"طريقتي في الإدارة.. لا تُكتب ولا تُقرأ.. بل تُمارس" هذه الجملة من أشهر مقولات الراحل عثمان أحمد عثمان، عندما سُئل عن تجربته فى المقاولات والعقارات، فهذه الصناعة وما يصحبها من مجموعة كبيرة من الصناعات تحتاج إلى العمل والتجربة ولا يوجد لها نموذج من الممكن إتباعه أو سيناريو مضمون له بداية ونهاية، ومن الممكن أن يكون هذا هو سر نجاحه ووقوفه أمام الأزمات. وتوفير "العقار" كان وما يزال محور إهتمام الحكومات الراغبة فى البقاء، فتوفير السكن الملائم يأتى مصاحبًا للغذاء والعيش وعلى رأس مطالب "العدالة الاجتماعية المنشودة "، بل إن التعمير هو خط الدفاع الأول الذى يراه كثيرون فاعلاً فى مواجهة الأعداء، فتوطين المدن أهم وأصعب من توطين الجيوش. فالقطاع الذى يوفر حجم عمالة تقترب من 10% يظل محورًا قوميًا يجب أن يكون جزءًا كبيرًا من برنامج "الرئيس القادم " بإعتباره مفتاح حل للأزمة الاقتصادية التى نواجهها، وباب كبير للسلام الاجتماعى المنشود، فليس خافيًا على أحد أن عدد كبير من العاملين البسطاء أو ما يطلق عليهم "الفواعلية" فى هذا القطاع تحول بعضهم إلى مخربين بالأجرة فى الأحداث الأخيرة التى شهدتها مصر نتيجة الاضطرابات السياسية والإنفلات الأمنى الذى سيطر على الأوضاع فى مصر وحالة البطالة التى قصمت ظهرهم. ودائمًا ما كنت أقرأ نشاط القطاع بهؤلاء "الفواعلية" التى تراهم فى عدة أماكن داخل نطاق القاهرة الكبرى أهمها دوران شبرا وميدان رمسيس والإسعاف والسيدة عائشة والحى العاشر بمدينة نصر، فتراهم الآن جالسين حتى منتصف النهار يتابعون السيارات التى تمر لعل أحدهم يطلبهم للعمل أو شركة تأخذهم بالجملة . وتُقّدر الإحصائيات عدد العمالة اليومية فى مصر ب6 ملايين عامل فى قطاع أعمال المقاولات اليومي، وهم وفقًا لآراء العديد من خبراء الاجتماع وقود ثورة الجياع القادمة فى مصر وسيكونون فى مقدمتها مستخدمين سواعدهم فى الاحتجاج وتفريغ مخزون الغضب لديهم . ولعل قطاع البناء والتشييد الذي يساهم بنحو 4.6% من إجمالى الناتج المحلي، وكان أقل القطاعات الاقتصادية تأثرًا من جراء تلك الأحداث نتيجة إمتلاكه كافة المقومات التي تمكنه من جذب الاستثمار والمستثمرين لقدرته على تحقيق معدلات نمو جيدة مدفوعًا بنقص المعروض داخل السوق من الوحدات وارتفاع الطلب وهو ما يجعل حالة من التفاؤل يشوبها الحذر تنتاب المطورين العقاريين خلال العام الجاري . وتُشير دراسات اقتصادية محلية ودولية إلى أن قطاع العقارات في مصر يشهد بداية انتعاش قوية وعودة الثقة للمستثمرين، بدعم استقرار نسبي بالأوضاع السياسية والاقتصادية. ويأتي تفاؤل المستثمرين نتيجة سعى الحكومة نحو إزالة التحديات التي تواجه قطاع البناء والتشييد والذى يعد القطاع الأبرز الذي تراهن عليه في جذب مزيدًا من الاستثمارات الأجنبية للبلاد من خلال إقرارها العديد من المبادرات إضافة إلى دراسة إقرار البعض الآخر والتى تمثلت أبرزها في إطلاق البنك المركزى المصري مبادرة لدعم نشاط التمويل العقارى فى المجتمعات العمرانية الجديدة يتيح من خلالها نحو 10 مليارات جنيه بتكلفة منخفضة الفائدة للبنوك تصل إلى 7% للمشروعات متناهية الصغر و8% للمشروعات المتوسطة لإعادة إقراضها لمدة 20 سنة، ودخلت تلك المبادرة فعليًا حيز التنفيذ مطلع أبريل الجاري لتمول نحو 100 ألف وحدة كمرحلة أولي، وسيستفيد منها كذلك محدودى ومتوسطى الدخل. كما يأتى فى ذات السياق إقرار مجموعة من التيسيرات للشركات المخصص لها أراضي بمساحات كبيرة بالمدن الجديدة تتمثل في سداد 25% من قيمة المستحقات والأعباء المستحقة عليها خلال شهر بالإضافة إلى سداد 75% من قيمة المستحقات على أربعة أقساط ربع سنوية إلى جانب منح مهلة إضافية عام لجميع المشروعات بسبب الظروف الاستثنائية التى مرت بها البلاد عدا المشروع القومى. كما يأتى ملف التسويات مع المستثمرين بالقطاع العقاري خلال الفترة الحالية هو الأصلح للوصول إلى تسويات عادلة من أجل دفع عجلة الاستثمار والانتاج وزيادة القدرة التشغيلية وخلق فرص عمل واعدة، عبر باب "يسروا ولاتعسروا"، فإقتصاديات السوق الحر لا تعترف بالمسئول الركين الذى يفضل دائمًا الانتظار وعدم الحسم، ولعل التسوية التي أقرها مجلس الوزراء بين مجموعة "سوديك" وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، مقابل سداد مبلغ 900 مليون جنيه على أقساط نهاية الاسبوع الماضي خير دليل على ذلك مما يتطلب توفير الحماية القانونية للمسئولين للقضاء على ظاهرة الأيدي المرتعشة وإغلاق هذا الملف. ويجب على الحكومة الحالية والقادمة أن تنتبه إلى أنه لا مجال مطلقًا للفساد من جديد فى هذا القطاع الحيوى الذى حاصرته "السمعة السيئة" لسنوات بسبب أخطاء أفراد فضلوا مصالحهم الشخصية على مصالح الدولة، كما يجب أن تكون "الشفافية والافصاح" هى لسان حال هذا القطاع والإعلان عن خريطة واضحة للمشروعات الخاصة به وعدم الزج به فى مشروعات سياسية وصفقات الظلام التى لن تخرج للنور مطلقًا. وتعمل الحكومة الحالية على إقرار مجموعة من التشريعات التي توفر مناخًا جاذبًا وآمنًا للاستثمار فى محاولة لبث الثقة فى الاستثمار بمصر مرة ثانية وتشمل تعديلات قانون إنشاء الصناديق العقارية وهى خطوة هامة وداعمة للسوق في ظل طبيعة الفترة الحالية التي تتطلب إتاحة مزيدًا من الأدوات والآليات المالية لتوفير السيولة وهو ما يساعد على استقطاب شريحة من المستثمرين والأموال خاصة العربية. وتشمل التعديلات أيضًا قانون التمويل العقاري والذي يواجه في مصر العديد من التحديات والعقبات التي حالت دون تحقيقه معدلات نمو جيدة خلال ال 10 سنوات الماضية منذ تفعيل النشاط عام 2004 وحتى الآن وهو ما انعكس على حجم التمويلات التي قدمتها الشركات العاملة فعليًا داخل السوق والبالغ عددها نحو ثمانى شركات والتي لم تتعدى حاجز ال 4.2 مليار جنيه استفاد منها نحو 33 الف شخص وهو معدل لا يتناسب مع حجم مصر والسوق العقارية والاحتياجات السكنية المطلوبة . وتقترب هيئة المجتمعات العمرانية من الانتهاء من تعديلات اللائحة العقارية للهيئة والتى تمثل أبرز المعوقات الإدارية التي تواجه المستثمرين العقاريين حيث تنظم تعاملات المستثمرين مع الهيئة، والتى يجب أن تقوم على تحقيق التوازن بين طرفي الاستثمار العقارى وهما المطور والهيئة عبر تفهم أبرز المشكلات التي تواجه المستثمر وسبل حلها بما لا يضر بمصالح الهيئة ومخططاتها، وكذلك التعرف على المشكلات الحالية التي تواجه المستثمر وما يطرأ على مشروعه من ظروف تستدعي تعامل الهيئة معها وتخفيف الأعباء المفروضة عليه. كما يجب أن تتضمن اللائحة بنودًا تراعى الظروف الطارئة الناتجة عن الاضطرابات السياسية والأمنية التي تُعرّض المشروعات للتوقف مثلما حدث خلال الثلاث سنوات الماضية وهو ما أخل بالجداول الزمنية المتفق عليها لتنفيذ المشروعات وأن تتعامل مع تأخر المشروعات نتيجة هذه الاضطرابات. وفي تقديري أن خطوة الحكومة الأكبر هى وضع مخططات لتدشين 40 مجتمع عمراني جديد للتعامل مع الزيادة السكانية على أن تكون هذه المجتمعات متكاملة تتوافر بها فرص العمل والسكن للتغلب على مشكلة الأراضي التي تواجه المستثمرين بالإضافة إلى المشكلة الأكبر وهى أزمة الإسكان بمصر والتعامل مع الزيادة السكانية السنوية والزيادة المتوقعة على مدارال20 عامًا المقبلة. تلك المبادرات وغيرها تصُب في صالح السوق العقارية والمستثمر المحلي الذي توليه الحكومة إهتماماً كبيرًا خلال المرحلة الحالية والذى يتابع عن كثب أوضاع المستثمر المحلي الذي يمثل مرآة الاستثمار في السوق المصرية وهو ما يتطلب من الحكومة تركيز كافة جهودها الاستثمارية على تنمية وتحسين أوضاع الاستثمار المحلي لجذب مزيدًا من الاستثمارات الأجنبية للقطاع العقاري الذى يمثل رهان الحكومة في تحقيق معدلات نمو جيدة خلال السنوات المقبلة. إلا أنه من وجهة نظرى لايزال هذا القطاع يحتاج إلى مجهود كبير من الحكومة الحالية فى ظل وجود "شيخ المقاولين" إبراهيم محلب على رأسها، خاصة وإن كانت الشركات العاملة فى هذا المجال مازالت على قواعدها ولم ترحل كغيرها، وتوجهنا الذى يبدو أنه فى طريقه الصحيح نحو بناء مؤسسات الدولة عَبر الإنتهاء من الاستحقاقات الديمقراطية من انتخابات رئاسية ومجالس نيابية لوضع مصر علي أعتاب الاستقرار السياسي والأمني ومن ثم تحسن كافة القطاعات الاقتصادية . كما أنه على الرئيس القادم أن يتفهم الأهمية الكبري لهذا القطاع الانتاجي الذي يرتبط بعلاقات تشابكية مع عشرات القطاعات الأخري بما يؤهله لأن يكون محوراً رئيسياً في التنمية الاقتصادية المخططة خلال السنوات المقبلة ، والمساعدة فى تحقيق المعادلة الصعبة التى توازن بين "الثورة والعدالة الاجتماعية والحرية وقوة الدولة وأشياء أخرى.