أمسك بيدي كوب الشاي الذي شارف علي الانتهاء و باليد الأخري السيجارة تكاد أيضاً أن تنتهي كان هناك تيار هواءٍ بارد يمر في المقهي كان يمر بي كأني أغتسل به من يومٍ شاق رغم أنه مازال في بدايته قلت لنفسي الأمر يبدو جيداً فقد بقي أن أعود يوماً أخر لأستلم بطاقة هويتي و أن أعيد جواز السفر إلي المنزل حيث أنني سأبقي هنا بوطني لأني أعتقد أن الوطن يحتاج جميع أبناءه الآن التفت لألقي نظرة علي المقهي فرمقت رجلاً مسناً نحيفاً يرتدي ملابس الطبقة المتوسطة التي أزيحت بعنف تحت حد الفقر يطالع جريدة ثم التفت لي و قال " الله يرحمك يا ناصر أتذكروا الآن فقط نتحدث عنك جيداً ، حتي إنت يريدون استغلالك " كنت أرمقه بفضول فقال لي " أتريد أن تفهم ؟ أحضر كرسي و تعال بجواري" قمت علي الفور و جلست منصتاً له فقال " أنا أسمي صالح و أبلغ من العمر 70 عاماً رأيت فاروق و قامت ثورة يوليو و أنا في العاشرة و بدأت أن أعيش لحظات سعيدة فوقتها كنت مازلت أعيش بالقرية و بعد أن أخذ والدي أفدنة الإصلاح الزراعي تأكدت أني سأكمل تعليمي و بالفعل فقد أتمت دراستي الثانوية في 1962 و الوطن يسير للأمام فالشعارات كلها جديدة لم نعهدها من قبل و ما يقال يطبق فعلا فقد دخلت الجامعة لقد كان حلم شبه مستحيل دخلت كلية التجارة و تخرجت من الجامعة و عملت بمصنع من مصانع الدولة لقد صدق مع عاهدنا عليه الثائر ؛فقد تعلمت و عملت و أنتجت و لم تكن تكسرنا الحروب لقد كنا نسير إلي الأمام و بعد سنة من عملي جاءت النكسة رغم الهزيمة.. لم ننكسر لأن هزيمة واحدة غير كافية لتقسم ظهرك قلنا لا للهزيمة و طلبنا من القائد ألا يرحل فهو لم يخذلنا من قبل و كل ما كان يفعله كان في صالحنا فقلنا له:" إبقي فأنت حبيب الشعب "و بالفعل لم نكن نعود للخلف حتي مات الرجل و لم نشعر باليأس لقد أكمل نائبه بزمام الأمور و انتصرنا في حرب أكتوبر و انتظرنا أن نكمل المسيرة و إذا بنا نسير عكس الاتجاه فالسوق الحر بدلاً من الإشتراكية و لم يكن مجرد انفتاح بل كان وسيلة لسلب الفقراء كل ما تحصلوا عليه من بعد انتهاء الملكية و كان اتفاق السلام فقد عرفت طول عمري أن الصهاينة أعداء و مغتصبو أرضنا العربية فكيف يكون اتفاقا مع من يتصف بهذه الصفات إلا و كان اتفاق عار و ظهرت الفتنه الطائفية كانت شيء جديد لم نعهده من قبل لقد كان الحدث مرعباً و لكني كنت مؤمناً أن هذا النظام هو الفاعل الحقيقي لأنه بدأ التمييز و ارتد علي الثورة و لم يكمل المسيرة بل سار في الاتجاه الأخر لم تكن قرارته في صالح الفقراء و اغتال الرئيس المتعصبون الذين دعمهم و غذاهم لمواجهة الطلبة المثقفين و إذا بالسحر ينقلب علي الساحر و يقتلوه ثم جاء المخلوع ثلاثون عاماً من الغم و الظلم لقد راح منا كل شيء كانت هذه الثلاثون عاماً هي النتاج الحقيقي لقرارات الارتداد علي ما بدأناه في ثورة يوليو عشناه طوال ثمانية عشر عاماً أتعرف ماذا كانت المشكلة الحقيقية طوال هذه السنون ؟ إنها ما يسمي بالنخبة هذه النخبة كانت تطبق نظرية عاش الملك مات الملك إلا من رحم ربي و كان محترماً صدقني يا بني لقد كانوا أقلية عندما مات ناصر اشتركوا في تشويه منجزات الوطن و كان ذلك خطة محبوكة ليستطيع النظام أن يرتد علي الثورة و يضرب بحقوق الفقراء عرض الحائط أتعلم يا بني أنا لا أهتم بالنظم السياسية و لا أهتم بالشعارات و لكني فقط أقيم أي نظام من خلال استفادة الأغلبية منه و الأغلبية الكاسحة منا فقراء فمن يأخذ قرارات في صالح الأغلبية أنا معه لن أطلب منه نظريات سياسية سأطلب منه قرارات اجتماعية و إن وجدته يعمل في صالح الفقراء سأتأكد أنه سيكون نظاماً جيداً " يرن هاتفه المحمول ثم يقول يجب أن أنصرف الآن عندما تريديني ستجدني هنا أنا هنا طوال اليوم" . ما يحدث يمثل نهاية اليوم بالنسبة لي لا أملك إلا أن أعود للبيت لأنام لن أحتمل مزيداً من التفكير و لكني استفدت من كلام عم "صالح" شيئاً مهما أن كل نظام يكون له تحيز و أني إذا كنت مواطناً صالحاً فيجب أن أعرف ما هو النظام الذي في صالحي و أن أختار في أي محفل انتخابي من سيأتي ليطبق هذا النظام ربما يجب أن أبحث تاريخياً فيما ذكره لي الرجل و ربما يجب أن أجلس معه مرة أخري سأحتاج منه بعض الخبرة لأنه يمثل نبض خبير للشارع و يجب بعد ذلك أن تترجم مشاعره و رؤيته من رغبات إنسانية إلي برامج سياسية لأني أعتقد أن البرامج السياسية إن لم تكن تعبر عن مطالب إنسانيه و تفترض الحلول إلي الوصول إليها فلتذهب إلي الجحيم أخيرا أرجوكم إدعو لي أن أعود لمنزلي سريعاً فكما تعلمون كم أصبح من المستحيل أن تخرج أو أن تعود إلي منزلك بسهولة .