضاد في فضاءات التواصل الافتراضي سوف يزداد بدرجة أكبر إذا كان الشخص يستخدم هوية مزيفة، أو غير مُعرّفة كما هو حال أغلب المشاركين في التعليق علي المناظرة. ويمكن ملاحظة أن الأشخاص الذين يتخفون وراء تسميات وهمية تتكون من تعبيرات أو أرقام يستخدمون عبارات قاسية في حق مخالفيهم.«
اللغة والرواية
توقف المنتدي في يومه الثاني أمام اللغة العربية في علاقتها بالرواية عبر شهادتين؛ الأولي لكاتبة هذه السطور والثانية للروائي اللبناني هلال شومان.
شهادتي المعنونة باللغة العامية: بديل للفصحي أم جيتو لغوي؟« انشغلت بأسئلة من قبيل: هل نملك العربية حقاً؟ هل نملك حرية اللعب معها بعيداً عن سطوة كهنتها وسلطتهم أو وهذا هو الأهم- بعيداً عن سلطة النص المقدس؟! كيف يمكنني كروائية أن أكون مرتاحة في لغتي في وقتٍ أفكر فيه بلغة« وأكتب بأخري؟! وإلي أي حد يؤثر اختياري لمستوي ما من مستويات اللغة العربية علي رؤيتي لشخصياتي ورؤية شخصياتي للعالم؟ وإلي أي درجة اختلفت تحديات تطويع العامية المصرية لمتطلبات الرواية الآن عنها في ما مضي؟
أسئلتي الخاصة بعلاقة العربية بالنص المقدس حفزها قبل سنوات سؤال من كاتب مكسيكي: » ما شعورك وأنت تكتبين بلغة يُنظر إليها كلغة مقدسة؟«
سؤال الكاتب المكسيكي رافقني طوال الوقت. كنت أسأله لنفسي بطرق مختلفة، كيف ككاتبة، أشعر بحريتي مع اللغة وارتياحي فيها، حين تكون هذه اللغة ليست حرة بالدرجة التي أتمناها، حين تكون ملتصقة بجذورها أكثر مما ينبغي وغير قادرة علي التطور بما يلائم العصر؟ أو كي أكون دقيقة، لغة تتطور، لكن تطورها الأكثر حيوية يُنظر إليه كمسار غير شرعي، كلغة مدنسة تشوش علي اللغة النقية المشتهاة، والمفارقة أن من ينصبون أنفسهم حماة لها هم، في الغالب، الأكثر معارضة لتطورها وعصرنتها، أي الأكثر إيذاءً لها.
حلي الوحيد، في هذه الحالة، أن أتناسي قداستها المفترضة، أن أمارس حريتي في التجول بين مستوياتها وعصورها المختلفة، أن أقرأ »فقه اللغة« للثعالبي كنص فني، وأن أغوص بالساعات في »لسان العرب« بلا غرض سوي المتعة، وأن أصالح بين المستويات المختلفة للعربية فصحي أو عامية بحثاً عن معجمي الخاص المتوائم مع إيقاعي الداخلي.
أما شهادة هلال شومان: »في تلاقي وافتراق العربية الفصحي والمحكية اللبنانية: رحلة بين وسائط تقنية وفنية«، فتمحورت حول علاقته الذاتية كروائي باللغة تلك التي شبهها، بل شبَّه العلاقة باللغة في المطلق بالمعركة الصاخبة.
»هل المطلوب من اللغة دائمًا وفقط أن تكون انتقاءات ألفاظ وتركيب جمل ومقاطع بشكل مبهر؟ ولماذا تكون البداية من اللغة لا من الوسيط / القالب الذي تستخدَم فيه اللغة نفسها؟« تساءل شومان الذي يري أنّ »اللغة عندي في الرواية هي لغة حركة لا لغة وصف. فأنا أحرص في رواياتي مثلًا أن أُنهِض الشخصيّة من السرير، وأن أجعلها تذهب إلي الحمام، وأن تمشي في الشارع، وأن تجلس في التاكسيّات، وأن تنظر وأن يُنظَر إليها، وأن تتحدّث في عقلها أو علي لسانها. والحديث تحديدًا يأتي مع الاستطرادات، ونفي ما قيل، وتبرير ما حصل، وإعدام صلابة الخبر أو الرأي المؤكّد.«
ويضيف: »الحركة المشار إليها لا تتعارض مع السرد أو مع الوصف الساكن. إذ أنني قد أضمّن مقاطع سرديّة ووصفية كاملة. لكنّ الشخصيّة هي إما أن تكون حاضرة فيها، أو تكون المقاطع حجة للنظر إلي الشخصية من الخارج أو الولوج إلي الأفكار داخلها. اللغة في الرواية، إذًا، هي سبيلي إلي التعرف علي الشخصيات أولًا، وسير الرواية التفصيلي ثانيًا. فاللغة عندي أفضّلها وسيلةَ لا غايةً، ولاحقةً لا سابقةً، بالرغم من التحرير المتكرّر، ومن ثمّ النهائي الذي تخضع له الرواية- فتُشذّب فيها العبارات، وتستبدل بعض الكلمات منعًا للتكرار، ويعاد توزيع الفقرات، ويُحدّ من الاستفاضة، ويُعاد استخدام أدوات الوقف لتلاقي الإيقاع المطلوب من بعض المقاطع.«
غير أن أكثر ما يلفت النظر في مداخلة هلال شومان، هو هذا التردد في استخدام العامية في حوارات رواياته السابقة، تردد لم يبدأ في التغلب عليه إلّا أثناء كتابة الرواية التي يعمل عليها حالياً، إذ يقول: »تشجّعت وأخذتُ أفرد بعض المقاطع الكاملة باللغة العاميّة. ووجدتُ أيضًا أنّ علي أن أبدأ بحسم خوفي من الحوار، فحرصتُ أن أستفيض فيه حيث يجب وأن لا أقصره علي الأسئلة والأجوبة، بقدر ما أستخدمه لرسم إضافي للشخصيّات. واكتشفتُ أنّ المحكّية العاميّة في حوارات الرواية يمكنها أن تعطيك، بسهولة، شيئًا قد لا تحقِّقه عبر السرد بالفصحي إلا بجهود أكبر. إذ يمكنني أن أرسم شخصيّة من طريقة كلام، كما يمكنني أن أعيدها إلي أصولها المكانيّة بطريقة النطق، ويبقي لي أن أجرّب كيف تعبّر عن هذا النطق بالطريقة اللغوية الأنسب.«
الكُرد والعلاقة الإشكالية بالعربية
لم يتمكن الكاتب السوري المعارض رستم محمود من القدوم إلي بيروت بسبب رفض منحه التأشيرة اللبنانية، لكنه شارك في المنتدي، عبر »سكايب«، بمحاضرة مثيرة للاهتمام تناول فيها علاقة الكُرد الإشكالية باللغة العربية لافتاً النظر إلي أنها تاريخياً لم تكن علاقة تخاصمية، فالكُرد كانوا »أكثر المجموعات السكانية في المنطقة تقبلا للغة العربية، بشكلها الكلي كلغة للمعرفة والتدين، أو بشكلها النسبي من خلال استخدام الكلمات والتعابير العربية، بشكل أكثر سلاسة وقبولا من جميع المجموعات السكانية »القومية« الأخري في المنطقة.«
حدد محمود عشرينيات القرن العشرين باعتبارها بداية التفارق بين الكُرد واللغة العربية، وهو العقد الذي أصر فيه اللغوي الكردي المير جلادت عالي بدرخان علي تحويل حروف الكتابة الكردية من الحروف العربية إلي الحرف اللاتيني.
واللافت أنه في الوقت الحالي لا يزال الكُرد في كل من العراق وإيران يكتبون الكردية بالحروف العربية، بينما يكتب الكرد في سوريا وتركيا بالحروف اللاتينية.
الورقة التي حملت عنواناً دالاً هو »تراجيديا الكُرد واللغة العربية« بينت من فقرة لأخري أبعاد هذه التراجيديا، كون العربية هي لغة الدين، لكنها أيضاً لغة القوميين العرب ممن رأوا في الكُرد بلغتهم الأم وعِرقهم المختلف تهديداً لطموحهم القومي. يقول محمود: »شكلت اللغة العربية المفروضة والمحتكرة لكل المجال العام، في التعليم والمؤسسات والإعلام والتبادل التجاري والإنتاج المعرفي والثقافي وبيروقراطية الدولة، سواء في المناطق ذات الأغلبية السكانية الكردية أقصي شمال البلاد، أو في المناطق الداخلية التي كانت تشهد حضورا سكانيا كرديا متفاوتا، شكلت ذلك الفرض وتلك الاحتكارية أقرب نموذج لصورة الطرف »الطاغي« في المخيلة القومية الكردي السورية.«
لكن المفارقة الحقيقية في علاقة الكُرد بالعربية تكمن في أنه رغم أن التحادث المحكي بالعربية لا يزال مرفوضاً ومستهجناً في المجتمع الكردي السوري، فإن التحادث والتواصل عبر شبكة الفيسبوك بالعربية »لا ينال ذلك الرفض من قبل المتن الأعلي من النُخب الاجتماعية والسياسية والثقافية الكردية، إذ يُعتبر ذلك شيئاً عاديا وطبيعيا. حتي أن التعليق علي الأحداث والمناسبات في شبكة الفيسبوك، من قبل جميع المؤسسات الثقافية والسياسية الكردية السورية، إنما يتم باللغة العربية غالب الأحيان، حتي من قبل طبقة القوميين الكرد الأكثر راديكالية.«
غواية العمومية
وفي بداية محاضرات اليوم الثالث، اختار الشاعر اللبناني يوسف بَزي حدث »المونديال« منطلَقاً لتفحص علاقة الفيسبوك باللغة في محاضرة عنوانها »حالات فيسبوكية: المونديال مثالاً«.
رأي بَزي أن الستاتوس النموذجي تطور إلي أن يصير جنساً كتابياً تقريباً، »فهو في الشكل ليس مقالة، ولا رسالة، ولا مقطوعة أدبية نثرية أو شعرية وليس محادثة أو اقتباسات. إنه هكذا، شبه برقية، ينحاز إلي إعلان موقف، غالباً ما يكون ساخراً، وعلي العموم يلتقط المفارقات، أشبه بخاطرة، لكنه متناسل من تراكم ذاكرة الفايسبوك ولغته العمومية، التي حددنا سماتها آنفاً. الستاتوس فن تطور بذاته عبر التجريب اليوميوما يمكن أن نسميه التناص المعمم. هو يستولد الرموز والعلامات والدلالات، من نظام رموز وعلامات ودلالات سابقة عليه.«
ولأن صاحب »نظر إليّ ياسر عرفات وابتسم« متبرم بطبعه من كليشيه صورة المثقف النمطية، فقد وجد في الفيسبوك فرصة رائعة لتحطيمها والسخرية منها وتجاوزها. »إنها لحظة الإنغماس في العمومية، كما هي لحظة تعرية الذات وإشهارها، بل أيضاً ممارسة العلنية في ما هو شخصي وحميم ومتعوي ومجاني.«
وقد مثَّل حدث مونديال 2014 ذروة الانغماس في العمومية وتحطيم صورة المثقف النمطي. وهو ما وضحه يوسف بزي عبر عرض للسجالات الدائرة بينه ومعه مشجعي المنتخب الألماني من جهة وبين يحيي جابر ومشجعي المنتخب البرازيلي من جهة أخري.
أشار بزي في محاضرته إلي نقطة مهمة هي أن الكتابة بالفصحي في هذه السجالات »الاعتباطية«، »أقرب إلي أن تكون فعلاً تمثيلياً، محاكاة ساخرة، »بارودي«، كتابة تتوسل الخفة بتمثيل علي ثقل الفصاحة وبلاغتها. هو استدعاء متعمد للرطانة. هذا النوع غير الأدبي هو من ميزات الكتابة الفايسبوكية.«
أما الباحث والمترجم الفرنسي فريدريك لا غرانج فقد قدم محاضرة، حظيت بحضور كثيف، حلل فيها المقومات اللغوية لفكاهة الدمية الشهيرة »أبلة فاهيتا«، محاولاً »تحديد المرجعية الثقافية والطبقية التي تميز روحها، من خلال إظهار المراوغات اللفظية والتلميحات المبطنة وتحليل الخلط المحكم بين عناصر معجمية خاصة بالعولمة وتعابير ذات طابع بلدي ونسائي، وأخري تنفرد بها الأبلة بحيث تكون لها لغتها الخاصة المتميزة علي صعيد النطق والتصريف والبني والمعجم.«
إلي جانب المحاضرات والشهادات قدم الشاعر اللبناني يحيي جابر عرضاً آدائياً يجمع بين الشعر والمسرح بعنوان »هذا حائط«، »عن تطور لغة الشعارات السياسية والعاطفية والشعرية والاجتماعية والإعلانية والحربية علي حيطان المدينة وصولاً إلي تطورها مع لغة حائط الفايسبوك.«


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.