سِرِتُ كثيرا في هذا المدى السرمدي . أُنهكت قواي . شرعت كل أمارات الوهن تتحكم في جسدي . تذيب قدرته على التماسك. تراخت أطرافه . تمدد على الرمال الصفراء.. تشويه من فرط القيظ . أحرقها بحرارة فوق احتمال الجلد البشري . تركت فيه علامات حروق بدأت حمراء ثم لاحت الى السواد . تلاشت حمرة الشفاة . أصبحت بيضاء بلون شفاة الموتى . اللسان جاف كعود حطب يابس متشقق . . الأنفاس عزيزة المنال . الحرارة والعطش يجثمان على الصدر بلا هوادة . يحرمان الجسد من بعض هواء قد يبقيه على قيد الحياة . . زاغت العينان في اللاشئ . كل الصور باهتة ، مشوشة . كل أمل في الحياة سراب . لا جدوى من العدو خلفه ... هل سيستسلم جسدي لإرادة الموت قبل بلوغ المراد ؟!. مازال حلم الوصول الى العجوز الحكيمة في الجبل البعيد لا يبرح عقلي . رغم كل مابي يداعب الأمل قلبي في قدرتها على تحقيق ما أصبو إليه ...... كل الأساطير التي تغنى بها الأجداد عنها دفعتني لرحلتي للقاء.عدوت وعدوت .. ثم مشيت ومشيت .. جررت قدمي جراً ، ثم زحفت على رمال الصحراء لأصل للجبل الذي تسكنه منذ أمد بعيد .. مطلبي جنون في عالم البشر . كفر بحكم الأديان . لست بمجنونة أومرتدة .. جلُّ جرمي أسطورة قديمة في ترانيم الأجداد .. شعرت بها الخلاص .. وحدها قادرة على أن تحقق مرادي دون أن تتهمني بجنون أو تقذفني بإلحاد !! بدا بالأفق البعيد كتلة ضخمة .. تشبه الجبل المنشود .. لن أعدو نحوه .. لابد أنه السراب كم من سراب قابلت في رحلتي حتى فقدت إيماني بكل ما أراه ... أشتاق لشربة ماء لتروي خلايا جسدي الظمآن .. الماء متدفقاً من بين الصخور أسمع خريره نغم يداعب أذني .. لا أصدق قد يكون طنين بفعل التعب الشديد ... استسلم الجسد لعناق الأرض ..عجز عن التملص من بين ذراعيها. تريد أن تبوح للعجوز بحلمها .. التحرر من جسدها لتبقى روحاً هائمة في وجود لا يستعبدها .. تقول لها : " إذا كان الميلاد قد حكم على روحها بسجن الجسد فهي تصبو لأسطورة تعد الروح بالحرية" الجسد سجن يستعبدون فيه روحها وهي تكره العبودية.. تكره أن تكون كياناً يتألم .. يحاكم وفقا لأهواء كل طائفة . تكره كونها كياناً ملموساً من حق كل من ربطه بدم أو عقد أمره ونهيه يشجعه.. ويثنيه . ينحتونه كيفما يشاؤن دونما مبالاة بما يحلم أن يكون ... يجهضون أحلامه .. يسفهونها إذا سارت عكس الدرب المرسوم وقد يدعون على عقله بأن به مسّ من جنون.. ينصبون لأحلامهم في هذا الجسد مشانق الأنانية .. يجعلون منه صورة لهم ، أو مطية سهلة لهم . في كل الأحوال لا يصنعون إلاَّ مسخاً !! تذكر يوم عزمت على الشروع في رحلتها .. تلفتت في كل صوب .. رأت الوجوه في كل الطرقات مسوخا لوجوه قديمة كئيبة .. تمتص الروح .. لا تترك الا طاقة سلبية .. تهوي بها إلى القاع .. وسط دوامة مظلمة كليل حالك الظلمة خاصمته النجوم !! لما البقاء رهن جسد يصيغون له القوانين .. يصدرون عليه الأحكام وفقا هوىً لصاحب الأمر ..؟! أيتها العجوز في الجبل المنشود ألا تظنين الحياة بلا جسد أفضل ضعف ؟! هل هو ضعف مني أيتها العجوز ؟! أتريدين مني أن أناطح كل الأعراف والقوانين وكل العقول الصدأة ؟! سيقيمون عليّ الحدّ ..ستكون نهايتي .. !! لا أريد أن أنتهي .. فقط أحلم بالبقاء بغير استعباد وحلٍّ من دوران لايصل بي في نهاية المطاف إلا لدوران ودوان ... أريد أن أرى نهاراً تحجبه عصابة سوداءً فوق عينيّ. أشعر با لعطش الشديد .. بلسان متثاقل "شربة ماء .. صمتت الأنفاس ..! هل فارقت الحياة ؟. نحوي يتقدم شبح وسط السراب كهيئة إمرأة .. " إنها هي المرأة العجوز .. لم يكن سرابا إنه الجبل المنشود " تقترب نحوي بشربة ماء ... ترفع رأسي .. تسقيني .. تنزلها دون أن ترويني .. بعينيها نظرة أسى .. خسارة شبابها تشير الي تتحسر على شبابي .. هل حقا فارقت الحياة ؟! أراها بوضوح ..أرى جسدي الممدد على الأرض .. هل تحررت روحي منه دون تعويذة تلقيها عليه هل رحلة الجبل المنشود طريق الخلاص بالموت ؟! تجر جسدي .. ترفع حجرا عن بئر عميق على مقربة من الجبل .. بئر خال من الماء .. ملئ بعظام بشرية وأجساد بلا حياة .. لمن تلك الأجساد ..! " لنا ...." هكذا أجابتني قبيلة أرواح سبقتني للرحلة " تعالي معنا .. إلى أين؟ " خدعت لا حريه حتى بعد أن تحررت .. أعادت العجوز الحجر فوق البئر وأخذت طريقها في الجبل حيث لا ترانيم ولا أساطير ولا أمل منشود !