جامعة جنوب الوادي تشارك في الملتقى العلمي الثاني لوحدة البرامج المهنية بأسيوط    رئيس الحكومة يناشد المواطنين ترشيد استهلاك الكهرباء: لازم نفهم إننا في مركب واحدة    خبير اقتصادي: الدولة المصرية تتعامل بمرونة واستباقية مع أي تطورات جيوسياسية    جيش الاحتلال الإسرائيلي: نتحرك بحرية في طهران    المشدد 15 عاما للمتهم بقتل خفير أثناء تأدية عمله في الشرقية    عاجل.. السجن المؤبد لمتهمة وبحيازة مواد مفرقعة بالهرم    تاجيل الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير للربع الأخير من العام الجاري    اختيار مصر للاستفادة من برنامج CIF لخفض الانبعاثات بالقطاع الصناعي بقيمة مليار دولار    إزالة 60 حالة تعدٍّ بأسوان ضمن الموجة ال 26    وزير الصحة يعتمد خطة التأمين الإسعافية لامتحانات الثانوية العامة    وزير الدفاع الباكستاني يدين الهجوم الإسرائيلي على إيران    أهم أخبار الكويت اليوم السبت 14 يونيو 2025    بريطانيا تنفي تقديم الدعم لإسرائيل في الهجوم على إيران    غياب نجم إنتر عن كأس العالم للأندية بسبب حرب إيران وإسرائيل    هيئة الرقابة النووية تنفي أي تغير أو زيادة بالخلفية الإشعاعية في مصر    رئيس جامعة قناة السويس يتابع أعمال سير امتحانات كلية الزراعة    السجن المشدد 10 سنوات لتاجر سلاح خزن الأسلحة داخل مطعم بالسادات وفيلا بالشيخ زايد    القوات المسلحة تنظم زيارة للملحقين العسكريين إلى عدد من المنشآت.. صور    ثقافة الإسماعيلية تنفذ أنشطة متنوعة لتعزيز الوعي البيئي وتنمية مهارات النشء    غدا.. بدء التقديم "لمسابقة الأزهر للسنة النبوية"    فضل صيام أول أيام العام الهجري الجديد    محافظ المنوفية يدشن القافلة الطبية والغذائية بالمجان لعمال منظومة النظافة    وزير الصحة يعتمد خطة التأمين الإسعافية تزامنًا مع بدء امتحانات الثانوية العامة    توقيع بروتوكول تعاون بين جامعة كفر الشيخ وأمانة المراكز الطبية المتخصصة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم    أحدث ظهور ل ميرنا نورالدين أمام البحر.. والجمهور يعلق (صور)    رئيس الوزراء يتفقد مركز تنمية الأسرة والطفل بزاوية صقر    رئيس الوزراء يتفقد مدرسة رزق درويش الابتدائية بزاوية صقر الطلاب: البرنامج الصيفي مهم جدا لصقل المهارات    "القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" ومؤسسة "شجرة التوت" يطلقان فعاليات منصة "القدرة على الفن - Artability HUB"    يسرى جبرى يرد على من يقولون إن فريضة الحج تعب ومشقة وزيارة حجارة    تل أبيب تلوّح بالهيمنة الجوية على طهران.. فهل تغيّر إيران معادلة الرد؟    غدا .. انطلاق فعاليات مؤتمر التمويل التنموي لتمكين القطاع الخاص    "أبدى مرونة".. مصدر بالزمالك يكشف ليلا كورة تطورات المفاوضات مع السعيد    فنانو المسرح يودعون المخرج سعيد عزام: «ربنا يعوضك في آخرتك عن دنياك»    إجرام واستعلاء.. حزب النور يستنكر الهجمات الإسرائيلية على إيران    طلب إحاطة يحذر من غش مواد البناء: تهديد لحياة المواطنين والمنشآت    إيران تؤكد وقوع أضرار في موقع فوردو النووي    تأجيل محاكمة " أنوسة كوتة" فى قضية سيرك طنطا إلى جلسة يوم 21 من الشهر الحالي    مواطن لرئيس الوزراء: "بنتي اتعمت".. ومدبولي: "هنعمل اللازم فورًا"    نجاح استئصال جذرى للكلى بالمنظار لمريض يعانى من ورم خبيث بمبرة المحلة    وكيل تعليم الإسماعيلية يجتمع برؤساء لجان الثانوية العامة    استعراض خطير على الطريق الدائري بالقاهرة.. والشرطة تتمكن من ضبط السائق    ضبط 3 عاطلين وسيدة بتهمة ارتكاب جرائم سرقات في القاهرة    نجم الأهلي: لن نبخل بنقطة عرق أمام إنتر ميامي    "الحياة اليوم" يناقش آثار وتداعيات الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران    جوليانو سيميوني: جاهزون لمواجهة باريس سان جيرمان    ريال مدريد يحصن مدافعه الشاب راؤول أسينسيو بعقد حتى 2031    خاص| سلوى محمد علي: سميحة أيوب أيقونة فنية كبيرة    «عمال الجيزة»: اتفاقية الحماية من المخاطر البيولوجية مكسب تاريخي    الطبيب الألماني يخطر أحمد حمدي بهذا الأمر    مدرب إنتر ميامي يراهن على تأثير ميسي أمام الأهلي    إحالة عامل بتهمة هتك عرض 3 أطفال بمدينة نصر للجنايات    خاص| محمد أبو داوود: «مشاكل الأسرة» محور الدراما في «فات الميعاد»    الصحة: قافلة متخصصة في جراحات الجهاز الهضمي للأطفال ب«طنطا العام» بمشاركة الخبير العالمي الدكتور كريم أبوالمجد    أسعار الخضروات في سوق العبور للجملة اليوم السبت 14 يونيو    جماهير الأهلي توجه رسائل مباشرة ل تريزيجية وهاني قبل مباراة إنتر ميامي (فيديو)    معاذ: جماهير الزمالك كلمة السر في التتويج ب كأس مصر    «الإفتاء» توضح كيفية الطهارة عند وقوع نجاسة ولم يُعرَف موضعها؟    ما حكم أداء النافلة بين الصلاتين عند جمع التقديم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المفكر الفرنسي جورج باتاي يلغي التخوم بين الأدب والفلسفة
نشر في صوت البلد يوم 02 - 03 - 2020

"الأدب والشر" عنوان مغوٍ، وغامض، باعث على تساؤلات شتى، اختاره الكاتب والمفكر الفرنسي جورج باتاي (1897 - 1962) ليطرح من خلاله تأملاته عن التقاطعات الباطنية بين مفهوم الشر والإبداع، معتبرًا أن الثورة هي عنصر أساسي لدراسته كلها، و أنها الجوهر الحقيقي للكتاب من أجل وضوح الوعي. وصدرت حديثًا ترجمة عربية للكتاب انجزتها رانية خلّاف عن داري الأزمنة والفراشة. فالأدب هو نوع من أنواع الاتصال، الذي لا يتسم دائمًا بالبراءة. يقول: "أعتقد أن الشر- الشكل الخطر للشر- الذي يعبر عنه الأدب، يُمثل قيمة رئيسية بالنسبة إلينا، ولكن هذا المفهوم لا يستبعد الناحية الأخلاقية بل على العكس يتطلب أخلاقية مفرطة، لقد أردت أن أبرهن أن الأدب هو عودة للطفولة".
وفي مقدمتها للكتاب ترى المترجمة والشاعرة رانية خلاف أن هذا الكتاب قد مثل لها تحديًا خاصًّا، حيث تقول: "لم تكن عملية الترجمة يسيرة مطلقًا. كان عليّ الخوض في متاهات ومصطلحات جديدة... كانت تجربة ممتعة بسبب مشقتها، مغوية بفضل تعددها".
امرأة واحدة، هي الكاتبة إيميلي برونتي، وجدت مع: بودلير، ويليم بليك، ميشليه، كافكا، بروست، ساد، وجينيه. واختيار برونتي فقط لتكون ضمن قائمة كتاب "الأدب والشر" يستحق التوقف عنده، إذ يعتبر باتاي أن برونتي من بين كل النساء تحمل لعنة مميزة، جعلتها تعيش بائسة على مدى حياتها القصيرة التي انتهت حين بلغت الثلاثين من عمرها. برونتي كان عليها أن تمر بخبرة عميقة لسبر غور الشر كي تحافظ على نقائها الأخلاقي سليمًا، لذا كانت حياتها قائمة على الخيال والحلم، ولديها معرفة معذبة بالعشق وطرحتها بكل تجرد في روايتها "مرتفعات ويذيرينغ" من خلال بطلها "هيثكليف" وقصة حبه المعقدة لكاثرين. فالموت الذي ربط بين المحبين هو المعاناة المصاحبة للحب الخالص. باتاي يرى أن هذه الرواية تطرح مسألة الشر في علاقته بالعاطفة، وكأن الشر هو أكثر الوسائل قوة في فضح العاطفة حيث الشر وصل في رواية برونتي إلى شكله الأمثل، حيث السادية هي تجسيد للشر، كذلك الارتباط الحميمي بين خرق القانون الأخلاقي والأخلاقية المفرطة هو المعنى النهائي لرواية "مرتفعات ويذيرينغ". ولا يغيب عن الكاتب الربط بين شخصية إيميلي الحقيقية وشخصية بطلتها كاترين التي لم تتمكن من الشفاء من حبها لهيثكليف، إنها شخصية أخلاقية بشكل مطلق لدرجة أنها تموت لكونها لم تتمكن من الابتعاد عن الرجل الذي أحبته.
جان جينيه
في زمن لاحق، وعند كاتب مثل جان جينيه يبدو الالتزام بالشر الأسمى مرتبطًا بالتأكيد بالالتزام بالخير الأسمى، لذا اختار جينيه أن يكتشف الشر كما اختار آخرون أن يكتشفوا الخير، منح نفسه للشر واختار أن يتصرف بشكل سيء وحينما أدرك أن الجريمة الأسوأ ليست أن ترتكب شرورًا فحسب، ولكن أن تعلن عن ارتكابها، لذا كتب في السجن مبرراته التي دعته لممارسة الشر. تبدو حياة جان جينيه القاسية حافلة بمبررات للاحتفاء بالشر. يتوقف باتاي مطولاً عند دراسة سارتر حول جان جينيه ويرى أن سارتر حمل الكثير من التعاطف العميق مع جينيه مبررًا بأنه كان يبحث عن كينونة لوجوده، حيث الحياة والموت، الواقعي والمتخيل، الماضي والمستقبل، المرتفع والخفيض.
لا يتمثل الشر عند الكاتب والفيلسوف الفرنسي جوليس ميشليه في ذاك الفعل الذي يقوم على استغلال الأقوياء لنفوذهم للتحكم بالضعفاء بل إنه يمضي في اتجاه معاكس أي ضد مصالحنا الخاصة، إنه الشر الناجم عن رغبة جياشة في بلوغ الحرية.
مضى ميشليه في اتجاه معاكس للقيم التي يؤمن بها علماء اللاهوت، دافع عن الساحرة معتبرًا أنها استنساخ للمعاناة الإنسانية، يقول باتاي: "لقد كان ميشليه منقاداً بنشوة الشر مسحورًا بها... لقد آمن بأن تقدم الحقيقة والعدالة والعودة إلى قانون الطبيعة هي أمور حتمية".
عند اقتراب باتاي من عالم بودلير، يتوقف بطبيعة الحال عند قصائده "أزهار الشر"، معتبرًا أن إنكار الخير في شعر بودلير هو بشكل أساسي إنكار ليقينه بأولوية المستقبل، وفي الوقت ذاته "ينطوي التأكيد على الخير على عنصر النضج الذي نظم تعامل بودلير مع الإروتيكية".
أما الشاعر الإنجليزي ويليام بليك فقد استطاع بعبارات بسيطة قاطعة ومن خلال عالمه الذي احتفى بالعزلة أن يخفض من قدر الإنسانية ويلخصها في الشعر، ومن ثم يلخص الشعر في الشر. رأى باتاي في بليك أن كتاباته ولوحاته فيها غموض مدهش "إنها تدهشنا بعدم اكتراثها بالقوانين العامة، هناك شيء ما منحرف وأصم ينتهك حدود الآخر". تبنى بليك صخب التناقضات واضطراب الموت، وهذا ملموس في قصائده كأن يقول في قصيدة النمر ما يعبر عن رد فعله إزاء الرعب: "في عربات ذهبية مستعرة وعجلاتها الحمراء تنقط دماء/ تمدد النمور أجسادها في استرخاء على الضحية وتمتص المياه الحمراء".
تبدو صورة الماركي دو ساد عند جورج باتاي منذ السطور الأولى، شخصية مميزة وشريرة، يبدو مقطبًا مثل عملاق مروع ومهيب. إن أعمال كما حياة ساد متصلة بالأحداث التاريخية، ولكن بأكثر السبل الممكنة غرابة. كان لاقتحام سجن الباستيل في يوليو (تموز) 1798 دور في حياة ساد، بعد أن سجن فيه مدة عشر سنوات وكان واحدًا من أكثر الرجال تمردًا وغضبًا، كان وحشًا مهووسًا بفكرة الحرية المستحيلة. لكن اقتحام السجن لم يؤد سوى إلى تأجيل إطلاق سراحه مدة تسعة أشهر بسبب اكتشاف علاقته مع المتمردين ومساندتهم. ارتبط ساد بفكرة التدمير الذاتي والعدم والموت حتى أنه كتب في وصيته التعليمات المتعلقة بقبره والتفاصيل التي ينبغي أن يكون عليها القبر. عاش ساد حياته مهووسًا بطرح السؤال عن فكرة الخير والشر وطرح نفسه كمجدف حينًا، وكرجل ورع في حين آخر، لنقرأ كلماته: "هل لك أن تخبرني ما هو الخير وما هو الشر؟ هه تريد أن تحلل قوانين الطبيعة وقلبك، قلبك حين حفرت تلك القوانين فوقه، إن قلبك هو نفسه أمر ملغز لا يمكن أن تقوم بتفسيره".
في المقابل يرى باتاي أن بروست كان أكثر قدرة من ساد، فقد كان متشوقًا للحصول على لذته، وهكذا "فقد ترك للرذيلة لونها البغيض- إدانة الفضيلة... لم يعرف بروست أبدًا بهجة الشعور الأخلاقي الذي يمنح أفعالنا الآثمة تلك النكهة الإجرامية والتي من دونها ستبدو طبيعية... إن الأشرار وحدهم يعرفون الفوائد المادية للشر".
أما كتابات كافكا فإنها تكشف عن سلوك طفولي تمامًا، إذ كلما قرر أن يعبر عن أفكاره في يومياته أو في مذكراته المتنوعة صنع فخًّا في كل كلمة. كتب كافكا: "لو أنني أخفيت إحدى خصوصياتي سينتهي بي الحال إلى كراهية ذاتي أو مصيري، وسأعتبر نفسي شريرًا أو ملعونًا".
يبدو هذا الكتاب المرجعي، الفاتن والملهم على تماس مع الفلسفة بالتوازي مع الأدب، إن بلورة رؤية مختلفة لمفهوم الشر وطرق تجليه في الأدب هو الشغل الشاغل لجورج باتاي، يقدم تحليلاته النفسية والذهنية لكل كاتب مثلت فكرة الشر محورًا بالنسبة إليه سواء في الحياة الواقعية الحسية أو الأدبية، وتجلت على الورق في تبني آراء قد تبدو مناقضة لمسيرته اليومية، كما نجد مثلاً مع إيميلي برونتي. لا ينشغل باتاي في تقديم تأريخ معين لكل كاتب أو سرد متسلسل لمراحله الإبداعية، بل يقفز مباشرة إلى جوهر الفكرة التي يود الاستدلال عليها، من هنا ينبغي على القارئ الشغوف القيام برحلات معرفية أخرى لاكتشاف ما يود معرفته عن أحد الكتاب المذكورين في "الأدب والشر"، أو من جانب آخر للقيام بالمقارنة أو رفض ما جاء به باتاي من تحليلات تتوغل في سراديب حياة كل مبدع اختاره ليجسد أنموذجًا عن الأدب في علاقته مع الشر، ومع الثورة أيضًا.
"الأدب والشر" عنوان مغوٍ، وغامض، باعث على تساؤلات شتى، اختاره الكاتب والمفكر الفرنسي جورج باتاي (1897 - 1962) ليطرح من خلاله تأملاته عن التقاطعات الباطنية بين مفهوم الشر والإبداع، معتبرًا أن الثورة هي عنصر أساسي لدراسته كلها، و أنها الجوهر الحقيقي للكتاب من أجل وضوح الوعي. وصدرت حديثًا ترجمة عربية للكتاب انجزتها رانية خلّاف عن داري الأزمنة والفراشة. فالأدب هو نوع من أنواع الاتصال، الذي لا يتسم دائمًا بالبراءة. يقول: "أعتقد أن الشر- الشكل الخطر للشر- الذي يعبر عنه الأدب، يُمثل قيمة رئيسية بالنسبة إلينا، ولكن هذا المفهوم لا يستبعد الناحية الأخلاقية بل على العكس يتطلب أخلاقية مفرطة، لقد أردت أن أبرهن أن الأدب هو عودة للطفولة".
وفي مقدمتها للكتاب ترى المترجمة والشاعرة رانية خلاف أن هذا الكتاب قد مثل لها تحديًا خاصًّا، حيث تقول: "لم تكن عملية الترجمة يسيرة مطلقًا. كان عليّ الخوض في متاهات ومصطلحات جديدة... كانت تجربة ممتعة بسبب مشقتها، مغوية بفضل تعددها".
امرأة واحدة، هي الكاتبة إيميلي برونتي، وجدت مع: بودلير، ويليم بليك، ميشليه، كافكا، بروست، ساد، وجينيه. واختيار برونتي فقط لتكون ضمن قائمة كتاب "الأدب والشر" يستحق التوقف عنده، إذ يعتبر باتاي أن برونتي من بين كل النساء تحمل لعنة مميزة، جعلتها تعيش بائسة على مدى حياتها القصيرة التي انتهت حين بلغت الثلاثين من عمرها. برونتي كان عليها أن تمر بخبرة عميقة لسبر غور الشر كي تحافظ على نقائها الأخلاقي سليمًا، لذا كانت حياتها قائمة على الخيال والحلم، ولديها معرفة معذبة بالعشق وطرحتها بكل تجرد في روايتها "مرتفعات ويذيرينغ" من خلال بطلها "هيثكليف" وقصة حبه المعقدة لكاثرين. فالموت الذي ربط بين المحبين هو المعاناة المصاحبة للحب الخالص. باتاي يرى أن هذه الرواية تطرح مسألة الشر في علاقته بالعاطفة، وكأن الشر هو أكثر الوسائل قوة في فضح العاطفة حيث الشر وصل في رواية برونتي إلى شكله الأمثل، حيث السادية هي تجسيد للشر، كذلك الارتباط الحميمي بين خرق القانون الأخلاقي والأخلاقية المفرطة هو المعنى النهائي لرواية "مرتفعات ويذيرينغ". ولا يغيب عن الكاتب الربط بين شخصية إيميلي الحقيقية وشخصية بطلتها كاترين التي لم تتمكن من الشفاء من حبها لهيثكليف، إنها شخصية أخلاقية بشكل مطلق لدرجة أنها تموت لكونها لم تتمكن من الابتعاد عن الرجل الذي أحبته.
جان جينيه
في زمن لاحق، وعند كاتب مثل جان جينيه يبدو الالتزام بالشر الأسمى مرتبطًا بالتأكيد بالالتزام بالخير الأسمى، لذا اختار جينيه أن يكتشف الشر كما اختار آخرون أن يكتشفوا الخير، منح نفسه للشر واختار أن يتصرف بشكل سيء وحينما أدرك أن الجريمة الأسوأ ليست أن ترتكب شرورًا فحسب، ولكن أن تعلن عن ارتكابها، لذا كتب في السجن مبرراته التي دعته لممارسة الشر. تبدو حياة جان جينيه القاسية حافلة بمبررات للاحتفاء بالشر. يتوقف باتاي مطولاً عند دراسة سارتر حول جان جينيه ويرى أن سارتر حمل الكثير من التعاطف العميق مع جينيه مبررًا بأنه كان يبحث عن كينونة لوجوده، حيث الحياة والموت، الواقعي والمتخيل، الماضي والمستقبل، المرتفع والخفيض.
لا يتمثل الشر عند الكاتب والفيلسوف الفرنسي جوليس ميشليه في ذاك الفعل الذي يقوم على استغلال الأقوياء لنفوذهم للتحكم بالضعفاء بل إنه يمضي في اتجاه معاكس أي ضد مصالحنا الخاصة، إنه الشر الناجم عن رغبة جياشة في بلوغ الحرية.
مضى ميشليه في اتجاه معاكس للقيم التي يؤمن بها علماء اللاهوت، دافع عن الساحرة معتبرًا أنها استنساخ للمعاناة الإنسانية، يقول باتاي: "لقد كان ميشليه منقاداً بنشوة الشر مسحورًا بها... لقد آمن بأن تقدم الحقيقة والعدالة والعودة إلى قانون الطبيعة هي أمور حتمية".
عند اقتراب باتاي من عالم بودلير، يتوقف بطبيعة الحال عند قصائده "أزهار الشر"، معتبرًا أن إنكار الخير في شعر بودلير هو بشكل أساسي إنكار ليقينه بأولوية المستقبل، وفي الوقت ذاته "ينطوي التأكيد على الخير على عنصر النضج الذي نظم تعامل بودلير مع الإروتيكية".
أما الشاعر الإنجليزي ويليام بليك فقد استطاع بعبارات بسيطة قاطعة ومن خلال عالمه الذي احتفى بالعزلة أن يخفض من قدر الإنسانية ويلخصها في الشعر، ومن ثم يلخص الشعر في الشر. رأى باتاي في بليك أن كتاباته ولوحاته فيها غموض مدهش "إنها تدهشنا بعدم اكتراثها بالقوانين العامة، هناك شيء ما منحرف وأصم ينتهك حدود الآخر". تبنى بليك صخب التناقضات واضطراب الموت، وهذا ملموس في قصائده كأن يقول في قصيدة النمر ما يعبر عن رد فعله إزاء الرعب: "في عربات ذهبية مستعرة وعجلاتها الحمراء تنقط دماء/ تمدد النمور أجسادها في استرخاء على الضحية وتمتص المياه الحمراء".
تبدو صورة الماركي دو ساد عند جورج باتاي منذ السطور الأولى، شخصية مميزة وشريرة، يبدو مقطبًا مثل عملاق مروع ومهيب. إن أعمال كما حياة ساد متصلة بالأحداث التاريخية، ولكن بأكثر السبل الممكنة غرابة. كان لاقتحام سجن الباستيل في يوليو (تموز) 1798 دور في حياة ساد، بعد أن سجن فيه مدة عشر سنوات وكان واحدًا من أكثر الرجال تمردًا وغضبًا، كان وحشًا مهووسًا بفكرة الحرية المستحيلة. لكن اقتحام السجن لم يؤد سوى إلى تأجيل إطلاق سراحه مدة تسعة أشهر بسبب اكتشاف علاقته مع المتمردين ومساندتهم. ارتبط ساد بفكرة التدمير الذاتي والعدم والموت حتى أنه كتب في وصيته التعليمات المتعلقة بقبره والتفاصيل التي ينبغي أن يكون عليها القبر. عاش ساد حياته مهووسًا بطرح السؤال عن فكرة الخير والشر وطرح نفسه كمجدف حينًا، وكرجل ورع في حين آخر، لنقرأ كلماته: "هل لك أن تخبرني ما هو الخير وما هو الشر؟ هه تريد أن تحلل قوانين الطبيعة وقلبك، قلبك حين حفرت تلك القوانين فوقه، إن قلبك هو نفسه أمر ملغز لا يمكن أن تقوم بتفسيره".
في المقابل يرى باتاي أن بروست كان أكثر قدرة من ساد، فقد كان متشوقًا للحصول على لذته، وهكذا "فقد ترك للرذيلة لونها البغيض- إدانة الفضيلة... لم يعرف بروست أبدًا بهجة الشعور الأخلاقي الذي يمنح أفعالنا الآثمة تلك النكهة الإجرامية والتي من دونها ستبدو طبيعية... إن الأشرار وحدهم يعرفون الفوائد المادية للشر".
أما كتابات كافكا فإنها تكشف عن سلوك طفولي تمامًا، إذ كلما قرر أن يعبر عن أفكاره في يومياته أو في مذكراته المتنوعة صنع فخًّا في كل كلمة. كتب كافكا: "لو أنني أخفيت إحدى خصوصياتي سينتهي بي الحال إلى كراهية ذاتي أو مصيري، وسأعتبر نفسي شريرًا أو ملعونًا".
يبدو هذا الكتاب المرجعي، الفاتن والملهم على تماس مع الفلسفة بالتوازي مع الأدب، إن بلورة رؤية مختلفة لمفهوم الشر وطرق تجليه في الأدب هو الشغل الشاغل لجورج باتاي، يقدم تحليلاته النفسية والذهنية لكل كاتب مثلت فكرة الشر محورًا بالنسبة إليه سواء في الحياة الواقعية الحسية أو الأدبية، وتجلت على الورق في تبني آراء قد تبدو مناقضة لمسيرته اليومية، كما نجد مثلاً مع إيميلي برونتي. لا ينشغل باتاي في تقديم تأريخ معين لكل كاتب أو سرد متسلسل لمراحله الإبداعية، بل يقفز مباشرة إلى جوهر الفكرة التي يود الاستدلال عليها، من هنا ينبغي على القارئ الشغوف القيام برحلات معرفية أخرى لاكتشاف ما يود معرفته عن أحد الكتاب المذكورين في "الأدب والشر"، أو من جانب آخر للقيام بالمقارنة أو رفض ما جاء به باتاي من تحليلات تتوغل في سراديب حياة كل مبدع اختاره ليجسد أنموذجًا عن الأدب في علاقته مع الشر، ومع الثورة أيضًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.