حينما دخلتُ حجرَته، بعد أن فارَقَتْ روحُه جسدَه إلى بارئها، جلست بجانبه على سريره، والحجرة تخلو إلا منا، أنا وهو، وعيناي تجوبان جسده الميت من أظفاره إلى شعر رأسه، ها هما القدمان اللتان هلكتا من أجلي، وها هما اليدان اللتان ضمتانى وحملتانى وداعبتانى ورفعتانى للسقف وأنزلتانى الأرض برفق حتى يسمع ضحكاتى فينتعش قلبه، هاتان الكتفان اللتان حملتانى كثيرًا، هذا الفم الذي لم يغلق عن الضحك والكلام، أتذكر يوم شكوت لك طفلاً كان يلعب معى وضربني، فنهرتني ولمتني على سلبيتي معه، وكيف لم أضربه أنا أيضًا؟ يومها غضبت منك لأنك لم تحمني ممن يضربني، ويوم تركتني أذهب مع جدي إلى القاهرة ولم تأتِ معنا، دائمًا كنتَ فى العمل. حتى بعد أن كبرت، ألحقتنى بكلية التجارة وتجاهلت رغبتى فى دخول كلية الفنون الجميلة، كنت أبحث عنك دومًا فى كل الرجال حين سافرت وأنا صغير، كنت أريد أن تتشكل شخصيتي وأنت بجواري، سافرت كثيرًا وقت تشكيلي فكريًّا، فنشأ تناقض غريب فى شخصيتي، أحسه كثيرًا، أحيانًا أراني فيك، وأحيانًا أراني في نفسي، كنت أبيض القلب وورثتني هذه الصفة بشكل لا إرادي، شربت فعل الخير وطيبة القلب منك دون أن تعلمني إياها، لكنك تركت فيّ مساحة بيضاء كبيرة يسهل تلويثها، ولا أستطيع التحكم فيها، أتذكر حين زرتنى ذات مرة بالجامعة برفقة صديقك، ووجدتنى وسط زميلاتي، فوسوس لك صديقك أن البنات ستتلفني، فقررت أن تزوجني، وعلى الفور زوجتني؟ كنت تريد فتقرر فتفعل، حتى حينما قررت أن تموت، قررتَ فَمُتّ وأنا بعيد عنك، كم فعلت أشياء بي فى حياتى لم أستطع وقتها الحكم عليها هل هى صواب أم خطأ. الآن، وقد أفرغت ما بداخلى فقد سامحتك يا أبي، أفرغت كل ما بداخلي من حزن فيك، لكني أريدك الآن أن تسامحني، ها نحن معًا فى غرفة واحدة، وقد علم الجميع بموتك، اطمئن، الآن تستطيع أن تومئ بأي إشارة لي أنك سامحتني، صدقني لن أبلغ الواقفين بالخارج أنك مارست فعل الأحياء للحظة، افعلها يا أبي للحظة، قل لي إننى بأمان من غضبك، قل إنك ستكون بخير عند الله، افعل يا أبي، تحرك، حرك عينيك فقط، ابتسم، أرح قلبي يا أبي، ألا يكون الأب حنونًا بابنه إذا قصده لمطلب ما؟ أريدك الآن يا أبي أن تحررنى مما اكتسبته منك، أريدك أن تكتب لى شهادة ميلاد جديدة لنفس الأم، وأب يحيى من جديد للحظة، أريد أن أبكي لفراقك فأستريح، فلتعلن الآن أنى ابنك البار بك. أبي، إخوتي وأعمامي بالخارج يدقون الباب كي نحملك إلى مثواك الأخير، هيا يا أبي، قلها، لن يسمعنا أحد آخر، حررنى منك، أو أدخلني فيك، لن أستريح يا أبي لأني لم أحضر لحظة وفاتك، ولم أشاركك لحظات الوداع الأخيرة للدنيا القذرة، لن أفرح يومًا حتى تعلن لي أني بقلبك الميت، سامحني، انطق بها، لماذا تسكت؟ أيكون السكوت هو علامة الرضا يا أبي؟ أيكون الموت هو رضاك عنى؟ إن كنت تقصد ذلك فقد أرحتنى، فقط الآن سأفتح الباب، سيدخل أخواي وأعمامي، وسيبقى ابني أحمد قابعًا فى ركن البيت، يراقب صديقه وهو محمول على الأعناق خارجًا دون رجعة، وحتى نحضر من مراسم الدفن يكون قد تشكلت له شخصية أخرى، وبعدًا آخر لشخصية صديقه الجديد.