لا شك أن كرامات الأولياء ثابتة لهم بنص الكتاب والسنة، في حياتهم وباقية حتى بعد مماتهم،ولا يشكك في وجودها إلا كل مجادل بالباطل،معاند بالضلال،حتى أن أهل العلم قد ذهب إجماعهم نحو قاعدة هامه : بأنه كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامةً لولي . والكرامة تعني : أمر ُ خارق للعادة يظهره الله سبحانه وتعالى على يد عبد من عباده ظاهر الصلاح وتختلف عن المعجزة في أن الأخيرة متحدٍ بوجودها هذا بخلاف الكرامة . والكرامة اسم مشتق من التكريم أي تبجيل وتعظيم وتقدير من الله سبحانه وتعالى لعبده الصالح،فتتغير وتُخرق له نواميس الكون على غير المعهود والمألوف لجميع الناس،ومن هنا كانت أمر خارق للعادة أي على خلاف ما اعتاده الناس في حياتهم الدنيوية . فهي سر من أسرار الحق في كونه وهي علامة روحانية دالة على عدم انفصال الأرض عن السماء،بل تشير في حد ذاتها إلى جميل عطاء الله سبحانه وتعالى،وأن عطاؤه كلام وعذابه كلام ويقول للشيء كن فيكون. وإذا كنا هنا نتكلم عن الكرامة وتأصيلها الديني كأمر هام في حياة وتاريخ الصالحين،وكقاعده عقائدية استقر على وجودها وحقيقتها أكابر العلماء والصالحين،كابراً عن كابر،وجيلا بعد جيل،مستقين هذا الإذعان من نصوص الكتاب والسنة،إلا أننا يجب أن نشير إلى إجماع هؤلاء الصالحين ذاتهم على قاعدة هامة لا تقل عن إجماعهم الأول ألا وهي : أن الإستقامه هي خير من ألف ألف كرامه ! وإذا كان الأمر كذلك،فلا شك أن منكر الكرامة هو منكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، وهذا الإنكار يعني محاولة التعتيم على نصوص ثابته بنص بالكتاب والسنة بل قد يصل الأمر إلى الجحود والتحدي لقدرة الله سبحانه وتعالى في كونه وملكه ومن هنا تكون الطامة العظمى ولله در القائل: واثبتن للأولياء كرامه ومن نفاها فانبذن كلامه فمن خرق عادة نفسه خرق الله له عادته،وهذا يعني من جاهد نفسه وتخلى عن رعونتها وأهواءها وسلك بها طرق المجاهدين الأبرار،سطعت على جبين روحه الأنوار،ونودي من حضرة الغيب والأسرار،بأنه المطلوب للارتقاء نحو حضرة الحبيب المختار،فهناك دُقت له أفراح الطبول،ولاحت عليه نسائم القُرب والوصول،بعدما تخلى عن الأهواء والفضول،مقتفياً آثار الحبيب الرسول،فصّحت له الخلوه،وطابت له الجِلوه،فينادى له في الكون ان الله قد أحب فلان بن فلان فأحبوه،فتتحقق البشارة، وتصّح العبارة:{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز ُ العظيم } .( يونس الآية 64 ) وإذا عرفت ذلك فنقول: الذي يدل على جواز كرامات الأولياء:الكتاب والسنة والآثار والمعقول. وسنكتفي هنا بذكر بعض من كلٍ ومن أراد المزيد فليرجع إلى أمهات الكتب في هذا الأمر كجامع كرامات الأولياء للإمام النبهاني والطبقات الكبرى للقطب الشعراني رضي الله عنهما وغير ذلك كثير وكثير من كتب التفسير وتاريخ الإسلام العظيم . - من الكتاب قصة السيدة مريم عليها السلام:{فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لكِ هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}. (آل عمران آية 37) وقصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلاثمائة سنة وتسع سنين . والذي عنده علم من الكتاب ( آصف بن برقيا) العبد الصالح الذي كان في حضرة سيدنا سليمان عليه السلام،وتمارى مع الجن الذي عرض أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم نبي الله من مقامه،وأقر العبد الصالح بقدرته الربانية على الإتيان به قبل أن يرتد طرف نبي الله إليه:{...قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي آمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم } . (النمل 38 _40 ) ومن السنة حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ) . - روي سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"بينما رجل يسوق بقره قد حمل عليها،فالتفتت إليه البقرة وقالت:إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث،فقال الناس:سبحان الله بقرة تتكلم؟فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر" . ومن الآثار : - قصة طفل الإخدود الذي تكلم في المهد وأشار لأمه بالثبات حينما خافت من نار الإخدود وكادت أن تهتز فثبتها بقوله _وهو طفلا رضيعاً محمولاً بين يديها_ : اثبتي يا أماه فإنكِ على الحق. - حادثة سارية الجبل الشهيرة في التاريخ الإسلامي حيث كان أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،وإذا به يقطع خطبته فجأه ويخاطب قائد الجيش سارية ويقول: يا سارية الجبل .. الجبل الجبل .. فيسمعه سارية وبينه وبين أمير المؤمنين آلاف الأميال،ويلتزم الجبل إحتماءاً من الأعداء،ويعود بعد ذلك سارية ويخبر الناس: بأنه سمع صوت أمير المؤمنين يأمره بالتزام الجبل،ولولا هذا النداء لكان الهلاك للجيش بأسره ! - يدخل رجل على أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنهما وكان قد نظر لكعب إمرأة في الطريق فينتفض الخليفة ويقول:أيدخل عليّ أحدكم وأثر الزنا في عينيه ؟! فيتعجب الصحابي:أوحي بعد رسول الله ؟! فيجيب الخليفة :كلا ولكنها فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله ! أما من المعقول فيقول الإمام النبهاني _ رحمه الله _ في مؤلفه جامع كرامات الأولياء:إنا نشاهد في العرف أن من خصه الملك بالخدمة والدخول عليه في مجلس الأُنس،فقد يخصه أيضاً بأن يقدره على مالا يقدر عليه غيره،بل العقل السليم يشهد بأنه متى حصل ذلك القرب فإنه يتبعه هذه المناصب،فجعل القرب أصلاً والمناصب تبعاً،وأعظم الملوك هو رب العالمين،فإذا شرف عبداً بأن أوصله إلى عتبات خدمته،ودرجات كرامته،وأوقفه على أسرار معرفته،ورفع حجب البعد بينه وبين نفسه،وأجلسه على بساط قربه،فأي بُعد في أن يظهر بعض تلك الكرامات في هذا العالم،مع أن كل هذا العالم بالنسبة إلى ذرة من تلك السعادات الروحانية،والمعارف الربانية كالعدم المحض . -لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إما لأجل أن الله ليس أهلا لأن يفعل مثل هذا الفعل،أو لأجل أن المؤمن ليس أهلا لأن يعطيه الله هذه العطية،والأول قدح في قدرة الله تعالى وهو كفر،والثاني باطل،فإن معرفة ذات الله وصفاته وأسمائه وأحكامه ومحبة الله وطاعته،والمواظبة على ذكر الله وتقديسه وتمجيده وتهليله،أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة أو تسخير حية أو أسد،فلما أُعطي المؤمن المعرفة والمحبة والذكر والشكر من غير سؤال،فلأن يعطيه رغيفاً في مفازة أولى فأي بُعد فيه؟! -قال النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن رب العزة سبحانه وتعالى:"ما تقرب عبد إليّ بمثل ما افترضت عليه،ولا يزال يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه،فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً وقلباً ويداً ورجلاً،بي يسمع،وبي يبصر،وبي ينطق،وبي يمشي،"وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيبُ لغير الله،ولا في بصرهم،ولا في سائر أعضائهم،إذا لو بقى فيهم نصيب لغير الله لما قال أنا سمعه،وأنا بصره،إذ ثبت هذا فنقول:لا شك أن هذا المقام أشرف من تسخير الأشياء ووقوع الكرامات لهم،فلما أوصل الحق سبحانه وتعالى عبده الصالح نحو حضرته،فلا غرابة أن يعطيه الأقل ألا وهو تسخير الأشياء لخدمته،ووقوع الكرامات على يديه،علماً بأن الكرامة ليست غاية،بل هي نوع من تكريم الحق لعبده الصالح،ولا يجب أن يلتفت إليها وإلا كانت حجاباً واستدراجا. ونقول:إذا اتفق في نفس من النفوس أنها قوية النزعة العلوية،نحو حضرة الأنوار القدسية،بعدما أزيل عنها غبرة الأكوان الظلمانية،أشرقت وتلألأت وقويت بالله على التصرف في حضرة عالم الملك مستمدة العطاء من حياض حضرة الملكوت،وهاهنا ينحصر عنها البيان،لكونها وراءها أحوالاً عميقه،وأنوراً دقيقه، وأسراراً من الحقيقه يعجز البيان عن وصفها !