عون: السعودية ساهمت في إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان    مئات الآلاف يواصلون تظاهراتهم في إسرائيل للمطالبة بوقف العدوان على غزة    الأغذية العالمي: نصف مليون فلسطيني في غزة على شفا المجاعة    النيابة تستعجل تحريات مقتل سيدة على يد زوجها أمام طفليها التوأم في الإسكندرية    إساءات للذات الإلهية.. جامعة الأزهر فرع أسيوط ترد على شكوى أستاذة عن توقف راتبها    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الاثنين 18 أغسطس    أرتفاع الحديد.. أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    إيران: احتمال اندلاع مواجهة جديدة مع إسرائيل قائم.. ونستعد لكل السيناريوهات    ممثل واشنطن لدى الناتو: حلف شمال الأطلسي لن يشارك في الضمانات الأمنية لأوكرانيا    ترامب يهاجم «وسائل الإعلام الكاذبة» بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    "أي حكم يغلط يتحاسب".. خبير تحكيمي يعلق على طرد محمد هاني بمباراة الأهلي وفاركو    سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين 18-8-2025 مع بداية التعاملات    حار رطب على أغلب الأنحاء.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين 18 أغسطس    «زمانك دلوقتي».. شذى تطرح أولى أغاني ألبومها الجديد    ياسين التهامي يوجه الدعوة لتأمل معاني الحب الإلهي في مهرجان القلعة    تامر عبدالمنعم: «سينما الشعب» تتيح الفن للجميع وتدعم مواجهة التطرف    وصفة مغذية وسهلة التحضير، طريقة عمل كبد الفراخ    أحمد إبراهيم يوضح موقفه من أزمة مها أحمد.. ماذا قال؟    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    مطاردة الواحات المميتة.. الداخلية والإعلام يضعان الجناة في قبضة العدالة    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    أمير هشام: غضب في الزمالك بعد التعادل أمام المقاولون    لو التكييف شغال مش بيبرد.. اعرف السبب والحل ودرجة الحرارة المثالية بدل وضع Fan    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    أتلتيكو مدريد يسقط أمام إسبانيول بثنائية في الدوري الإسباني    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    وزارة التربية والتعليم تصدر 24 توجيهًا قبل بدء العام الدراسي الجديد.. تشديدات بشأن الحضور والضرب في المدراس    مصرع سيدة في حادث سير على الطريق الدولي بالشيخ زويد    موعد فتح باب التقديم لوظائف وزارة الإسكان 2025    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    البنك المصري الخليجي يتصدر المتعاملين الرئيسيين بالبورصة خلال جلسة بداية الأسبوع    هاجر الشرنوبي تدعو ل أنغام: «ربنا يعفي عنها»    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    الأونروا: ما يحدث في قطاع غزة أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال لقائه نظيره الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى    إضافة المواليد على بطاقة التموين 2025.. الخطوات والشروط والأوراق المطلوبة (تفاصيل)    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن خطف الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية (فيديو)    متحدث الصحة يكشف حقيقة الادعاءات بخطف الأطفال لسرقة أعضائهم    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    طارق مجدي حكما للإسماعيلي والاتحاد وبسيوني للمصري وبيراميدز    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    السكة الحديد: تشغيل القطار الخامس لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    انطلاق دورة تدريبية لمديري المدارس بالإسماعيلية    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باسمة بطولي شاعرة الإيقاع والصورة
نشر في صوت البلد يوم 20 - 02 - 2016

للشاعرة والرسامة اللبنانية باسمة بطولي إصدارات كثيرة خاصة تجمع فيها بين القصيدة واللوحة، من بينها «مكللة بالشوق» (إصدار خاص 1966) و «أصداء بصرية- لوحات» (إصدار خاص 2013) وأخيراً «سلالي ومياه الوقت» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2016). وما بين قصيدة باسمة ولوحتها مياه تجري في مجرى واحد من الرومنطيقية والحنين المفتوح على عناصر الطبيعة والزمن، حيث الرجل يظهر كحارس للأنثى والأنثى نمرة أو لبؤة والرجل إما سيد عال معبود أو لص يسرق كنز الأنثى المحروس.
في رسوم «سلالي ومياه الوقت» الثمانية عشر (مائيات بمعظمها أو زيت على قماش) أطياف ترحل، طبيعة خريفية أو عاصفة، كتابات على الريح، إمرأة واقفة أمام طائر في مدى وظهرها لكتاب مفتوح، إمرأة كأنها انهمار الشتاء... ما يتم عبره انصهار ذاتي للحزن، للوداع أو الانتظار، في بقع لونية مسيطرة على الرسوم. وتكاد تذوب ملامح الوجه البشري للمرأة في هذه البقع التي غالباً ما هي منهمرة أو شتائية أو ناظرة في مدى غامض.
القصيدة النداء
في القصيدة، وعلى رغم تمرّس الشاعرة القديم في الكتابة (إذ هي عايشت «شعر» و «مواقف» و «الآداب»، المجلات التي حضنت الحداثة الشعرية العربية بأساليبها وتقنياتها المتنوعة، وشهدت صراع الأشكال الشعرية المستحدثة وإشكالات الإيقاع والنثر والوزن واستتار المعنى والمثاقفة مع الغرب)، بقيت باسمة بطولي محافظة على الشكل الكلاسيكي للقصيدة. تلك التي أخلص لها حتى الرمق الأخير الجواهري وبدوي الجبل والأخطل الصغير وسعيد عقل. إن من يقرأ آراء كل من بدوي الجبل وسعيد عقل بالحداثة على العموم، يجد نفوراً منها. بدوي الجبل بقي يفضل أدونيس الكلاسيكي على أدونيس الحديث (المغامر). لم يجرب البدوي الخروج على أوزان الأسلاف ما قرب إيقاعه من إيقاعهم. أما سعيد عقل فسخر من حداثة بيكاسو وشبّهها بنجمة من حديد على حافر حصان. هو ينكر معرفته بمحمود درويش أو قراءته له، كما لا يولي أدونيس معرفة واهتماماً بصنيعه. وحين ينوع في الأوزان يظهر وكأنه يستعيد الموشح. فيظهر لدى المحافظين ما يشبه عبادة الشكل القديم.
صحيح أن الشعر هو كل أشكاله، ولكن لا بد من الانتباه إلى تطور الإيقاعات والأساليب وخوض المغامرة الشعرية حتى النهاية. عبادة الشكل تؤدي الى عبادة المعنى، وذلك يؤدي لانسداد ما، لمعضلة، لإشكال لا يرد عليه إلا بالمغامرة في اللغة والموسيقى، وأيضاً في طريقة الأداء الشعري. وآخر القول هو أن جميع التجارب والأشكال، اللغات والأساليب والأوزان واللاوزن توضع في خدمة القصيدة الجديدة. ذلك أن من أهم سمات الشعر هو أنه يفاجئ (برغم الذاكرة) وهو أنه حرّ (برغم التاريخ).
بالعودة إلى «سلالي ومياه الوقت»، يعطيك العنوان انطباعاً بفوات الزمن أو بتسربه كالماء من السلال. صحيح أن ثمة ماء وثمة سلالاً، ولكن أين الماء؟ والمعنى يتجسد أكثر بتشبيه العلاقة مع الزمن بالنظر من النافذة إلى أعلى. النظر يعلو ويعلو لكنّ القدمين ثابتتان في المكان... وصحيح أن باسمة بطولي ترغب في القبض على المعنى، لكنها من خلال خصلتين في شعرها تظهر وكأنها تداور المعنى تلعب معه أو تدوره على الأقل.
الأولى تدوير المعنى. نقرأ البيتين التاليين من قصيدة "أرجوحة الأوهام":
" فإذا لم يكن من الموت بد فعلى موتي اشتياقاً أعني
ولأمت مرتين عنا كأني شئت موتاً ولم أشأ بل لأني ."
استعارت الشطر الأول من البيت الأول من الشعر القديم. لكنها جعلت منه متكأ لمعناها الجديد. أخذت من الشعر القديم حقيقة الموت، لكنها نقلته مباشرة إلى مستوى العشق (الموت اشتياقاً)، ثم استدارت بالمعنى هذا إلى البيت التالي لتتوغل فيه أكثر. لا شك في أن الدافع لهذا الاستطراد هو عدم استهلاك المعنى في الدفعة الأولى، والغبطة في التوغل باللقيا الشعرية، تالياً أي الموت (موتها) مرتين: عنها وعنه معاً كأنها هي التي شاءت الموت بهذا الشغف وكل ذلك اشتياقاً للحبيب. ومع هذا، هي لم تقفل المعنى بمشيئة الموت، بل فتحته على مزيد من التدوير بقولها شئت ولم أشأ»..... لتستطرد إلى آخر الشوط .... بالطبع، هذا شعر جديد وجميل يثير الغبطة، حتى ولو تكلم على الموت لأنه الموت عشقاً ما يساوي الحياة. وهو جديد برغم ذاكرة تنقلنا إلى مجنون بني عامر (قيس) الذي يدور شعره على الموت عشقاً ليرى ثمة «خلف الحياة» وجه ليلى. لكنّ الجديد في معنى باسمة بطولي هو الموت مرتين. كما أن الصيغة تجذب الانتباه، ففي الصيغة هنا ما يمكن أن يسمى «متابعة المعنى» ما يؤمن الاستطراد» ويهيئ للمباغتة الجمالية. والمسألة هنا تتعلق في فهم القصيدة: ما هي؟ أهي على ما قاله بول فاليري: «ذلك التردد المطول بين الصوت والمعنى»؟ أي بين الفئة السيميائية للنص (الصوت) والفئة الدلالية (المعنى). لكأنّ القصيدة هي صوت يبحث عن معناه. وهو فهم ألسني لغوي للشعر قال به جاكوبسون وتودوروف وفردينيان دي سوسير وجان كوهين وسواهم. وهي نظريات غربية على العموم مؤسسة على دور اللغة في الوزن ومتابعة المعنى، أي أنها تختص بالشعر الموزون، وبالفارق (الوزني) بين الشعر والنثر.

بين الصوت والمعنى
التردد المطول بين الصوت والمعنى إذاً هو يمنح القصيدة شعريتها. لكنّ جيورجيو أغامبن (الباحث الإيطالي) في دراسته حول نهاية القصيدة والشعرية، حين يتبنى النظرية الألسنية لمتابعة التوتر بين الصوت والمعنى يلاحظ ثلاثة مواقع لانقطاع التوتر: التدوير والقافية والواصل بين شطري البيت ويسميه باللاتينية versura. فما هو التدوير؟ (enjambement) بالفرنسية؟
إنه باختصار الوصل بين صدر البت وعجزه. وله في العربية تسمية دقيقة هي «التضمين»، وهو أن لا تكون القافية مستغنية عن البيت الذي يليها، كقول النابغة الذبياني (من الوافر والقافية من المتواتر):
"وهم وردوا الجفار على تميم وهم أصحاب يوم عكاظ أني
شهدت لهم مواطن صالحات وثقت لهم بحسن الظن متي"
فنهاية البيت الأول «أني» مرتبطة ببداية البيت الثاني «شهدت» وربما ببداية الشطر الثاني من البيت الثاني «وثقت» فالعروض العربي أكثر دقة وتفصيلاً من العروض الفرنسي في هذا الباب ولم يغب معنى التدوير على ما ورد في المعادل العربي لكلمة enjambement. عن العروض العربي، ففي باب أنواع البيت هناك البيت المدور إلى جانب البيت المجزوء والبيت المشطور والبيت المنهوك. والمدور هو ما كانت فيه كلمة مشتركة بين صدر البيت وعجزه بالعودة لبيتي باسمة بطولي الانفين، نعثر على التدوير والتضمين معاً في وقت واحد. وهو أسلوب شعري عربي قديم متجدد، يجعل من القصيدة سياقاً وسباقاً بين الصوت والمعنى من ناحية، وبين المعنى وذاته من ناحية ثانية. فالمعنى لا يكتمل بل يتكامل بل يستكمل وحركة القصيدة تظهر وكأنها تلاحقه من شطر لشطر ومن كلمة لكلمة.
إلى التدوير والتضمين في شعر باسمة بطولي، يظهر أيضاً، وأحياناً، اتجاه إلى التسامي بالشعر نحو القيمة. وهي مسألة ميتافيزيكية ورومنطيقية في آن. ففضلاً عن دخول عناصر الطبيعة بكثافة في قصائدها، من شجر وغيم وقمر ومياه، وبروز قيمة الحب كقيمة أساسية في الكتابة، تعلي من شأنها وشأن الرجل (المحبوب) لدرجة تلامس التقديس، إلا أنها تغمس كل ذلك أو توجه كل ذلك في اتجاه يربط بين الكون وخالقه ... «قد نعي الله كله في حفيف من خريف آت إلى الغابات» (قصيدة بلاغة الحفيف)
ولا نستطيع القول أن شعرها شعر لاهوتي، لكنّ القيمة المتسامية لا تغيب عنه. مسألة قد يكون مردها إلى علاقة خاصة يتميز بها شعر الجبل اللبناني بالعامية والفصحى من رشيد نخلة وأمين نخلة إلى ميشال طراد وصولاً الى سعيد عقل حيث نظروا إلى الحب والموت والحرية والوطن من خلال عناصر الطبيعة الخلابة في الجبل، تلك التي نظروا إليها كشواهد (أو آيات) على عظمة الخالق من خلال علامات الطبيعة الجميلة والمهيبة.
للشاعرة والرسامة اللبنانية باسمة بطولي إصدارات كثيرة خاصة تجمع فيها بين القصيدة واللوحة، من بينها «مكللة بالشوق» (إصدار خاص 1966) و «أصداء بصرية- لوحات» (إصدار خاص 2013) وأخيراً «سلالي ومياه الوقت» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2016). وما بين قصيدة باسمة ولوحتها مياه تجري في مجرى واحد من الرومنطيقية والحنين المفتوح على عناصر الطبيعة والزمن، حيث الرجل يظهر كحارس للأنثى والأنثى نمرة أو لبؤة والرجل إما سيد عال معبود أو لص يسرق كنز الأنثى المحروس.
في رسوم «سلالي ومياه الوقت» الثمانية عشر (مائيات بمعظمها أو زيت على قماش) أطياف ترحل، طبيعة خريفية أو عاصفة، كتابات على الريح، إمرأة واقفة أمام طائر في مدى وظهرها لكتاب مفتوح، إمرأة كأنها انهمار الشتاء... ما يتم عبره انصهار ذاتي للحزن، للوداع أو الانتظار، في بقع لونية مسيطرة على الرسوم. وتكاد تذوب ملامح الوجه البشري للمرأة في هذه البقع التي غالباً ما هي منهمرة أو شتائية أو ناظرة في مدى غامض.
القصيدة النداء
في القصيدة، وعلى رغم تمرّس الشاعرة القديم في الكتابة (إذ هي عايشت «شعر» و «مواقف» و «الآداب»، المجلات التي حضنت الحداثة الشعرية العربية بأساليبها وتقنياتها المتنوعة، وشهدت صراع الأشكال الشعرية المستحدثة وإشكالات الإيقاع والنثر والوزن واستتار المعنى والمثاقفة مع الغرب)، بقيت باسمة بطولي محافظة على الشكل الكلاسيكي للقصيدة. تلك التي أخلص لها حتى الرمق الأخير الجواهري وبدوي الجبل والأخطل الصغير وسعيد عقل. إن من يقرأ آراء كل من بدوي الجبل وسعيد عقل بالحداثة على العموم، يجد نفوراً منها. بدوي الجبل بقي يفضل أدونيس الكلاسيكي على أدونيس الحديث (المغامر). لم يجرب البدوي الخروج على أوزان الأسلاف ما قرب إيقاعه من إيقاعهم. أما سعيد عقل فسخر من حداثة بيكاسو وشبّهها بنجمة من حديد على حافر حصان. هو ينكر معرفته بمحمود درويش أو قراءته له، كما لا يولي أدونيس معرفة واهتماماً بصنيعه. وحين ينوع في الأوزان يظهر وكأنه يستعيد الموشح. فيظهر لدى المحافظين ما يشبه عبادة الشكل القديم.
صحيح أن الشعر هو كل أشكاله، ولكن لا بد من الانتباه إلى تطور الإيقاعات والأساليب وخوض المغامرة الشعرية حتى النهاية. عبادة الشكل تؤدي الى عبادة المعنى، وذلك يؤدي لانسداد ما، لمعضلة، لإشكال لا يرد عليه إلا بالمغامرة في اللغة والموسيقى، وأيضاً في طريقة الأداء الشعري. وآخر القول هو أن جميع التجارب والأشكال، اللغات والأساليب والأوزان واللاوزن توضع في خدمة القصيدة الجديدة. ذلك أن من أهم سمات الشعر هو أنه يفاجئ (برغم الذاكرة) وهو أنه حرّ (برغم التاريخ).
بالعودة إلى «سلالي ومياه الوقت»، يعطيك العنوان انطباعاً بفوات الزمن أو بتسربه كالماء من السلال. صحيح أن ثمة ماء وثمة سلالاً، ولكن أين الماء؟ والمعنى يتجسد أكثر بتشبيه العلاقة مع الزمن بالنظر من النافذة إلى أعلى. النظر يعلو ويعلو لكنّ القدمين ثابتتان في المكان... وصحيح أن باسمة بطولي ترغب في القبض على المعنى، لكنها من خلال خصلتين في شعرها تظهر وكأنها تداور المعنى تلعب معه أو تدوره على الأقل.
الأولى تدوير المعنى. نقرأ البيتين التاليين من قصيدة "أرجوحة الأوهام":
" فإذا لم يكن من الموت بد فعلى موتي اشتياقاً أعني
ولأمت مرتين عنا كأني شئت موتاً ولم أشأ بل لأني ."
استعارت الشطر الأول من البيت الأول من الشعر القديم. لكنها جعلت منه متكأ لمعناها الجديد. أخذت من الشعر القديم حقيقة الموت، لكنها نقلته مباشرة إلى مستوى العشق (الموت اشتياقاً)، ثم استدارت بالمعنى هذا إلى البيت التالي لتتوغل فيه أكثر. لا شك في أن الدافع لهذا الاستطراد هو عدم استهلاك المعنى في الدفعة الأولى، والغبطة في التوغل باللقيا الشعرية، تالياً أي الموت (موتها) مرتين: عنها وعنه معاً كأنها هي التي شاءت الموت بهذا الشغف وكل ذلك اشتياقاً للحبيب. ومع هذا، هي لم تقفل المعنى بمشيئة الموت، بل فتحته على مزيد من التدوير بقولها شئت ولم أشأ»..... لتستطرد إلى آخر الشوط .... بالطبع، هذا شعر جديد وجميل يثير الغبطة، حتى ولو تكلم على الموت لأنه الموت عشقاً ما يساوي الحياة. وهو جديد برغم ذاكرة تنقلنا إلى مجنون بني عامر (قيس) الذي يدور شعره على الموت عشقاً ليرى ثمة «خلف الحياة» وجه ليلى. لكنّ الجديد في معنى باسمة بطولي هو الموت مرتين. كما أن الصيغة تجذب الانتباه، ففي الصيغة هنا ما يمكن أن يسمى «متابعة المعنى» ما يؤمن الاستطراد» ويهيئ للمباغتة الجمالية. والمسألة هنا تتعلق في فهم القصيدة: ما هي؟ أهي على ما قاله بول فاليري: «ذلك التردد المطول بين الصوت والمعنى»؟ أي بين الفئة السيميائية للنص (الصوت) والفئة الدلالية (المعنى). لكأنّ القصيدة هي صوت يبحث عن معناه. وهو فهم ألسني لغوي للشعر قال به جاكوبسون وتودوروف وفردينيان دي سوسير وجان كوهين وسواهم. وهي نظريات غربية على العموم مؤسسة على دور اللغة في الوزن ومتابعة المعنى، أي أنها تختص بالشعر الموزون، وبالفارق (الوزني) بين الشعر والنثر.

بين الصوت والمعنى
التردد المطول بين الصوت والمعنى إذاً هو يمنح القصيدة شعريتها. لكنّ جيورجيو أغامبن (الباحث الإيطالي) في دراسته حول نهاية القصيدة والشعرية، حين يتبنى النظرية الألسنية لمتابعة التوتر بين الصوت والمعنى يلاحظ ثلاثة مواقع لانقطاع التوتر: التدوير والقافية والواصل بين شطري البيت ويسميه باللاتينية versura. فما هو التدوير؟ (enjambement) بالفرنسية؟
إنه باختصار الوصل بين صدر البت وعجزه. وله في العربية تسمية دقيقة هي «التضمين»، وهو أن لا تكون القافية مستغنية عن البيت الذي يليها، كقول النابغة الذبياني (من الوافر والقافية من المتواتر):
"وهم وردوا الجفار على تميم وهم أصحاب يوم عكاظ أني
شهدت لهم مواطن صالحات وثقت لهم بحسن الظن متي"
فنهاية البيت الأول «أني» مرتبطة ببداية البيت الثاني «شهدت» وربما ببداية الشطر الثاني من البيت الثاني «وثقت» فالعروض العربي أكثر دقة وتفصيلاً من العروض الفرنسي في هذا الباب ولم يغب معنى التدوير على ما ورد في المعادل العربي لكلمة enjambement. عن العروض العربي، ففي باب أنواع البيت هناك البيت المدور إلى جانب البيت المجزوء والبيت المشطور والبيت المنهوك. والمدور هو ما كانت فيه كلمة مشتركة بين صدر البيت وعجزه بالعودة لبيتي باسمة بطولي الانفين، نعثر على التدوير والتضمين معاً في وقت واحد. وهو أسلوب شعري عربي قديم متجدد، يجعل من القصيدة سياقاً وسباقاً بين الصوت والمعنى من ناحية، وبين المعنى وذاته من ناحية ثانية. فالمعنى لا يكتمل بل يتكامل بل يستكمل وحركة القصيدة تظهر وكأنها تلاحقه من شطر لشطر ومن كلمة لكلمة.
إلى التدوير والتضمين في شعر باسمة بطولي، يظهر أيضاً، وأحياناً، اتجاه إلى التسامي بالشعر نحو القيمة. وهي مسألة ميتافيزيكية ورومنطيقية في آن. ففضلاً عن دخول عناصر الطبيعة بكثافة في قصائدها، من شجر وغيم وقمر ومياه، وبروز قيمة الحب كقيمة أساسية في الكتابة، تعلي من شأنها وشأن الرجل (المحبوب) لدرجة تلامس التقديس، إلا أنها تغمس كل ذلك أو توجه كل ذلك في اتجاه يربط بين الكون وخالقه ... «قد نعي الله كله في حفيف من خريف آت إلى الغابات» (قصيدة بلاغة الحفيف)
ولا نستطيع القول أن شعرها شعر لاهوتي، لكنّ القيمة المتسامية لا تغيب عنه. مسألة قد يكون مردها إلى علاقة خاصة يتميز بها شعر الجبل اللبناني بالعامية والفصحى من رشيد نخلة وأمين نخلة إلى ميشال طراد وصولاً الى سعيد عقل حيث نظروا إلى الحب والموت والحرية والوطن من خلال عناصر الطبيعة الخلابة في الجبل، تلك التي نظروا إليها كشواهد (أو آيات) على عظمة الخالق من خلال علامات الطبيعة الجميلة والمهيبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.