لا يوجد في الدنيا أسوأ من الانتظار ، هكذا شعرت بينما أجلس في عذاب أنتظر دوري لدي طبيب الأسنان داخل تلك العيادة الكئيبة التي تعج بالمرضى منتفخي الوجنتين .. أجلس وسط هذا الجمع أراقبهم في ملل شاردا أتذكر مشكلتي مع زوجتي التي لا تعبأ بنصائح الأطباء حتى يستقر الحمل ومع ذلك أصرت اليوم على الذهاب لوالدتها بحي الأزهر فلم يكن منى بعد جدال طويل سوى أن أوصلها لهناك ثم أعود أدراجي للحاق بميعاد ذلك الطبيب الذى لا يكف طوال الوقت عن التنقيب عن شيئا ما داخل أسناني . أبحث في ملل قاتل وسط كومة الجرائد والمجلات التي أمامي على المنضدة .. جرائد بائتة مجلات على غلافها صور مشاهير احداهن تضحك ببلاهة وتحتها مانشيت على غرار لن أعود لزوجي أبدا والطلاق هو الحل ثم يتضح أنه فيلم جديد لتلك اللعينة.. مجله صفراء أخرى تكتب فضيحة فلانة مع رجل الدين بين الواقع والخيال .. أي هراء هذا من يقرأ هذا الكلام السخيف بل ويصدقه .. مجلة أخرى بعنوان (حور الدنيا) تعرض صورا محتشمة بعض الشيء قسم خاص للمرأة وصحتها مشاكل شبابية.. ليست محل اهتمامي لولا أن وجدت مقال في باب الصحة العامة بعنوان الغاز المنتشر في حي الأزهر لا يضر سوى الحوامل وبعض فئات الأطفال الذين يعانون أمراضا تنفسية أي غاز ومتى انتشر! عدت لغلاف المجلة لأجدها صادرة منذ أسبوع مضى.. غريب ، لم أسمع أي أخبار بذلك الشأن ثم أنني عائدا للتو من تلك المنطقة ولم أرى أي شيء مريب . عدت لقراءة المقال الذى زاد حيرتي بحديثه عن اشتعال النيران في شاحنة بحي الازهر محملة بنفايات أحد المصانع وقد أصاب السكان بحالة الهلع و القلق إلا أن الغازات المتسربة لم تؤذى أحدا سوى بعض المصابين بأمراض الجهاز التنفسي و بعض السيدات الحوامل في تلك المنطقة . تصاعدت الفكرة في رأسي مما جعلني أتصل بزوجتي التي لم يكد يبلغني صوتها حتى هتفت في قلق: أسألى والدك ووالدتك الآن عن خبر اشتعال شاحنه بالقرب منهم نجم عنها غازات مضرة ظهر التعجب في صوتها وهى تسأل في دهشة : عزت ما الأمر أنت تقلقني بتلك اللهجة ماذا حدث.......... قاطعتها وأنا أعيد كلامي بلهجة أكثر انفعال مما جعلها تخفض سماعة الهاتف وتسأل أهلها عن الأمر إلا أن الإجابة كانت بالنفي مؤكدين أنه لم يحدث أي من تلك الأمور وإلا كانوا أول من عرفوا لقربهم الشديد من تلك المنطقة التي أتحدث عنها . زفرت في ارتياح وأنا أحدثها عن الصحافة الصفراء و المجلات التي تقوم بفرقعات إعلامية وتضخم الأمور لتعطيها أكبر من حجمها ولم أنسى بالطبع أن أخبرها عن مدى اشتياقي لها طول الساعات الثلاث السابقة . نسيت الأمر تماما وأمضيت يوما من أيام العزوبية بين ابتياع غداء (جاهز) وبين الجلوس مع بعض الأصدقاء في المقهى ثم – ومنذ فترة كبيرة – عدت للمنزل في ساعة متأخرة أبدل ملابسي في انتشاء من عاد بذاكرته عامان قبل الزواج عندما كان ي .......... تبا للهاتف اللعين لا يترك المرء يحلق بأفكاره أبداً .. وفى تلك الساعة المتأخرة ! كان والد زوجتي على أي حال ولكن صوته كان منزعجا ولا ألومه في ذلك عندما تسقط ابنته مغشى عليها وهى تتنفس بصعوبة .. ماذا ! أي مستشفى ! نعم سوف أكون هناك في لحظات . لا أدرى كيف وصلت المستشفى بهذه السرعة الجنونية ولا كيف قفزت فوق درجات السلم خمسة طوابق ولا متي تجمعوا يحاولون تهدئتي بعد خبر الإجهاض للجنين وهم يتحدثون عن تسمم الحمل نتيجة لبعض الأبخرة الناجمة عن اشتعال سيارة تحمل نفايات أحد المصانع في المنطقة. كانت بخير وهذا خفف عني بعض آلام فقد طفلي الاول ولكن بعض الأفكار تراودني تلهب ذهني وتشغل بالى .. عدة أيام مضت ثم قررت أن أجد الجواب .. بحثت عن إصدارات تلك المجلة. لم تكن على قدر من الانتشار مما جعلني أبحث عنها كثيرا حتى عثرت على مجموعة من أعدادها.. افترشت بها أرضية حجرتي وأنا أتصفح موضوعاتها المتنوعة توصلت لشيء واحد من جملة ما قرأت .. أن تلك المجلة لديها فريق عمل مذهل بكل المقاييس ذو تحليل منطقي وتوقع للعديد من الأحداث .. للأمراض القادمة وكيفية الوقاية منها .. توقع لصيحات الموضة الجديدة واهتمامات الشباب القادمة حتى باب الروايات لديهم تحكى أمورا تتشابه مع أحداث حقيقية تالية لها .. حتى أن قسم الأخبار بها كتب مقالا عن ضعف قضيب قطار الصعيد عند منطقة بعينها ولم يمض أسبوع حتى خرج القطار عن مساره بعد انفصال القضيب في نفس المكان .. أحدهم كتب عن ضعف الحراسة عند أحد البنوك الكبيرة فى وسط البلد و أنها غير كافية بعد ذلك العدد بأسبوع حدثت السرقة الشهيرة للمصرف .. بلا شك هم مهرة في عملهم لأبعد حد جميع التحليلات منطقية وقائمة على أساس واقعى .. ماعدا خبر اشتعال سيارة نفايات أحد المصانع التي كادت أن تودي بحياة زوجتي وتسببت في إجهاض حملها .. لا يمكن أن يصل التوقع والتحليل لهذا الحد .. بعد تفكير عميق دون الوصول لشيء قررت أن استقل سيارتي لحي مصر الجديدة حيث مقر تلك المجلة في ذلك المبنى العتيق .. كانوا ودودين للغاية الأمن أوصلني للسكرتيرة وهذه الأخيرة تبتسم في ود و تستأذنني في الأنتظار لحظات لم تكد تمضى حتى دخلت لرئيس التحرير ، كان رجلا وقورا يدخن سيجارا فاخرا عرفته بنفسي ثم أعطيته المجلة و أنا أساله عن تفسير لذلك الخبر ، تطلع طويلا لخبر اشتعال السيارة وتاريخه وقد هيأ لي أن عينيه اشتعلتا بدورها بغضب هادر ضاغطا على عباراته قائلا : يجب طرد ذلك المحرر الأحمق قلت لهم إنه مجرد هاو لم يصدقوني ، رفع وجهه ينظر إلي وكأنه قد نسى و جودي لحظات ثم يقول : وكيف لفت انتباهك ذلك ! هل ذلك كل ما يهمك .. لقد وقع تحت يدى ذلك الخبر مصادفة في العدد الصادر منذ أسبوع من مجلتكم (حور الدنيا) ، لأتفاجأ أن الحادث يقع منذ يومين ، هل لي بتفسير لذلك ! . هز رأسه أسفا وهو يقول : نعتذر عن ذلك الخطأ يا سيد عزت ، لقد أخطأ كاتب هذا المقال وسوف ينال عقابه -أي خطأ في هذا لقد وقع الحادث بالفعل ! - نعم ولكنه كتب عنه بطريقة مباشرة للغاية كان يجب أن يكتفى بتلميحات متوارية كما نفعل دائما - وكيف علمتم من الأساس بذلك الأمر خفض رأسه وهو يستند على حافة مكتبه وبعد لحظات تفكير رفع وجهه وهو ينظر إلى قائلا : بعض الأمور يا سيد عزت العلم بمبرراتها تثير الحيرة أكثر من الجهل بها ، أنا أعتذر لك مرة أخرى بالنيابة عن الجميع ولتعتبره سهوا صحفيا لن يتكرر مرة أخرى .. ثم ابتسم لى فى مجاملة وهو يمد يده ليصافحني منهيا اللقاء ولكنني لم أكن مستعدا للمغادرة هكذا بعد كل علامات الاستفهام هذه مما جعلني أرفض مصافحته و أنا أقول له بلهجة تحدى : سيدى إن خرجت من هنا سوف أتوجه مباشرة لقسم الشرطة أتهمكم بالتورط فى إشعال تلك السيارة لعلمك بذلك قبل الحادث بأسبوع مضي وها هي ذا المجلة وتاريخها خير دليل على ذلك . قطب جبينه في تفكير عميق ثم ضاقت حدقتيه أكثر وهو ينظر إلى بنظرة سرت لها قشعريرة باردة في جسدي ثم نهض من خلف مكتبه و اتجه للنافذة موليا ظهره لي قائلا : حسنا أنت أردت ذلك .. سوف أشرح لك الأمر.. فلن يقيدك في شيء . ثم أخذ نفسا عميقا وهو يقول : يجب أن تعلم أن خط الزمن متصل يدور حول نفسه .. من يعيشون في الغد يمكنهم الدوران بسرعة أكبر من خط الزمن ومسابقته والوصول لنقطة ما في الماضي .. بل والعيش فيها .. إن ما حسبته تحليلات صائبة للأحداث هو بالنسبة لهم ليس إلا مجرد ذكريات .. هذا كتاب تاريخ يا سيد عزت وليست مجلة.. هل فهمت شيئا . ظللت أحدق فاغرا فيهي في بلاهة ثم انفرجت شفتاي و أنا أقول بتلعثم : أنتم معتوهون، حفنة من المعتوهين .. هل تود أن تقول أنكم قادمون من ........ لا يمكن أنتم مجانين بلا شك . رد على دون أن يلتفت قائلا : - نعلم أن أحدا لن يصدقنا لذا نوفر مجهودنا ولا نتحدث عن الأمر .. كنا نعتقد أنه يمكننا أن نقيدكم ببعض المعلومات المستقبلية مستترة في هيئة مقالات وتلميحات تضمها المجلة ولكننا كنا بلهاء عندما علمنا أن المستقبل إذا عرف فلن يصبح مستقبلاً.. ما كان .. يجب أن يكون .. الماضي يتغير .. ولكننا لن نتوقف و سنظل نحاول معكم لإصلاح ما يمكن إصلاحه وتلافى ما حدث لنا . ثم أكمل عبارته وهو يقترب منى وابتسامة غامضة تتسع على وجهه قائلا : ومن أجل ذلك يجب أن لا يعلم أحد بما دار بيننا الآن ، تراجعت في قلق بالغ وأنا أتساءل عما يقصده إلى أن اصطدمت بذلك القادم من خلفي لألتفت إليه في جزع وهو يشعل شيئا ما أضاء بنور بهر عيني وشعور رهيب بسقوطي داخل دوامة سحيقة وأنا أغوص داخلها أكثر وأكثر ثم أظلمت الرؤيا .... تماما ........................ (لقد غفوت يا سيد عزت ، إنه دورك ) أفقت على ذلك الصوت وطنين عنيف يصم أذني و يدير رأسي فتحت عيني بصعوبة لأجدها تلك الممرضة توقظني لأجد نفسى قد غفوت أثناء انتظاري للطبيب ماذا حدث !! كيف غفوت على هذ النحو ! المجلة .. زوجتي .. الحادث .. بحثت وسط كومة الجرائد والمجلات أمامي حتى وجدتها .. قلبتها رأسا على عقب ولكن الخبر لم يكن موجوداً .. مقر المجلة الأمن السكرتيرة رئيس التحرير جميعهم أشخاص مختلفون الجميع ينكر رؤيتي في أي وقت .. المجلة تتطلع إلى في براءة أشعر أنه بمجرد أن أوليها ظهري تبتسم في خبث وتشفى .. رأسي على وشك الانفجار .. هل كنت أحلم ! ربما ولكن الحادث وقع بالفعل قبل خروج زوجتي من الحى بدقائق بعد أن أبلغتها . ما معنى هذا ! لا أدرى و لكنني أصبحت مدمنا لتلك المجلة أتابعها أسبوعيا أطالع مقالاتها كلمة كلمة لا أُقدم على فعل إلا بعد مراجعتها .. إنها مذهلة بحق وكأنها قادمة من ........... المستقبل . تمت بفضل الله أحمد بدران