كان هنري ورد بيتشر رجل دين بروتستانتي ومصلحا اجتماعيا ومتحدثا لبقا شغل الناس بآرائه الثورية ضد العبودية والإعدام في منتصف القرن التاسع عشر، كما استطاع أن يشغل الناس بمواعظه البليغة حتى وصفه ابراهام لنكولن ذات يوم بأنه الأكثر إبداعا بين الأحياء. إلا أنه اضطر إلى الاستقالة من عمله بالكنيسة بعد اتهامه بارتكاب الفاحشة مع زوجة صديقه تيودور تلتون، وهي الفضيحة التي هزت المجتمع البروتستانتي والتي عرفت حينها بفضيحة بيتشر- تلتون، رغم أن المحكمة التي انعقدت على مدار ستة أيام كاملة لم تفصل في القضية ولم تصدر حكما بالإدانة رغم اعتراف اليزابيث زوجة صديقه الصريح بصحة الواقعة. لكن تلك الحادثة لم تؤثر أبدا على صورته في أعين محبيه والمؤمنين بفلسفته لأنهم كانوا أكثر وعيا من الكثير من مثقفينا ورجال إعلامنا الذين يحاسبون الناس على هفواتهم ويضعون تاريخهم في كفة وزلاتهم في كفة أخرى، بل ويفتشون في دفاتر العلماء وخبايا نفوسهم بحثا عن أدلة تورطهم في أي فعل فاضح على الطريق أو في غرف النوم ليبرهنوا على صحة عداء غير مبرر لأناس لم يدعوا العصمة ولا التجرد من الهوى البشري أبدا. يوم وفاة قس بروكلين علق المجلس التشريعي أعماله وأعلن الحداد العام، وتوالت برقيات التعزية على بيت الفقيد وكان من بينها برقية خاصة من الرئيس كليفلاند. واضطر أقاربه ومحبوه إلى طبع تذاكر تشييع للفقيد، ولم يسمح لأحد باتباع جنازته أو الوقوف على قبره إلا إذا كان حاملا لتذكرة وداع خوفا من تدافع قد لا يحمد عقباه. لكننا في بلادنا المأسوف على أخلاقها نجرم الدعاة قبل التثبت من التهم الموجهة إليهم رغم توقعاتنا المعلنة بفبركات سياسية تشتت الانتباه وتفقدنا التركيز المغيب أصلا قبل الوقوف أمام صناديق الاقتراع. وهكذا وقفنا صفا واحدا نروج لإعلام غير أخلاقي يستهدف وحدتنا في الصميم وانشغلنا عن قضايانا الهامة بسفاسف أمور لا تقدم قدما على قدم ولا تضع في بناء الوحدة المنشودة حجرا على حجرا. تحولنا من ثورة على الفساد المدعوم إلى ثورة على الأخلاق والقيم، ونشرنا الفضائح التي أمر الله بسترها بل وجرم متداوليها حين قال في كتابه العزيز: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ). أصدرنا أحكاما بالإدانة في لمح البصر ونسينا قضايانا العادلة التي تغضنت أوراقها في مخازن القضاء شهورا دون أن ينظر فيها أو ينظر إليها، وتحولنا إلى قضاة مرتشين تحركهم الأحقاد والأطماع والرغبة في تشويه الآخر ونفيه من كل الساحات والمساحات، وكأننا الأطهار المبرؤون من كل دنس. تحولت كلماتنا اللاهية اللاهبة على مواقع التواصل في لمح البصر من رغبة في إدانة الجلادين إلى رغبة مجنونة في تشويه رجل لم تجمعنا به جلسة ولم ننظر إليه في مجلس خلسة. صدّقنا من نكذبهم في كل واقعة وموقعة وكذبنا رجلا منا يخطئ كما نخطئ ويصيب كما نصيب لنكسب موقعا متقدما على رفاة جندي آخر في سباق عدمي غير أخلاقي لا يتناسب وعدالة قضايانا ووحدة مصيرنا. لم تقم ثورتنا يا سادتي على علماء الدين لأنهم ليسوا أعداءنا ولم يكونوا يوما من جلادي العصر البائد، فلا مبرر أبدا لرفع رماحنا على رجال يحملون كتاب الله في صدورهم ولم يدعوا يوما أنهم ملائكة مكرمون لا يخطئون ولا يزلون. لماذا نهاجمهم وندافع عن آخرين ظُلموا من نفس الجلاد ونحملهم على الأعناق في ازدواجية أخلاقية غير مفهومة وغير معقولة؟ ولماذا نشن حربا غير مقدسة على قيم نحن أحوج ما نكون إليها لننتصر؟ وأينا يدعي العصمة من الغواية وقد سأل المسيح عليه السلام ربه أن لا يضعه في تجربة، ودعا محمد عليه السلام ربه في صلاته أن يجنبه الفتن؟ علينا أن نرشد استهلاك طاقاتنا المهدرة قليلا ولا نستخدم نفس الأساليب التي استخدمها النظام القديم ضدنا فتزل قدم بعد ثبوتها. وعلينا أن ندرك أن الخطأ مركب طبيعي في ذواتنا الهشة وأننا غير مبرئين مما نرمي به آخرين ونمتدح بفعله آخرين ونجعلهم نجوم مجتمعاتنا وزينة لغرف نومنا وخلفيات لهواتفنا النقالة. وليتقدم من كان منا بلا خطيئة وليرم ذلك الرجل الذي صوبت نحوه على حين غرة كاميرات العالم التي لا تنكر منكرا ولا تدين عريا ولا خنا بآلاف الأحجار المقدسة. فإذا لم يكن بيننا ذلك الرجل، فلنرحم برئيا حتى الإدانة غير المنزهة ولنستر عريه ونضع الفعل في موقعه الصحيح من تاريخنا البشري الملئ بالمعاصي دون تهويل ولا فبركة تديننا يوم نعرض على الله لا تخفى منا خافية. ذات أحد تقدم بيتشر المتهم الذي برأته محكمة تيقنت من صحة جرمه نحو كنيسته ليمد يده في صندوق بريده ويقرأ رسالة وحيدة من كلمة واحدة: "أحمق". ويدخل الرجل كنيسته ليلقي على الناس موعظته ويقول في استخفاف: "لطالما وصلتني رسائل نسي أصحابها أن يوقعوا عليها بأسمائهم. لكن الرسالة التي وصلتني اليوم فريدة من نوعها، فقد وقع عليها صاحبها دون أن يكتبها." فلا تكن صديقي ذلك الأحمق الذي يتهم الناس بما هو فيه فيدين نفسه. يقول تعالى في كتابه العزيز: ( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)، صدق الله العظيم. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.