بقلم نرمين سعد الدين الإمام محمد بن إدريس الشافعي هو الوحيد من الأئمة الأربعة الذي جمع إلى غزارة العلم واتساعه نبوغًا في الشعر ، ولكنه لم يكن يهتم بهذا الجانب بصورة كافية لانشغاله بعلم الدين وفقهه وفهم السنة ونقلها. نظم الإمام الشافعي الشعر في موضوعات وأغراض شتى، من الزهد والعلم والحكمة والفخر والشكوى وغيرها، وجمع ذلك في ديوان مشهور. كان الشافعي قوامًا صوامًا، متعبدًا ناسكًا يعيش في محراب الحق مسبحًا مناجيًا، يعبد الله بلسانه وقلبه، ويعظ ويبشر وينصح ولا ينفِّر، وقد عبَّر عن الكثير من دعائه وابتهالاته في شعرًا رقيقًا ناصعًا. وصاغ ضراعته واستغفاره نظمًا نورانيًّا لامعًا. ولقد روي عبد الله بن مردان أنه سمع الشافعي يدعو الله قائلاً: "اللهم أمنن علينا بصفاء المعرفة، وهب لنا تصحيح المعاملة فيما بيننا وبينك على السُّنة، وارزقنا صدق التوكل عليك وحسن الظن بك، وأمنن علينا بكل ما يُقرِّبنا إليك مقرونًا بعوافي الدارين، برحمتك يا أرحم الراحمين" فلما فرغ من دعاءه خرج من المسجد فوقف ينظر إلى السماء ثم أنشد: بموقف ذلٍّ دون عزتك العظمى بمخفيِّ سرٍّ لا أحيط به علما بإطراق رأسي، باعترافي بذلتي بمدِّ يدِي أستمطر الجود والرحمي بأسمائك الحسنى التي بعض وصفها لعزتها يستغرق النثر والنظما بعهد قديم من "ألست بربكم" بمن كان مجهولاً فعلمته الأسما أذقنا شراب الأنس يا من إذا سقى محبًّا شرابًا لا يُضام ولا يظمأ ويوروا عن الشافعي أنه كان جالسًا في مدينة الرسول بعد صلاة الصبح فدخل عليه رجل فقال له: إني خائف من ذنوبي أن أقدم على ربي، وليس لي عمل غير التوحيد، فطيَّب الشافعي خاطره، وأذهب خوفه مستشهدًا بقول الله جل وعز. (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) (سورة آل عمران: الآية 135). وقال له: لو أراد الله عقوبتك في جهنم وتخليدك لما ألهمك معرفتك به وتوحيدك له. ثم أنشد : إن كنت تغدو في الذنوب جليدًا وتخاف في يوم المعاد وعيدا فلقد أتاك من المهيمن عفوه وأتاح من نِعَمٍ عليك مزيدا لا تيأسنْ من لطف ربك في الحشا في بطن أمك مضغة ووليدا لو شاء أن تصلى جهنم خالدًا ما كان ألهم قلبك التوحيدا ويبلغ الشافعي قمة الشفافية وهو يستغفر الله تعالى ويناجيه، ويضرع إليه وكان مريضًا مرضه الأخير، دخل عليه تلميذه المازني فوجده ينظر إلى السماء باكيًا مستعبرًا مناجيًا: تعاظم ذنبي فلما قرنتُه بعفوك ربي كان عفوك أعظما ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلَّما وما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزَلْ تجود وتغفر مِنَّة وتكرما فلولاك لم يقدِرْ بإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيَّك أدما فيا ليت شعري هل أصير لجنة أُهَنَّا وإما للسعير فأندمَ فلله در العارف النَّدْب إنه تَسِحُّ لفرط الوجد أجفانه دما يقيم إذا ما الليل جَنَّ ظلامه على نفسه من شدة الخوف مأتما وينهي الشافعي ضراعته الطويلة بتوقع الإحسان من صاحب الإحسان وطلب الغفران من صاحب الغفران سبحانه لقد كان الشافعي رحمه مصدقًا بالله راجيًا لله مراقبًا لله، ولو كان تفرغ للشعر، فإن الأمر الذي لا شك فيه أن موهبته كانت من السخاء بحيث تؤهله لاحتلال مكانة سامية بين صفوة شعراء العربية المرموقين. والواقع أن شعر الشافعي أكبر لا يسع أفكاره العميقة المتزاحمة ويمتلئ شعره بالحكم المختلفة التي تتناول أمورا شتى من حياة الناس كالصحبة والصداقة وأخلاق الناس وتغيرات الزمان وغيرها ويوغل الشافعي في لب القول الحكيم حين يرى الناس غافلين متكاسلين متواكلين مستعبدين مغلوبين على أمرهم فإذا ما خوطبوا ردوا مآسيهم إلى حكم الزمان إن الشافعي يرفض دعواهم تلك، وتبريراتهم لهذه الدعوى المتهافتة المريضة ويقول موبخًا معنفًا: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمانَ بغير جُرْمٍ ولو نطق الزمان إذًا هجا وللشافعي أبيات في الفخر نطاق العلم والبيان والأخلاق، مع مسار واضح تتغلغل الحكمة فيه وإذا كان الشافعي قد تناول جمهرة الناس من عامة وخاصة في شعره ومقطوعاته الحكمية، فإنه مارس مسئولية الكلمة الصادقة والرأي الحر ولم يتبع سبيل الخائفين الذين يحبون الحياة الدنيا ويذرون الآخرة فلم يغفل عن الحكام الذين يظلمون الناس فيبين أن عاقبة هذا الظلم وخيمة وأن هناك سنة كونية لابد من تحققها وهي: "كما تدين تدان" ، كما أن الشافعي عالم فقيه إمام، آمن بالعلم وسيلة وغاية، ورأى فيه السيادة والمروءة. فعلم وتعلم، وسافر وارتحل في سبيل اقتناص المعرفة، وعاش رضي الله عنه يحمل على عاتقه رسالة العلم وأمانة الكلمة، فكان من الطبيعي أني توقف في شعره غير قليل عند العلم والعلماء، وأن يقدم ذلك كله في نطاق من المعاني والمثل والقيم العليا. والشافعي فقيه أجرى حياته على سنَن، وأقامها على شروط، واستوي بها على أحكام، يَسأل ويسأل، ويُحاوِر ويُحاوَر، ويناظر ويناظر، وللحوار آداب، وللمناظرات تقاليد، أهمها الهدوء والتسامح والتواضع، والبعد عن اللجاجة واجتناب المكابرة، ولقد عرف الشافعي بهدوئه في مناظراته، وأدبه في محاوراته، وسعة صدره في مجادلاته، فكسب بذلك قلوبًا وراض نفوسًا وربح أتباعًا وألف أحبابًا واستصلح خصومًا. وأهم ما يؤصل مبادئ الحب والألفة في نفوس الناس صفاء الود، وحسن المصاحبة، وشيوع الصداقة وانتشار المودة. فمن خلال هذه القيم يتكون المجتمع الصالح المترع بالحب النقي من العداوات. ومن ثم فقد عني الشافعي فيما كتب من شعر بهذه القيم، يظهرها ويركز عليها، ويهتم بها ويشير إليها وكان الإمام الشافعي على علمه وفضله وورعه متصفًا بالزهد معروفًا بالقناعة. أما من ناحية كرمه فكان مثل الريح عطاءً وكالبحر جودًا