جامعة طنطا تستضيف فاعليات مبادرة بداية جديدة لضمان جودة التعليم    ب«برامج تعليمية وتحية العلم».. بدء العام الدراسي بجامعة أسوان    الرئيس الكازاخي لوفد أزهري: تجمعني علاقات ود وصداقة بالرئيس السيسي    وزير خارجية إسبانيا يوقع في القاهرة "التحالف من أجل التنمية المستدامة 2025-2030" بين بلاده ومصر    استقرار سعر الأرز بالأسواق اليوم    "مياه الفيوم" تنفذ جداريات توعوية ضمن مشروع صحتهم مستقبلهم    مقتل إسرائيلي وإصابة آخر بجروح خطيرة فى إطلاق نار قرب معبر الكرامة    هؤلاء يدعمون إسرائيل.. منظمة العفو الدولية تنشر قائمة "شركاء الإبادة"    تأجيل كلمة المتحدث باسم جيش الاحتلال بسبب هجوم بمسيرة على إيلات    بلافتات "ليسوا يهودا ولا يخدمون اليهود".. تظاهرة ضد نتنياهو فى مانهاتن    طبيب الزمالك يكشف طبيعة إصابة عمر جابر وحسام عبد المجيد    القنوات الناقلة مباشر لمباراة برشلونة ضد نيوكاسل في دوري أبطال أوروبا.. والمعلق    المقاولون العرب يدرس السير الذاتية للمدربين بعد فسخ التعاقد مع مكي    "دخول الإسعاف".. توقف مباراة أسوان ولافيينا بعد سقوط عنيف    الداخلية تكشف حقيقة قيام أحد رجال الشرطة بالاعتداء على المواطنين بكفر الشيخ    تحذير عاجل من الأرصاد.. نشاط رياح واضطراب بالملاحة على هذه الشواطئ    5 معلومات عن الملك بسوسنس رادع الغزاة بعد صهر تحفة ال3000 عام ب180 ألف جنيه    مهرجان الجونة السينمائي يعلن عن تفاصيل الدورة الثالثة من سوق سيني جونة وبرنامج المواهب الناشئة    "هى مين فيهم؟".. شيماء سيف تثير الجدل بصورتها مع إليسا    ما حكم حفظ القرآن في المسجد أثناء الحيض؟.. أمين الفتوى يجيب    ما حكم تبديل سلعة بسلعة؟.. أمين الفتوى يجيب    الصحة: المبادرة الرئاسية صحتك سعادة تواصل تقديم خدماتها المتكاملة في مكافحة الإدمان    نائب رئيس جامعة بنها تفتتح المؤتمر السنوي لقسم الباطنة العامة بكلية الطب    ضبط 280 كيلو لحوم فاسدة بأختام مزوّرة في حملة للطب البيطري بسوهاج    سحب 961 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    تأجيل نظر تجديد حبس "علياء قمرون" بتهمة خدش الحياء العام ل 20 سبتمبر    الكابينة الفردي ب850 جنيهًا.. مواعيد وأسعار قطارات النوم اليوم الخميس    "التعليم العالي": التقديم الإلكتروني المباشر لطلاب مدارس التكنولوجيا التطبيقية للقبول بالجامعات    رغم الحرب والحصار.. فلسطين تطلق رؤيتها نحو المستقبل 2050    «هربانة منهم».. نساء هذه الأبراج الأكثر جنونًا    القنوات الناقلة مباشر مباراة مانشستر سيتي ونابولي في دوري أبطال أوروبا 2025- 2026    ليس صلاح.. كيليان مبابي يتوقع الفائز بجائزة الكرة الذهبية    استمتع بصلواتك مواقيت الصلاة اليوم الخميس 18سبتمبر2025 في المنيا    الإمام الأكبر يكرِّم الطلاب الأوائل في حفظ «الخريدة البهية»    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 18-9-2025 في بني سويف    بكين: لن نسمح باستقلال تايوان والعالم بين السلام والحرب    قطع وضعف المياه عن مناطق بغرب الإسكندرية اليوم ولمدة 6 ساعات    الصحة: تقليص معدل الإنجاب وتحسين الخصائص السكانية في 7 محافظات    إصابة 4 أشخاص إثر انقلاب سيارة في الوادي الجديد    "فلافل" و2 جنيه السبب.. كيف حسمت كيت بلانشيت مشاركتها في "كابوريا"؟    فى حوار له مع باريس ريفيو فلاديمير سوروكين: نغمة الصفحة الأولى مفتتح سيمفونية    «الري»: خرائط لاستهلاك المحاصيل للمياه للوفاء بالتصرفات المائية المطلوبة    هل اقترب موعد زفافها؟.. إيناس الدغيدي وعريسها المنتظر يشعلان مواقع التواصل    سرداب دشنا.. صور جديدة من مكان التنقيب عن الآثار داخل مكتب صحة بقنا    النقل تناشد المواطنين الالتزام بعدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه    مفتى كازاخستان يستقبل وزير الأوقاف على هامش قمة زعماء الأديان    إهانة ونفس ما حدث في لقاء الزمالك.. غزل المحلة يهاجم حكم مباراة المصري    التأمين الصحي الشامل: 495 جهة حاصلة على الاعتماد متعاقدة مع المنظومة حتى أغسطس 2025    مورينيو يرحب بالعودة لتدريب بنفيكا بعد رحيل لاجي    «أنتي بليوشن» تعتزم إنشاء مشروع لمعالجة المخلفات البحرية بإستثمارات 150 مليون دولار    جبران: تحرير 3676 محضرًا خاصًا بتراخيص عمل الأجانب خلال 5 أيام فقط    مصر وروسيا تبحثان سبل التعاون بمجالات التعليم الطبي والسياحة العلاجية    الهلال الأحمر يدفع بأكثر من 80 ألف سلة غذائية للأشقاء الفلسطينيين عبر قافلة «زاد العزة» ال 40    رئيس اتحاد الصناعات: العمالة المصرية المعتمدة تجذب الشركات الأجنبية    ملك إسبانيا: المتحف الكبير أيقونة مصر السياحية والثقافية الجديدة    شديد الحرارة.. حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 18 سبتمبر 2025    الشرع: أمريكا لم تمارس الضغط على سوريا.. والمحادثات مع إسرائيل قد تؤدي لنتائج الأيام المقبلة    سعر الأرز والفول والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الخميس 18 سبتمبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ يكتب للمصريين محذراً من مغبّة الفُرقة الوطنية
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 05 - 2010

أكتب لكم من مهجعى الأخير، من مضجعى الذى أقضّه حالكم الحزين. أكتب لكم من وراء القبر، من خلف حاجز الموت الذى عبرته قبل ثلاث سنوات وبعض السنة. وليس هذا بالزمن الطويل، فأمامى هنا الأبد الأبيد. بل ليس هو بالزمن الطويل قياسا بما قضيته بينكم من سنوات ناهزت الخمس والتسعين. أكتب لكم من وراء القبر، وقد كنت أظن أننى كتبت فى حياتى ما يكفى. كنت أظن أن ثلاثا وثلاثين رواية، ومئات من القصص القصيرة، ناهيك عن أصداء سيرتى الذاتية، وأحلام ما بعد نقاهتى، وحواراتى ومقالاتى وحفنة مسرحياتى كنت أظن أنها تكفى. أنى فعلت ما علىَّ. أنى بلّغت الرسالة، وعدتّ وأزدت، وأنى أشهدت الخلق على ما حرّر قلمى وندّ عن حلقى. كنت أظن أنى مستطيع وقد أدّيت الأمانة ورحلت عن عالمكم أن أغمض جفونى وأستريح. كنت أظن أنى، وقد انتقلت إلى البرّ الغربى من وادى نيلنا العظيم، مستطيع أن أهجع فى سلام، أن أهجر الأضابير والأوراق، والحبر والأقلام. كنت أظن، ولكن ما أكثر ما تخطئ الظنون، ويخيب الحسبان!
لقد صاحبت مصر مصرى ومصركم على امتداد القرن العشرين، وإذ كنت أستعد للمغادرة، رأيتها تدخل القرن الحادى والعشرين. وفى عمرى الذى امتد كما تعلمون من 1911 إلى 2006، شاهدت مصر تعيش تحت الاحتلال البريطانى، وتمر بحربين عالميتين. شاهدتها تعانى الثورات والانقلابات والتقلبات. شاهدتها تتحول من مملكة إلى جمهورية، ومن اقتصاد رأسمالى، شبه إقطاعى، إلى اقتصاد تسيطر عليه الدولة، ومن ديمقراطية، مهما كانت معيبة فيما قبل 1952، إلى حكم الفرد من زمن عبدالناصر وحتى رحلت عنكم. فى حياتى رأيت سكان مصر يزيدون خمس مرات، ورأيت مولد إسرائيل، وعايشت مثلما عايشتم حروبنا الأربعة ضدها، التى زادتنا كل واحدة منها خسرانا فوق خسران، وحلمت مثلما حلمتم أن يأتينا الوفاق معها ب«الحرية والكرامة والسلام»، إلا أنى غادرتكم والواقع يكذب الأحلام.
لم أكن أبدا متشائما. حقا، إن كتاباتى تنضح بإدراك لمأساوية الحياة، وبالحزن على مصير الأفراد، كما قال الكثيرون منكم.
إلا أننى آمنت دوما بحتمية التقدم، وأن ما يخسره الفرد يكسبه فى الختام المجتمع والنوع. لا، لم أكن أبدا متشائما. إلا أنى غادرتكم وفى قلبى خوف عليكم وفى حلقى غصة مما أرى. كنت أخفى ذلك عنكم، فقد كان فيكم ما يكفيكم، وكان ديدنى أن الكاتب يجب أن يزرع الأمل. إلا أنى كنت أطوى ضلوعى على ما أحس، وأكتم عنكم هواجسى، وأحميكم من سواد أفكارى. فى حياتى رأيت مصرنا تتحول تدريجيا عن القيم الليبرالية، شبه العلمانية، التى عشتها فى شبابى الأول وسنوات نضجى، إلى مجتمع متطرف، متعصب، عادت نساؤه إلى الحجاب الذى عاصرتُ خلعهن له فى مطالع القرن. رأيت مجتمعنا يتبنى قيما ترجع إلى عصر ما قبل الرينسانس، قيما تحظر الفكر الحر وتجيز العنف ضد من يجرؤ على مساءلة المُسلّمات. كيف تظنونى شعرت حين تلقيت تلك الطعنة فى عنقى، وقد تجاوزت الثمانين من عمرى؟ لقد أحطمونى بحب ورعاية يفوقان الوصف، ولكن كيف تظنون أنى كنت أشعر كلما استعدت اللحظة وتأملت فى مغزاها فيما وراء شخصى المتواضع؟
دعونى أصارحكم اليوم ببعض ما كنت أخفيه عنكم، رأفة بكم، فى سنواتى الأخيرة. كنت أحس أنى أعيش فى مصر مقطوعة الصلة بتلك التى عشت فيها سنوات تكوينى وكتبت أعمالى المبكرة والمتوسطة. ألم تلاحظوا ولابد أنكم لاحظتم أن كتاباتى فى الثمانينيات والتسعينيات وما بعدها كانت تنبض بحنين موجع للأمكنة والأزمنة والبشر الذين لم يعودوا موجودين؟ ألم تلاحظوا لجوئى المحموم إلى ألاعيب الذاكرة التى هى نعمة ونقمة فى آن؟ ألم تلاحظوا أنى كنت أتوسلّ فى الذاكرة ملاذا من الحاضر الكريه، وأجعل منها مسرحا أشيّد عليه من جديد جمال الأمكنة التى طواها التطوير العمرانى القبيح القائم على المنفعة دون الجمال، وأستعيد فيها الهدوء الذى قضى عليه التكدس البشرى، كما أسترجع صور الشباب، والأوجه الحبيبة التى غابت؟
ربما كنتم تروننى وقتها كاتبا طبقت شهرته الآفاق، وتحلّق حوله التلاميذ والمريدون، إلا أنى دعونى أصارحكم كنت شيخا أعانى الوحدة تحت وطأة السنين، وأعانى غربة من توشك أيامه على الانتهاء، وهو ينظر حوله فيرى كل ما حلم به، وعمل له مع جيله من دون كلال حتى يقرّب من يوم تحققه ينظر فيرى أحلام الحداثة والحرية والتسامح والرخاء هشيما منثورا.
تعلمون أنى مشرب بحبكم. تعلمون أنى مصرى صميم، عاشق لبلده الذى لم أغادره فى حياتى المديدة سوى أيام معدودات، مجبرا غير مختار. تعلمون أنى رجل من أوساطكم، عشت بسيطا ومت بسيطا، رغم ما أُسبغ علىّ من مفاخر وأمجاد، أحرزتها للوطن قبل نفسى، ولم أنلها إلا بالعمل الدؤوب الشاق، والجهد المثابر الصابر.
وأعلم أنكم بادلتمونى حبا بحب، وأعطيتمونى أكثر مما أعطيتكم. وأعلم أنكم حزنتم لفراقى، وجزعتم لغيابى، وعزّ عليكم رحيلى. أعلم هذا كله، كما أعلم أنكم تتذكروننى فى يوم ميلادى، وفى يوم رحيلى، فتعقدون المؤتمرات والندوات، وتكتبون الأعمدة والمقالات، وتبسطون الصحائف للصور والذكريات. أعلم هذا كله، لا يحجبه عن رؤياى ظلام مرقدى، ولا يمنعه عن أذنى سكون وحدتى. وربما كان ينبغى أن أسعد بذلك وأقرّ عينا، فقد طاب ذكرى فى حياتى وبعد مماتى. إلا أنى غير سعيد، وغير راض، وغير مرتاح فى رقدتى، وغير قادر أن أنزع نفسى من عالمكم وألتفت إلى شئون أبدى. مازالت روحى تطوف بينكم غير مستقرة. وكيف تستقر، وأنتم تقتلون بعضكم بعضا؟ كيف تستقر والدماء تخضب أرض نجع حمادى؟ كيف تستقر والفتنة تحوم حولكم، وأنتم لاهون؟ كيف يهدأ لى بال وقد كنت تركتكم ظانا أنه بعد الوصول إلى القاع، ليس ثمة سبيل إلا بدء الصعود من جديد، فإذا بى أرى أن وراء القاع ما هو أبعد منه انحدارا، وأنكم قد اكتشفتم طريق الإيغال فى النزول؟
سامحونى إن قسوت فى اللفظ مخالفا ما عهدتموه منى من الحلم وهدوء الطبع. فأنا كما تعلمون ابن ثورة 19 البارّ. أنا ابن عصر تآخى الهلال والصليب. أنا ابن حزب الوفد القديم الذى كان فى سدته الأقباط إلى جانب المسلمين، والذى كان يرشح فى الانتخابات الأقباط فى دوائر غالبية ناخبيها من المسلمين فيفوزون. أنا ابن «الوحدة الوطنية» حين كانت حقيقة واقعة، لا لفظة يُتشدق بها. أنا مريد سلامة موسى القبطى الذى علّمنى وشجعنى وكان أول من نشر لى كتابا. أنا تلميذ جيل الليبراليين التنويريين العظام الذين مثلى يموتون موتا جديدا اليوم فى لحودهم حسرة على ضياع جهدهم، وما آل إليه بلدهم. سامحونى إن قسوت فى اللفظ، فالموت على ما يبدو يحرر المرء من اعتبارات المجاملة، وتنميق الخطاب. وإنى لأشعر أنكم ما تعلمتم منهم ولا منى شيئا، بل إنكم فى غيكم سادرون، وفى جهلكم تعمهون، وفى غفلتكم ماضون، فى طريق لن يخلف سوى الدم والدموع. أما قرأتم روايتى «العائش فى الحقيقة»؟ أم تراكم قرأتموها وغاب عنكم معناها؟
أوكنت أصرخ فى البريّة؟ أم أحرث فى البحر؟ ألم أقص فيها حكاية تاريخية معروفة موثقة؟ حكاية اخناتون وتعصبه الدينى الذى أودى بملكه وبمجد الإمبراطورية المصرية التى ورثها قوية، مزدهرة فتركها خرابا. أظننتم أنى كنت أسلّيكم بقصة من التاريخ؟ كلا، ما كنت أسليكم، وإنما كنت أريدكم حين كتبتها فى وهج التطرف الدينى فى الثمانينيات أن تتعلموا وتعتبروا من درس التاريخ. فيا ضيعة جهدى!
بل دعونى ألفتكم إلى مؤشر آخر لا شك أنه غاب على فطنتكم مثلما غاب كل شئ. هل سمعتم بمجموعة قصصية لى بعنوان «خمارة القط الأسود» نُشرت فى سنة 1969؟ وهل قرأتم فيها قصة لا تتجاوز الصفحات الثمانية، عنوانها «جنة الأطفال»؟ وإن كنتم قرأتموها، فهل تمليتم فى معناها؟ ما جدوى أن يكتب الكاتبون، ويعظ العارفون، ويعلّم الحكماء، إن كان قولهم لا يقع إلا على آذان صماء، وضمائر مغلقة فى وجه الخير والحق والجمال؟
إنى كاتب ملتزم كما وصفتمونى، مصيبين، فى حياتى، وما كنت أتصور أن أواصل التزامى من غياهب اللحد. إلا أن ما حدث فى نجع حمادى ودلائله الأبعد، أدمانى، وما أراكم تفعلون شيئا، فأسلمت أمرى لله، وقلت لا ضير فى أن أذكّر ببعض ما كتبت فى حياتى، فلم يلتفت إليه أحد، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه.
ولما كانت «آفة الحارة النسيان» وعدم الالتفات إلى معانى الأشياء، فدعونى، وقد غيبنى الموت، أفعل ما لم أفعله يوما فى حياتى. سأنصب من نفسى ناقدا ومفسّرا لقصتى «جنة الأطفال»، ما دامت لم تحظَ منكم سوى بالتجاهل وفوات الدرس.
القصة تتناول موضوع الفصل بين تلاميذ المدارس فى حصص التربية الدينية، وسوف ترون أنى اخترت لها قالبا يغلب عليه حوار يدور بين طفلة صغيرة وبين أبيها، والذى يبدأ على هذا النحو:
«بابا..
نعم؟
أنا وصاحبتى نادية دائما مع بعض..
طبعا يا حبيبتى فهى صاحبتك.
فى الفصل، والفسحة، وساعة الأكل..
شئ لطيف وهى بنت جميلة ومؤدبة.
لكن فى درس الدين أدخل أنا فى حجرة وتدخل هى فى حجرة أخرى..
(...)
هذا فى درس الدين فقط..
لمَ يا بابا؟
لأن لك دين وهى لها دين آخر.
كيف يا بابا؟
أنت مسلمة وهى مسيحية.
لمَ يا بابا؟
أنت صغيرة وسوف تفهمين فيما بعد.
أنا كبيرة يا بابا.
بل صغيرة يا حبيبتى.
لمَ أنا مسلمة؟
(...)
بابا مسلم وماما مسلمة ولذلك فأنت مسلمة.
ونادية؟
باباها مسيحى وأمها مسيحية ولذلك فهى مسيحية.
هل لأن باباها يلبس نظارة؟
كلا، لا دخل للنظارة فى ذلك، ولكن لأن جدها كان مسيحيا كذلك.
وقرر أن يتابع سلسلة الأجداد إلى ما لا نهاية حتى تضجر وتتحول إلى موضوع آخر ولكنها سألت:
من أحسن؟
وتفكّر قليلا ثم قال:
المسلمة حسنة والمسيحية حسنة..
ضرورى واحدة أحسن..
هذه حسنة وتلك حسنة..
هل أعمل مسيحية لنبقى معا دائما؟
كلا يا حبيبتى، هذا غير ممكن، كل واحدة تظل كباباها وماماها.
ولكن لمَ؟
(...)
ألا تنتظرين حتى تكبرى؟
لا يا بابا..
حسن، أنت تعرفين الموضة، واحدة تحب موضة وواحدة تفضل موضة، وكونك مسلمة هو آخر موضة، لذلك يجب أن تبقى مسلمة..
يعنى نادية موضة قديمة؟
الله يقطعك أنت ونادية فى يوم واحد. الظاهر أنه يخطئ رغم الحذر وأنه يُدفع بلا رحمة إلى عنق زجاجة. قال:
المسألة مسألة أذواق ولكن يجب أن تبقى كل واحدة مثل باباها وماماها.
هل أقول لها أنها موضة قديمة وأننى موضة جديدة؟
فبادرها:
كل دين حسن. المسلمة تعبدالله والمسيحية تعبدالله.
ولمَ تعبده هى فى حجرة وأعبده أنا فى حجرة؟
هنا يُعبدبطريقة وهناك يعبد بطريقة.
وما الفرق يا بابا؟
ستعرفينه فى العام القادم أو الذى يليه. كفاية أن تعرفى الآن أن المسلمة تعبدالله والمسيحية تعبدالله».
لعلكم تتفقون معى أن ردود الأب على تساؤلات طفلته كما أصوره تكشف عن روح تسامح عالٍ وحس حضارى فائق يتمثل فى القبول لغيرية الآخرين، ولو كان هكذا يُلقن الأطفال فى كل البيوت والمدارس، ولو كان هكذا الحوار والتفهم ليس فقط بين الكبار والصغار بل بين الكبار والكبار، لكان حال المجتمع عامة وعلاقات الطوائف خاصة غير الحال.
واعذرونى إن بالغت فى التحليل والتلقين، ولكن يهمنى ألا يفوتكم أن أحد العناصر المستترة فى الحوار السابق هو الديمقراطية. فالليبرالية الفكرية للأب هنا يدعمها روح ديمقراطية صادقة تتمثل فى صبره على ابنته وأسئلتها التى تحاصره وتجهده بلا رحمة، فهو لا يحاول أبدا أن ينهرها ويفرض عليها قناعة معينة من طريق الإغلاظ فى القول أو القسر. والمعنى الكامن هنا الذى قصدت إليه، وتمنيت ألا يغيب عنكم، هو أن الديمقراطية السياسية والليبرالية الفكرية صنوان متلازمان فلا يمكن أن يسود مبدأ التسامح والقبول بمغايرة الآخر للذات فى أى مستوى من مستويات الحياة الاجتماعية ما لم يكن هذا كله تحت مظلة الديمقراطية السياسية.
فلنعد إلى القصة. تواصل الصبية أسئلتها المرهقة لأبيها منتقلة إلى موضوع «الله» – طبيعته وكيف خلق الدنيا وأين يعيش الخ. وحين يقول لها أبوها ردا على السؤال الأخير أن «الأرض لا تسعه»، فإن الحوار يعود مرة أخرى إلى الفوارق اللاهوتية بين المسيحية والإسلام، فتقول البنت:
«ولكن نادية قالت لى إنه عاش على الأرض.
لأنه يرى كل مكان فكأنه يعيش فى كل مكان!
وقالت إن الناس قتلوه!
ولكنه حى لا يموت.
نادية قالت إنهم قتلوه..
كلا يا حبيبتى، ظنوا أنهم قتلوه ولكنه حى لا يموت.»
ولتلاحظوا مرة أخرى كيف صوّرتُ دبلوماسية الأب العظيمة وحرصه على البحث عن نقاط التلاقى والتوفيق بين المذهبين وترفُّعه عن لغة الإدانة والتكفير علما بأنه يحاور ابنته فى خصوصية داره وعلى غير مسمع من صديقتها أو غيرها. هذه صورة أب يعى دوره كمربٍ ومواطن وأخ فى البشرية لصاحب كل عقيدة مهما اختلفت عن عقيدته الخاصة. ثم يمضى الحوار بين الطفلة وأبيها متطرقا إلى المزيد من الموضوعات الكبرى مثل الخير والشر والموت، إلى أن أنهيه على هذا النحو:
«وتنهدتْ ثم صمتتْ فشعر بمدى ما حل به من إرهاق. لم يدرك كم أصاب ولا كم أخطأ. وحرك تيار الأسئلة علامات استفهام راسبة فى أعماقه. ولكن الصغيرة ما لبثت أن هتفت:
أريد أن أبقى دائما مع نادية.
فنظر إليها مستطلعا فقالت:
حتى فى درس الدين!»
يا أبناء بلدى! يا من أحببتهم فى حياتى وبعد مماتى! يا من أقضوا مضجعى، وأعادونى مضطرا إلى الورقة والقلم، أصغوا إلىّ قبل فوات الأوان: فليبق المصريون دائما معا «حتى فى درس الدين!»
المخلص
نجيب محفوظ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.