لماذا أثارتنى فكرة ترجمة كتاب يحمل عنواناً ملغزاً كهذا، «الأدب والشر»؟ هل لأننى اختبرتُ الشر فى كتابة بعض قصائدى الإيروتيكية ولم أعرف حقا الكثير عن مصدرها؟ ربما لأن الشر-كمناقض للخير- يبدو لا إنسانياً بالرغم من اعتياد الناس على اقتراف الشرور؟ ربما لأننى حينما قرأت أزهار الشر لبودلير منذ أعوام، لم أتبين تماماً مكمن الشرور فيها؟ أو لأننا لا نعى تماماً هذا الجانب الأصيل فينا. سيادة الشر. ........................ على أى حال، حينما عرض على صديقى إلياس فركوح الروائى والمترجم الأردنى وصاحب دار نشر «أزمنة» عنوان الكتاب وجدته عنواناً آسراً، مغوياً ومغرياً باقتطاع جانبً من الوقت للانشغال بعوالم آخرين. الكتاب الذى صدر منذ أيام معدودة يخرج للقارئ العربى فى 330 صفحة تقريباً من القطع المتوسط، مقسمة إلى بورتريهات أدبية شيقة لكل من بودلير، سارتر، كافكا، ميشيلية، ويليام بليك، إيميلى برونتى، ساد وجان جينية. بعد قراءة الكتاب بشكل مبدئى أدركت أننى وقعت تماماً فى شرك الشر وأننى لن أستطيع الإفلات بسهولة. لقد اعترف جورج باتاى مؤلف الكتاب منذ البداية أن هذه البورتريهات يكتنفها الغموض. لقد كتب هذا الكتاب بمنطق من يمارس التمرد على تقاليد مجتمعه الفكرية. النصوص مكتوبة بأسلوب تفكيكى ملغز. لا يكاد يبدأ تحليله لتيمة أدبية أو فلسفية حتى يشرع فى فتح باب معرفى جديد. كان من الصعب إذن إحكام قبضتى على النص. ولكننى اجتهدتُ كثيرا، على ما يبدو، واحتفظت بجانب من الغموض. لكتابة البورتريهات سحر خاص لا يدركه سوى من يعشق الأدب أو تمرس على العمل فى الصحافة الأدبية: ذلك الغور الشائق فى حيوات الآخرين والتنقيب عن المشترك والمختلف بين شخصيات برغم تباينها فهى تتقاطع فى نقاط بشرية أليفة. ربما يكون هذا سبباً إضافياً لترجمتى هذا الكتاب. بالرغم من ذلك، فإن القارئ لا ينبغى أن ينخدع، فنحن لسنا إزاء بورتريهات تقليدية وإنما هى مداخل معرفية لكتاب نالوا حظاً كبيراً من الشهرة بالفعل. بمعنى أن القارئ لن يجد تاريخاً مرجعياً مفصلاً عن كل كاتب، لن يجد مفاتيح جاهزة للدخول إلى عالمه. إنها قراءة فلسفية، أدبية ونفسية عن كتاب بعينهم كان للشر دور فى تشكيل تجربتهم الأدبية والحسية. إنها رؤية جديدة للشر. إذن، سيستلزم الأمر من القارئ الخوض فى قراءات أخرى، سراديب معرفية جديدة لكى يكتمل الشغف. يعلن باتاى فى مقدمة هذه المجموعة الفريدة من البورتريهات الأدبية أن «الأدب ليس بريئاً». إنه مذنب وينبغى أن يعترف بذلك. يمكن للأدب أن يتواصل بشكل كامل فقط من خلال الاعتراف بتورطه بمعرفة الشر. ولد باتاى عام 1897 وكان فيلسوفاً وروائيا وناقداً فرنسياً رائداً، تناول فى كتاباته مدى واسعا من الموضوعات، أهمها الإيروتيكية، الدين، الأنثروبولوجيا والفن. تواصل، بعد وفاته عام 1962، تأثير كتاباته على الأدب والفكر الغربى بشكل حيوى ومتزايد. هذا الكتاب ملهم بدرجة كبيرة. ليس فقط لأنه يدفع القارئ للبحث ولكنه أيضاً سيدفعه إلى تصيد أفكار جديدة سيجدها تحوم حوله بمرح وهو منهمك فى القراءة. فى الفصل الخاص بميشيلية يتخذ باتاى كتاب الساحرة وهو أكثر الكتب التى حازت شهرة واسعة فى موضوع السحر فى المجتمع المسيحى مدخلاً معرفياً لعالم الكاتب والمؤرخ الفرنسى جوليس ميشيلية. الساحرة هو العمل المميز بين أعمال ميشيلية ويمنحنى فرصة وضع مشكلة الشر بشكل متزن غير عاطفى، كما يقول باتاى. إن الفضل يعود لميشيلية، الذى نسب إلى تلك الأعياد الحمقاء القيمة التى تستحقها. لقد منحها الدفء الإنسانى الذى لا يتعلق بالجسد بقدر تعلقه بالقلب. إن الطقس الخاص بأعمال السحرة هو طقس المقهورين. إن تلك الطقوس المنتمية للعصور الوسطى كانت بلا شك استكمالاً لأديان القدماء. لقد كانت طقوساً وثنية، طقوساً خاصة بالفلاحين والأقنان، ضحايا نظام مسيطر، وديانة مهيمنة. ينبغى أن ُيمنح ميشيلية الفضل لتحدثه عن ذلك العالم وكأنه يتحدث عن عالمنا، تحركه شجون قلوبنا، حاملاً معه الأمل واليأس، مصيرنا الذى ندرك أنفسنا من خلاله. لم يكن ويليام بليك بأى حال فيلسوفاً، ولكنه كان شاعراً ثرى المخيلة حتى إنه اتهم بالجنون. يعرض باتاى لرؤية بليك للشر: بدون أضداد، لا يحدث تقدم. الانجذاب والاشمئزاز. العقل والطاقة، الحب والكراهية ضروريان للوجود الإنسانى. من تلك الأضداد ينبثق ما تطلق عليه الأديان الخير والشر. الخير هو السلبى الذى يطيع العقل. الشر هو الإيجابى الذى ينبثق من الطاقة. الخير هو الجنة. الشر هو جهنم. الطاقة، كما يقول، هى الحياة الوحيدة، وتنطلق من الجسد؛ والعقل هو محيط الدائرة الخارجية للطاقة.الطاقة، إذن، هى البهجة الخالدة. أما إيميلى برونتى فقد كانت موضوع لعنة مميزة. كانت بائسة على مدى حياتها القصيرة. وبالرغم من ذلك، لكى تحافظ على نقائها الأخلاقى سليماً، كان عليها أن تمر بخبرة عميقة خلال عالم جهنمى حافل بالشر. استطاعت برونتى سبر غور الشر فى روايتها مرتفعات ويزرنج التى تثير مسألة الشر فى علاقته بالعاطفة، وكأن الشر هو أكثر الوسائل قوة فى فضح العاطفة. لو استثنينا الشكل السادى للرذيلة، فيمكننا أن نقول إن الشر، كما يظهر فى رواية برونتى، قد وصل لشكله الأمثل. ليس هناك شىء من المحتمل أن يدهشنا أكثر من شخصية وأعمال جان جينية مؤلف يوميات لص. لقد مثل الهوس بالقداسة، بالكرامة الملكية تيمة متكررة فى أعمال جينية، يتناولها باتاى بشكل فلسفى مفصل. لقد هرب جينية من إصلاحية الأطفال التى كان يتعين إرساله إليها، ارتكب جرائم سرقة، وفوق هذا كله، مارس البغاء. لقد عاش فى بؤس، متسولاً وسارقاً، يمارس الجنس مع الجميع، يخون أصدقاءه، ولم يكن هناك شىء يمكن أن يوقفه: لقد اختار أن يمنح نفسه للشر. لقد قرر أن يتصرف بشكل سيىء بقدر إمكانه فى كل مناسبة وحينما أدرك أن الجريمة الأسوأ ليست أن ترتكب شرورا فحسب، ولكن أن تعلن عن ارتكابها، كتب فى السجن مبرراته التى دعته لممارسة الشر، وهكذا كانت كتبه محظورة قانوناً. لم يكن الشر مخففاً فى قلب مارسيل بروست. يمكن أن نطلق على شخصية سادية مثل بروست اسم فنان الشر، بشكل لا يتجسد أبداً فى كائن مكتمل الشر. لم يكمن الشر خارجه أبدا: كان الأمر يبدو طبيعياً تماماً بالنسبة له؛ وحيث إنه لم يندمج فى فضيلة ما، كاحترام الموتى، أو إخلاص بنوى، لم يكن ليشعر بلذة تدنيسية فى انتهاك قدسيتهما. يرى باتاى أن الساديين على شاكلة مارسيل هم كائنات شاعرية بكل معنى الكلمة، يتحلون بالفضيلة بشكل طبيعى، لدرجة أن اللذة الحسية تبدو لهم أمراً سيئاً-امتيازا يُمنح للأشرار. وحينما يسمحون لأنفسهم بأن يخضعوا لها للحظة، فإنهم يحاولون ارتداء جلد الرجل الشرير ويسحبون شركاءهم فى الجريمة إليه، وهكذا، فى لحظة واحدة، يكون لديهم الوهم بأنهم فروا من روحهم الرقيقة المتشككة إلى عالم اللذة الوحشية. أما مؤلف أزهار الشر فقد كان مسلحاً بتوتر لا مثيل له، فقد تمكن من الاستفادة بقدر استطاعته من بطالته غير المبررة. لقد منح التعبير عن النشوى والرعب شعر بودليرامتلاءً مستمراً إلى الحدود القصوى للحسية الحرة، منحه شكلاً متعمقاً من السمو والوضاعة. لقد توافقت حياته -المحاطة بأجواء الرذيلة، واستيائه الدائم من الحياة بعد زواج أمه عقب وفاة أبيه ورفضه وكراهيته للعالم - مع توتر إرادته التى رفضت قيود الخير بالطريقة ذاتها التى يرفض بها الرياضى ثقل الأثقال الحديدية. أما كافكا، الذى أوصى بحرق كل كتبه بعد وفاته، فقد عاش ممزقاً ما بين عقدته من تسلط أبيه، ورغبته فى الاختلاف عن طبقته التى لا تعترف سوى بالعمل المنتج. لقد عرف كيف ينكر نفسه ويفقدها فى ميكانيزم عمل غير مرضٍ، لا لشىء سوى أن يرضى أباه ومجتمعه المتحفظ. وهكذا، فقد اختار النزوات لأبطاله، طفوليتهم ولامبالاتهم، تصرفاتهم الفضائحية وكذبهم الواضح. فى كلمة واحدة، كان يريد عالما لا منطقياً، لا يحتفى بالتصنيف. تتعرض شخصية الأب فى قصته القصيرة المحاكمة للسخرية من قبل الابن، ولكنه بالرغم من ذلك كان متيقناً دوماً أن التدمير العميق، المهلك، اللاإرادى لسلطة الأب سيعرضه للعقاب. لقد تناول باتاى قضايا أخرى كثيرة ومداخل مغايرة لفهم الشر. ربما يكون هو أول كاتب ألقى الضوء على منابع الشر فى الأدب العالمى المعاصر. لكن، مرة أخرى، لماذا الشر؟ يجيب باتاى ببساطة ملغزة: «إن معرفة الشر، هى ما تشكل أساس الاتصال الانفعالى. هذه الدراسات هى نتيجة محاولاتى لاستخلاص جوهر الأدب. الأدب هو الجوهرى، أو لا شيء. أعتقد أن الشر- الشكل الخطير للشر- الذى يعبر عنه الأدب، يمثل قيمة رئيسية بالنسبة لنا. ولكن هذا المفهوم لا يستبعد الناحية الأخلاقية: على العكس، فإنه يتطلب أخلاقية مفرطة». الآن: هل يمكن أن تكون ترجمة هذا الكتاب مدخلاً معرفياً يجلب الضوء على مكامن الشر فى الأدب العربي؟ هل يمكن للمكتبة العربية أن تصاب بحمى الشر فتكشف لنا عن مداخل جديدة لفهم سيكولوجية المبدع العربى؟ نوازعه وحروبة السرمدية؟