قبل غزو نابليون القاهرة في حملته الفرنسية الشهيرة، كانت مصر كلها تقريباً من المواد التثقيفية والقانونية والصحية وقضايا الرعاية الاجتماعية في أيدي موظفي الدين، حيث عزز الحكم العثماني الأدوار العامة والسياسية من علماء الدين، لأن الإسلام هو دين الدولة، وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بذلت الحكومات المتعاقبة جهوداً مكثفة للحد من دور العلماء في الحياة العامة، وجعل المؤسسات الدينية تحت سيطرة الدولة بشكل أوثق.. مروراً بالتحول العلماني في الحياة العامة في مصر التي تعتمد على تطوير البيروقراطية المدنية التي من شأنها استيعاب وتقليل العديد من مسؤوليات علماء الدين في البلاد واقتصار دورهم على الدعوة فقط. أحدثت ثورة 1952 تقليداً جديداً على الحياة السياسية المصرية، حيث تولت الحكومات المتعاقبة مسؤولية تعيين المسؤولين على المساجد والمدارس والجامعات الدينية، وعلى الرغم من أن المسلمين اتفقوا على المبادئ الأساسية للإسلام، والجميع يطبق الإسلام بشكل مختلف في حياته اليومية، من علماء دين إلى الدعاة مروراً بالريف، فإن معظم الطبقات العليا والمتوسطة من المسلمين يعتقدون أن التعبير والاعتقاد الديني حرية شخصية سواء كان مسألة خاصة لكل فرد، أو بكون الإسلام يلعب دوراً أكثر هيمنة في الحياة العامة، ولذلك معظم طبقات الشعب يعتقدون أن الإسلام علاقة روحانية بين المرء وربه، باستثناء الطبقة الإسلامية المحافظة التي ترى أن الذين يشككون في الإسلام يجب قتلهم، كون الملحدين يرفضون تصور وجود الله والرسل والمعجزات. د.حسن حنفي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة قال: إن تقديم الإلحاد باعتباره مرض خبيث يساهم في إطلاق حملة خطيرة على الحريات الشخصية، والتي بطبيعة الحال تتضمن خيار الإيمان، كما أن خطورة التعامل مع الإلحاد كمشكلة دينية، تعني تحول أولئك الذين لا يتفق معهم المجتمع في الفكر الديني إلى منبوذين، وبالتالي توليد شعور العداء التي يمكن أن تترجم لاحقاً إلى العدوان نحو الاختلاف والتمرد على الآخرين، مؤكداً أن مصطلح ملحد واسع وفضفاض ويعادله في القرون الوسطى مصطلح "زنديق"، ولا يوجد تعريف واضح لهذه الفئات سوى أنهم حاولوا الخروج على كل ما سبق من أفكار وتقاليد من الجذور القديمة، وسواء كان الملحد مسلم أو مسيحي فإنه حتى الآن لا توجد إحصاءات رسمية عن هذه الأقلية المنسية، إلا أنه من الواضح أنهم قرروا الخروج علناً أمام المجتمع المصري المعروف بتدينه الإسلامي التلقائي، وأصبحوا أكثر استعداداً للسير ضد التيار الديني، الذي نما عقب ثورة 2011 وحتى الآن، وخلافاً لما حدث في أجزاء كثيرة من أوروبا الغربية، فإن الدين الإسلامي يعتبر الموت هو الطريق الوحيد للخارجين على الدين، وبالتالي فإن الطريق إلى عدم الاعتقاد أو السير على طريق الإلحاد هو صراع ليس فقط مع الذات التي تبحث في الشكوك وإنكار الذات الإلهية في تكوين الكون، بل أيضاً صراع مع المتشددين الذين يصفون الملحدين بأنهم كفار مهدر دماؤهم. واتفق معه في الرأي د.محمد عثمان أستاذ علم الأديان والمذاهب المعاصرة بجامعة القاهرة، وأضاف : إن الملحد لا يؤمن بالغيبيات أو الأخبار والسير المتواترة عن الرسل، وينكر جميع المعجزات، وإذا أراد أحد مناقشة الملحد في اعتقاده فعليه أن يثبت له أن لهذا العالم خالقاً وأنه موجود في السماء منزه عن التشكيك، بالدليل العقلي لأن الملحد لا يؤمن بالقرءان ولا بنبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا بوجود الرسل عامة، وبالتالي فإن التواصل معهم أمر صعب جداً كونهم يؤمنون فقط بالأشياء المادية الموجودة، موضحاً أن الأزهر يقع عليه دور كبير جداً في محاربة هذه الفئة التي تشكك في الإسلام، حيث كرست طبقة الملحدين جهودهم إلى حد كبير للإيقاع بضعاف الإيمان في المناطق الحضرية والريفية، التي يوجد فيها الإسلام بطريقة شعبية وبإسلوب تقليدي شفهي، مثل التعليم النظامي وحفظ القرآن وتلاوة الآيات المناسبة في المناسبات الدينية، إلا أن الملحدين يلعبون على هذا الفهوم التقليدي عند عامة المصريين ويحاولون تغيير معتقد أن كل ما يحدث في الحياة هو إرادة الله، كما أنهم يروجون إلى الاندماج الجنسي في المجتمع الإسلامي في مصر، حيث معظم الرجال والنساء في كثير من الأحيان يمارسون شعائر دينهم بطرق مختلفة، وهناك حلقات دينية مخصصة للإناث يطلق عليها "حلقة زار" وهو حفل لمساعدة النساء في استرضاء أرواح الذين يعتقد أنهم تسكنهم، وتستمر لعدة أيام وتنطوي أحياناً على كيفية بذل الجهود الرامية إلى طرد الأرواح، وغيرها من الأمور التي يرفضها علماء الدين ويقف وراءها ملحدون يحاولون بشتى الطرق تشكيك المسلمين في دينهم وفي العلاج بالقرآن. ومن جانبه أوضح د. عامر باسل رئيس قسم الملل والأديان بجامعة الأزهر، أن حظر الأقليات الدينية الأخرى في مصر يساهم في انفجار ديني قادم، كون هذه الأقليات تريد التمتع بحقوقها بعيداً عن الديانات المعروفة، لكن ورغم أن هناك إحصائيات تقول أن عدد الملحدين في مصر نحو 2 مليون إلا أن هناك الكثيرين يخفون إلحادهم وقد يكون العدد أكبر من ذلك بكثير، كون المجتمع يرفض تقبل مثل هؤلاء الناس بينهم، مؤكداً أن التعديلات المقترحة على الدستور المصري التي تمتد إلى حقوق الأقليات الدينية مثل الأقباط واليهود أغضبت كلا الجانبين، ولكن في نفس الوقت قدمت تعديلاً ثالثاً يتيح للأقليات الدينية تشريع وتحديد قوانين الأحوال الشخصية، والشؤون الدينية، وحرية اختيار الزعماء الروحيين، وهذا التعديل فتح الباب لحقوق طال انتظارها إلى كثير من الأقليات الدينية البعيدة عن الديانات السماوية مثل الملحدين والبهائيين وغيرهم، موضحاً أن التطرف المتزايد في المجتمع المصري يقود كثيراً من الناس إلى الإلحاد، ومع ذلك يعلمنا الإسلام التسامح والتعايش مع الجميع، لافتاً إلى أنه ليس من المستغرب أن الملحدين موجودون في بلد مسلم شديدة التدين، ولكن حتى داخل الإلحاد هناك كل أنواع التعامل الديني المختلف، وهناك أيضاً حالة من التعددية الثقافية المحيطة والعادات الدينية التابعة لهذه الفئة الملحدة، ولكن عموماً مصر تشهد اتجاهاً متزايداً للتعبير عن الذات خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمعتقدات الدينية، وهذا يأتي من انتشار التعليم الجامعي وتنوع التكنولوجيا، فضلاً عن التعرض لمناقشات أوسع عن طريق الإنترنت والمحطات التلفزيونية الفضائية. في حين أشار د. مصطفى عبد الجواد عمران أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، إن الأزهر عليه أن يبحث عن المراحل الأولى لتطور الدين في مسألة المعتقدات الشخصية، نظراً لأن الكثير من الملحدين لديهم ثقافة عالية ومميزة في مخاطبة الآخرين، وأغلبية الملحدين يمتلكون فوارق اجتماعية واقتصادية وتعليمية هائلة، حيث الدين يمكن استخدامه كسلاح ضد الفئات الأقل تعليماً لجذب الكثير من الأتباع، وكما أن كثيراً من الإسلاميين يريدون العمل في كل مؤسسات الدولة الدينية، فإن غير المؤمنين لا مكان لهم تحت حكم الإسلاميين، وبالفعل المخاوف تتزايد كلما ينظر إلى مصر على أنها تمثل حقبة جديدة من التعصب والاستقطاب، ولكن من يستطيع تحدي حقاً أولئك الذين يدعون التحدث باسم الله، فعليهم محاورة الملحدين في كيفية اعتقادهم برفض الغيبيات وإنكار الرسل، موضحاً أن هؤلاء الذين جاءوا علناً أمام المجتمع بأنهم ملحدون، والكثير منهم تم عزلهم ليس فقط من قبل أصدقائهم وعائلاتهم، ولكن أيضاً المجتمع بصفة عامة، وكون الملحد لا يؤمن بفكرة الدين أو الحساب والعقاب أو عذاب القبر، بل يعتنق فقط كل الماديات ولا يؤمن بالآخرة غير الموجود، فإن هناك الكثير من الملحدين اختاروا عدم إخبار المجتمع عن معتقداتهم خوفاً من عواقب تبعات الموقف الديني. وفي رأي د.سعد الدين الهلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن الملحدين كانت أعدادهم منخفضة في السابق، لكنها تزايدت في أعقاب ثورة 25 يناير، ويمكن أن ينظر إلى الزيادة في الإلحاد باعتباره منتج الثورة بعد كسر القيود السياسية والاجتماعية والدينية، وفي دولة دينية دينها الإسلام مثل مصر، ينظر إلى الإلحاد كونه من المحرمات، كن مع ذلك فإنها حركة جديدة سوف تترسخ داخل المجتمع المصري ولابد من التصدي لها، كون هؤلاء يشككون فقط في الدين الإسلامي، رغم أن هناك مسيحياً ملحداً ويهودياً ملحداً، إلا أن الجميع يركز فقط على المسلم الملحد بغرض تشويه الدين أمام العالم، لافتاً إلى أن الملحد به صراع داخلي على جميع المعتقدات الإسلامية غير المحسوسة والمتواترة من الرسل وما أخبرنا بها القرآن، ويرى أن هذه الأمور غير معقول وجودها في عالم ما بعد الموت، ولذلك فإن هذه الفئة تؤمن فقط بالعقل والمنطق والموجود وما يتصوره العقل، وهو ما جعل الكثير من الشباب الملحد يتخلى عن الدين تماماً، ولا يهتم كثيراً حول معرفة إذا كان الله موجوداً حقاً أم لا، كما يرون أن الأنبياء قد يكونون رجالاً إصلاحيين فقط، ولا يمكن أن ترسل عن طريق الله، وأن كسبوا المزيد من الأتباع عن طريق القداسة وتأثير النفوذ.. وبالطبع هذه الخلفية أدت إلى فقد الاهتمام والبحث في الدين، والحصول على قريبة لكل ما يشككون فيه، والوم لا يقع عليهم ولكن يقع على علماء الدين الذين ابتعدوا عن تعليم الشباب وتثقيفهم دينياً، واكتفوا فقط بالتراشق بالألفاظ وتكفير المجتمع خلال الفترة الماضية، الأمر الذي خلق جواً دينياً غير مستحب عن بعض الشباب الذي "كره" الدين بسبب هؤلاء العلماء. ويرى د. محمد أبو ليلة أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، أن الإلحاد هو الخيار المنطقي لأي شخص ابتعد عن تعاليم دينه الأساسية، وطالما اشتغل الشخص بالعقل في كيفية نشأة الكون أو كيف خُلق الله فمن الطبيعي أن يلتبس به الشيطان ليخرجه من نطاق الإيمان بالغيبيات إلى عدم الاقتناع بها، من ثم يسير على طريق الإلحاد، بالإضافة إلى أن الإنسان كلما سار ضد منطق الدين وانشغل بالرحلات الطويلة من التأمل والمقارنة والتحليل في معتقداته فإنه بالقطع سيخرج من حدود الواقع الذي يعيشه، موضحاً أن الملحدين يعتقدون أن الأديان تعتمد على الأساطير غير المنطقية في القصص المتواترة في عالمنا الحالي، كما يرون أن الأديان تقوم على المبالغة، خصوصاً في المعجزات والتي هي ضد المنطق والعقل –حسب كلامهم-، ولو فكروا قليلاً لأدركوا أن حكمة المولى عز وجل في المعجزات أنها لابد أن تكون خارج حسابات تخيل العقل البشري، لأنها كانت العلامة الوحيدة لاقتناع الكافرين بأن هذا الشخص نبي من السماء، وأيضاً الملحد يجلس مع نفسه ليطرح الكثير من التساؤلات الافتراضية، مثل كيف يمكن لرجل مثل الطبيب الذي عاش حياته لإنقاذ الناس، يمكن أن يلقى إلى الجحيم لأنه ليس مسلماً، ويتجاهل الرب الحسنات التي فعلها في حياته، وتابع الشخص الملحد في الدول الإسلامية يريد كسر القيود المفروضة مثل رفض المثلية الجنسية، ويرى حريته بوصفها التزاماً داخلياً يحركها متى شاء أقوى من أي قيود خارجية فرضها المجتمع نيابة عنه.. ومن هنا لابد على المجتمع أن يناقش فكر هؤلاء الملحدين وفق رؤية دينية متطورة غير جامدة لإقناعهم بما يدور في عقلهم الباطن وكيفية الرد عليه باقتناع كامل.