في هذا المقال نقدم محاولة لتحليل واستبصار ما وراء مواجهة أجرتها مجلة ماجازين ليتيرير Magazine Littéraie، المجلة الأكثر عمقًا وتقديرًا في الأوساط الأدبية الفرنسية والتي تعني بالشأن الأدبي، بين الكاتبين اللذين احتلا منطقة الضوء والتكريم في عام 2015 في فرنسا والجزائر : ماتياس انار وكمال داوود. الأول هو كاتب فرنسي عابر نحو الشرق، عطش لخباياه وعطاءاته، والثاني ناظر نحو الغرب متمثلًا في المحتل السابق. حدد ماتياس انار المولود في نيور عام 1972 ،خطه الأدبي وولعه المعرفي منذ خطواته الأولي، حددها بوضوح لافت ليسير كل خطوة في الطريق الذي اختاره تاركًا بصمة عميقة لا تزول. فطوال مسيرته لم يتخل عن تقديم ولعه المشرقي برؤية لا تنتمي لمعسكر الاستشراقيين المنحازين للشرق ظالمًا أو مظلومًا، ولا للمعسكر الآخر الذي أبلس الشرق باعتباره مصدر كل الشرور. بل اتخذ موقفًا يستطيع من خلاله الرؤية عن كثب، معرفًا ببلاد تضرب أقدامها في تاريخ الحضارة وتقاوم مشكلاتها المتراكمة لتسير شامخة تارة ومخفقة تارة أخري. إلا أنه لم يغفل - ساهيًا أو متعمدًا- ما ساهمت به حضارة تلك البلاد في بناء وتكوين الانتاج العالمي للفن والثقافة وما نهله منها مثقفو الغرب وفنانوه في عصور سابقة. صدر لإنار مؤخرًا في سبتمبر 2015 رواية "بوصلة"عن دار أكت سود، والتي فازت بجائزة الجونكور الجائزة الأدبية الأهم والاشهر في فرنسا- . وهي تجربة سردية شاقة علي الكاتب والقاريء معًا، يدرك فيها ماتياس أن ما من خيار آخر أمامه إلا أن يورّط القاريء معه في التفاصيل، منذ اختيار العنوان الملغّز، الذي لا يعرف اتجاهه سوي الكاتب، فارضًا علي القاريء أن يبدأ استنتاجاته بداية من غلاف الكتاب. "فرانز رايتر"، الشخصية الرئيسية في الرواية يمر بليلة أرق، يقرر أن يقضيها برفقة صندوق تذكاراته وهداياه التي تصبح الحجة والدافع للانتقال من موقع إلي موقع في البلاد العربية التي مر وعاش وتعلم الموسيقي ومارسها فيها. مستعرضًا مواطن الجمال التي ربما طمست في البلاد العربية والإسلامية، وباحثًا في وجدانه عن شرق ساحر يموج بكنوز يتزين بها العالم . أما كمال داوود الكاتب الجزائري المولود في مستغانم عام 1970، فقد اختار أن يعبر باللغة الفرنسية عن إبداعه لأنها تشعره بالحرية، لا ندري إن كان يقصد كونها لغة ثقافة تحترم الحريات والتعددية الفكرية وغيرها بشكل كامل أم لإتقانه هذه اللغة أكثر من غيرها كونها لغة المحتل السابق والتي كانت اللغة الرسمية الأولي في بلاده إبان طفولته. صدرت له رواية "مورسو... تحقيق معارض"وفازت بجائزة "الجونكور"للعمل الأول في عام 2015، وفيها يختار اسم وتاريخ لشخصية العربي القتيل في رواية الغريب لألبير كامو. يبدو أن كل أشكال القتل العبثي التي يتعرض لها الانسان العربي في أيامنا هذه قد أعادت إلي ذهنه الجريمة الأكثر شهرة في تاريخ الأدب العالمي الموجهة ضد انسان عربي. في الرواية يستثمر داوود الحبكة القديمة لصالح مساحة نقد أكثر إتساعًا، تشمل الواقع المرير للإنسان علي الأراضي العربية. بالطبع لا يتسع المجال هنا لاستعراض المعني الفلسفي وراء جريمة مورسو الفرنسي ضد العربي في رواية الغريب، لكن إذا نظرنا للأمر بشكل سطحي لوجدناه اعتداء مارسه الفرنسي ضد العربي دون دافع حقيقي. كان شراً مجانياً يرد عليه كامل بعد 73 عامًأ بالأدب، في نوع من إعادة الاعتبار للشخصية العربية، علّه يفعل علي الورق ما يستعصي فعله في الواقع. بلور إدوارد سعيد في عام 1978 مفهوم الاستشراق في دراسة وافية شاملة ،تعد من أهم المراجع التي نشرت عن الموضوع، وذلك من خلال كتابه الأشهر"الإستشراق"مستعرضًا جملة المؤلفات والمفاهيم الفرنسية والانجليزية ولاحقًا الأمريكية حول رؤيتهم للشرق، واعتمد مبدأ ان تلك المفاهيم هي السبب الرئيسي في الشرخ بين الشرق والغرب. أما ماتياس انار فيميل إلي تخطي التعريف المقدم للمفهوم منذ ما يقرب من أربعين عامًا، مفضلًا التركيز علي منح الحضارة الشرقية الفن والثقافة للحضارة الغربية مستخدمًا مصطلح أن الشرق أصبح "متكافيء"مع الغرب الآن. ندرك بالطبع أن ما من إسهام ثقافي حديث قدمته الحضارة العربية والاسلامية للعالم، فماذا يقصد "بالتكافؤ"الذي أشار إليه؟ نلاحظ أننا كشعوب عربية