«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رشيد العنانى يكتب :نجيب محفوظ يكتب للمصريين محذراً من مغبّة (الفُرقة الوطنية)
نشر في الشروق الجديد يوم 22 - 02 - 2010


أبناء وطنى:
أكتب لكم من مهجعى الأخير، من مضجعى الذى أقضّه حالكم الحزين. أكتب لكم من وراء القبر، من خلف حاجز الموت الذى عبرته قبل ثلاث سنوات وبعض السنة. وليس هذا بالزمن الطويل، فأمامى هنا الأبد الأبيد. بل ليس هو بالزمن الطويل قياسا بما قضيته بينكم من سنوات ناهزت الخمس والتسعين. أكتب لكم من وراء القبر، وقد كنت أظن أننى كتبت فى حياتى ما يكفى. كنت أظن أن ثلاثا وثلاثين رواية، ومئات من القصص القصيرة، ناهيك عن أصداء سيرتى الذاتية.
وأحلام ما بعد نقاهتى، وحواراتى ومقالاتى وحفنة مسرحياتى كنت أظن أنها تكفى. أنى فعلت ما علىَّ. أنى بلّغت الرسالة، وعدتّ وأزدت، وأنى أشهدت الخلق على ما حرّر قلمى وندّ عن حلقى. كنت أظن أنى مستطيع وقد أدّيت الأمانة ورحلت عن عالمكم أن أغمض جفونى وأستريح. كنت أظن أنى، وقد انتقلت إلى البرّ الغربى من وادى نيلنا العظيم، مستطيع أن أهجع فى سلام، أن أهجر الأضابير والأوراق، والحبر والأقلام. كنت أظن، ولكن ما أكثر ما تخطئ الظنون، ويخيب الحسبان!
لقد صاحبت مصر مصرى ومصركم على امتداد القرن العشرين، وإذ كنت أستعد للمغادرة، رأيتها تدخل القرن الحادى والعشرين. وفى عمرى الذى امتد كما تعلمون من 1911 إلى 2006، شاهدت مصر تعيش تحت الاحتلال البريطانى، وتمر بحربين عالميتين. شاهدتها تعانى الثورات والانقلابات والتقلبات. شاهدتها تتحول من مملكة إلى جمهورية، ومن اقتصاد رأسمالى، شبه إقطاعى، إلى اقتصاد تسيطر عليه الدولة، ومن ديمقراطية، مهما كانت معيبة فيما قبل 1952، إلى حكم الفرد من زمن عبدالناصر وحتى رحلت عنكم.
فى حياتى رأيت سكان مصر يزيدون خمس مرات، ورأيت مولد إسرائيل، وعايشت مثلما عايشتم حروبنا الأربعة ضدها، التى زادتنا كل واحدة منها خسرانا فوق خسران، وحلمت مثلما حلمتم أن يأتينا الوفاق معها ب«الحرية والكرامة والسلام»، إلا أنى غادرتكم والواقع يكذب الأحلام.
لم أكن أبدا متشائما. حقا، إن كتاباتى تنضح بإدراك لمأساوية الحياة، وبالحزن على مصير الأفراد، كما قال الكثيرون منكم. إلا أننى آمنت دوما بحتمية التقدم، وأن ما يخسره الفرد يكسبه فى الختام المجتمع والنوع.
لا، لم أكن أبدا متشائما. إلا أنى غادرتكم وفى قلبى خوف عليكم وفى حلقى غصة مما أرى. كنت أخفى ذلك عنكم، فقد كان فيكم ما يكفيكم، وكان ديدنى أن الكاتب يجب أن يزرع الأمل. إلا أنى كنت أطوى ضلوعى على ما أحس، وأكتم عنكم هواجسى، وأحميكم من سواد أفكارى.
فى حياتى رأيت مصرنا تتحول تدريجيا عن القيم الليبرالية، شبه العلمانية، التى عشتها فى شبابى الأول وسنوات نضجى، إلى مجتمع متطرف، متعصب، عادت نساؤه إلى الحجاب الذى عاصرتُ خلعهن له فى مطالع القرن. رأيت مجتمعنا يتبنى قيما ترجع إلى عصر ما قبل الرينسانس، قيما تحظر الفكر الحر وتجيز العنف ضد من يجرؤ على مساءلة المُسلّمات. كيف تظنونى شعرت حين تلقيت تلك الطعنة فى عنقى، وقد تجاوزت الثمانين من عمرى؟ لقد أحطمونى بحب ورعاية يفوقان الوصف، ولكن كيف تظنون أنى كنت أشعر كلما استعدت اللحظة وتأملت فى مغزاها فيما وراء شخصى المتواضع؟
دعونى أصارحكم اليوم ببعض ما كنت أخفيه عنكم، رأفة بكم، فى سنواتى الأخيرة. كنت أحس أنى أعيش فى مصر مقطوعة الصلة بتلك التى عشت فيها سنوات تكوينى وكتبت أعمالى المبكرة والمتوسطة. ألم تلاحظوا ولابد أنكم لاحظتم أن كتاباتى فى الثمانينيات والتسعينيات وما بعدها كانت تنبض بحنين موجع للأمكنة والأزمنة والبشر الذين لم يعودوا موجودين؟ ألم تلاحظوا لجوئى المحموم إلى ألاعيب الذاكرة التى هى نعمة ونقمة فى آن؟ ألم تلاحظوا أنى كنت أتوسلّ فى الذاكرة ملاذا من الحاضر الكريه، وأجعل منها مسرحا أشيّد عليه من جديد جمال الأمكنة التى طواها التطوير العمرانى القبيح القائم على المنفعة دون الجمال، وأستعيد فيها الهدوء الذى قضى عليه التكدس البشرى، كما أسترجع صور الشباب، والأوجه الحبيبة التى غابت؟
ربما كنتم تروننى وقتها كاتبا طبقت شهرته الآفاق، وتحلّق حوله التلاميذ والمريدون، إلا أنى دعونى أصارحكم كنت شيخا أعانى الوحدة تحت وطأة السنين، وأعانى غربة من توشك أيامه على الانتهاء، وهو ينظر حوله فيرى كل ما حلم به، وعمل له مع جيله من دون كلال حتى يقرّب من يوم تحققه ينظر فيرى أحلام الحداثة والحرية والتسامح والرخاء هشيما منثورا.
تعلمون أنى مشرب بحبكم. تعلمون أنى مصرى صميم، عاشق لبلده الذى لم أغادره فى حياتى المديدة سوى أيام معدودات، مجبرا غير مختار. تعلمون أنى رجل من أوساطكم، عشت بسيطا ومت بسيطا، رغم ما أُسبغ علىّ من مفاخر وأمجاد، أحرزتها للوطن قبل نفسى، ولم أنلها إلا بالعمل الدؤوب الشاق، والجهد المثابر الصابر.
وأعلم أنكم بادلتمونى حبا بحب، وأعطيتمونى أكثر مما أعطيتكم. وأعلم أنكم حزنتم لفراقى، وجزعتم لغيابى، وعزّ عليكم رحيلى. أعلم هذا كله، كما أعلم أنكم تتذكروننى فى يوم ميلادى، وفى يوم رحيلى، فتعقدون المؤتمرات والندوات، وتكتبون الأعمدة والمقالات، وتبسطون الصحائف للصور والذكريات. أعلم هذا كله، لا يحجبه عن رؤياى ظلام مرقدى، ولا يمنعه عن أذنى سكون وحدتى. وربما كان ينبغى أن أسعد بذلك وأقرّ عينا، فقد طاب ذكرى فى حياتى وبعد مماتى. إلا أنى غير سعيد، وغير راض، وغير مرتاح فى رقدتى، وغير قادر أن أنزع نفسى من عالمكم وألتفت إلى شئون أبدى. مازالت روحى تطوف بينكم غير مستقرة. وكيف تستقر، وأنتم تقتلون بعضكم بعضا؟ كيف تستقر والدماء تخضب أرض نجع حمادى؟ كيف تستقر والفتنة تحوم حولكم، وأنتم لاهون؟ كيف يهدأ لى بال وقد كنت تركتكم ظانا أنه بعد الوصول إلى القاع، ليس ثمة سبيل إلا بدء الصعود من جديد، فإذا بى أرى أن وراء القاع ما هو أبعد منه انحدارا، وأنكم قد اكتشفتم طريق الإيغال فى النزول؟
سامحونى إن قسوت فى اللفظ مخالفا ما عهدتموه منى من الحلم وهدوء الطبع. فأنا كما تعلمون ابن ثورة 19 البارّ. أنا ابن عصر تآخى الهلال والصليب. أنا ابن حزب الوفد القديم الذى كان فى سدته الأقباط إلى جانب المسلمين، والذى كان يرشح فى الانتخابات الأقباط فى دوائر غالبية ناخبيها من المسلمين فيفوزون.
أنا ابن «الوحدة الوطنية» حين كانت حقيقة واقعة، لا لفظة يُتشدق بها. أنا مريد سلامة موسى القبطى الذى علّمنى وشجعنى وكان أول من نشر لى كتابا. أنا تلميذ جيل الليبراليين التنويريين العظام الذين مثلى يموتون موتا جديدا اليوم فى لحودهم حسرة على ضياع جهدهم، وما آل إليه بلدهم. سامحونى إن قسوت فى اللفظ، فالموت على ما يبدو يحرر المرء من اعتبارات المجاملة، وتنميق الخطاب.
وإنى لأشعر أنكم ما تعلمتم منهم ولا منى شيئا، بل إنكم فى غيكم سادرون، وفى جهلكم تعمهون، وفى غفلتكم ماضون، فى طريق لن يخلف سوى الدم والدموع. أما قرأتم روايتى «العائش فى الحقيقة»؟ أم تراكم قرأتموها وغاب عنكم معناها؟ أوكنت أصرخ فى البريّة؟ أم أحرث فى البحر؟ ألم أقص فيها حكاية تاريخية معروفة موثقة؟ حكاية اخناتون وتعصبه الدينى الذى أودى بملكه وبمجد الإمبراطورية المصرية التى ورثها قوية، مزدهرة فتركها خرابا.
أظننتم أنى كنت أسلّيكم بقصة من التاريخ؟ كلا، ما كنت أسليكم، وإنما كنت أريدكم حين كتبتها فى وهج التطرف الدينى فى الثمانينيات أن تتعلموا وتعتبروا من درس التاريخ. فيا ضيعة جهدى!
بل دعونى ألفتكم إلى مؤشر آخر لا شك أنه غاب على فطنتكم مثلما غاب كل شئ. هل سمعتم بمجموعة قصصية لى بعنوان «خمارة القط الأسود» نُشرت فى سنة 1969؟ وهل قرأتم فيها قصة لا تتجاوز الصفحات الثمانية، عنوانها «جنة الأطفال»؟ وإن كنتم قرأتموها، فهل تمليتم فى معناها؟ ما جدوى أن يكتب الكاتبون، ويعظ العارفون، ويعلّم الحكماء، إن كان قولهم لا يقع إلا على آذان صماء، وضمائر مغلقة فى وجه الخير والحق والجمال؟
إنى كاتب ملتزم كما وصفتمونى، مصيبين، فى حياتى، وما كنت أتصور أن أواصل التزامى من غياهب اللحد. إلا أن ما حدث فى نجع حمادى ودلائله الأبعد، أدمانى، وما أراكم تفعلون شيئا، فأسلمت أمرى لله، وقلت لا ضير فى أن أذكّر ببعض ما كتبت فى حياتى، فلم يلتفت إليه أحد، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه.
ولما كانت «آفة الحارة النسيان» وعدم الالتفات إلى معانى الأشياء، فدعونى، وقد غيبنى الموت، أفعل ما لم أفعله يوما فى حياتى. سأنصب من نفسى ناقدا ومفسّرا لقصتى «جنة الأطفال»، ما دامت لم تحظَ منكم سوى بالتجاهل وفوات الدرس.
القصة تتناول موضوع الفصل بين تلاميذ المدارس فى حصص التربية الدينية، وسوف ترون أنى اخترت لها قالبا يغلب عليه حوار يدور بين طفلة صغيرة وبين أبيها، والذى يبدأ على هذا النحو:
«بابا..
نعم؟
أنا وصاحبتى نادية دائما مع بعض..
طبعا يا حبيبتى فهى صاحبتك.
فى الفصل، والفسحة، وساعة الأكل..
شئ لطيف وهى بنت جميلة ومؤدبة.
لكن فى درس الدين أدخل أنا فى حجرة وتدخل هى فى حجرة أخرى..
(...)
هذا فى درس الدين فقط..
لمَ يا بابا؟
لأن لك دين وهى لها دين آخر.
كيف يا بابا؟
أنت مسلمة وهى مسيحية.
لمَ يا بابا؟
أنت صغيرة وسوف تفهمين فيما بعد.
أنا كبيرة يا بابا.
بل صغيرة يا حبيبتى.
لمَ أنا مسلمة؟
(...)
بابا مسلم وماما مسلمة ولذلك فأنت مسلمة.
ونادية؟
باباها مسيحى وأمها مسيحية ولذلك فهى مسيحية.
هل لأن باباها يلبس نظارة؟
كلا، لا دخل للنظارة فى ذلك، ولكن لأن جدها كان مسيحيا كذلك.
وقرر أن يتابع سلسلة الأجداد إلى ما لا نهاية حتى تضجر وتتحول إلى موضوع آخر ولكنها سألت:
من أحسن؟
وتفكّر قليلا ثم قال:
المسلمة حسنة والمسيحية حسنة..
ضرورى واحدة أحسن..
هذه حسنة وتلك حسنة..
هل أعمل مسيحية لنبقى معا دائما؟
كلا يا حبيبتى، هذا غير ممكن، كل واحدة تظل كباباها وماماها.
ولكن لمَ؟
(...)
ألا تنتظرين حتى تكبرى؟
لا يا بابا..
حسن، أنت تعرفين الموضة، واحدة تحب موضة وواحدة تفضل موضة، وكونك مسلمة هو آخر موضة، لذلك يجب أن تبقى مسلمة..
يعنى نادية موضة قديمة؟
الله يقطعك أنت ونادية فى يوم واحد. الظاهر أنه يخطئ رغم الحذر وأنه يُدفع بلا رحمة إلى عنق زجاجة. قال:
المسألة مسألة أذواق ولكن يجب أن تبقى كل واحدة مثل باباها وماماها.
هل أقول لها أنها موضة قديمة وأننى موضة جديدة؟
فبادرها:
كل دين حسن. المسلمة تعبدالله والمسيحية تعبدالله.
ولمَ تعبده هى فى حجرة وأعبده أنا فى حجرة؟
هنا يُعبدبطريقة وهناك يعبد بطريقة.
وما الفرق يا بابا؟
ستعرفينه فى العام القادم أو الذى يليه. كفاية أن تعرفى الآن أن المسلمة تعبدالله والمسيحية تعبدالله».
لعلكم تتفقون معى أن ردود الأب على تساؤلات طفلته كما أصوره تكشف عن روح تسامح عالٍ وحس حضارى فائق يتمثل فى القبول لغيرية الآخرين، ولو كان هكذا يُلقن الأطفال فى كل البيوت والمدارس، ولو كان هكذا الحوار والتفهم ليس فقط بين الكبار والصغار بل بين الكبار والكبار، لكان حال المجتمع عامة وعلاقات الطوائف خاصة غير الحال. واعذرونى إن بالغت فى التحليل والتلقين، ولكن يهمنى ألا يفوتكم أن أحد العناصر المستترة فى الحوار السابق هو الديمقراطية.
فالليبرالية الفكرية للأب هنا يدعمها روح ديمقراطية صادقة تتمثل فى صبره على ابنته وأسئلتها التى تحاصره وتجهده بلا رحمة، فهو لا يحاول أبدا أن ينهرها ويفرض عليها قناعة معينة من طريق الإغلاظ فى القول أو القسر. والمعنى الكامن هنا الذى قصدت إليه، وتمنيت ألا يغيب عنكم، هو أن الديمقراطية السياسية والليبرالية الفكرية صنوان متلازمان فلا يمكن أن يسود مبدأ التسامح والقبول بمغايرة الآخر للذات فى أى مستوى من مستويات الحياة الاجتماعية ما لم يكن هذا كله تحت مظلة الديمقراطية السياسية.
فلنعد إلى القصة. تواصل الصبية أسئلتها المرهقة لأبيها منتقلة إلى موضوع «الله» – طبيعته وكيف خلق الدنيا وأين يعيش الخ. وحين يقول لها أبوها ردا على السؤال الأخير أن «الأرض لا تسعه»، فإن الحوار يعود مرة أخرى إلى الفوارق اللاهوتية بين المسيحية والإسلام، فتقول البنت:
«ولكن نادية قالت لى إنه عاش على الأرض.
لأنه يرى كل مكان فكأنه يعيش فى كل مكان!
وقالت إن الناس قتلوه!
ولكنه حى لا يموت.
نادية قالت إنهم قتلوه..
كلا يا حبيبتى، ظنوا أنهم قتلوه ولكنه حى لا يموت.»
ولتلاحظوا مرة أخرى كيف صوّرتُ دبلوماسية الأب العظيمة وحرصه على البحث عن نقاط التلاقى والتوفيق بين المذهبين وترفُّعه عن لغة الإدانة والتكفير علما بأنه يحاور ابنته فى خصوصية داره وعلى غير مسمع من صديقتها أو غيرها. هذه صورة أب يعى دوره كمربٍ ومواطن وأخ فى البشرية لصاحب كل عقيدة مهما اختلفت عن عقيدته الخاصة.
ثم يمضى الحوار بين الطفلة وأبيها متطرقا إلى المزيد من الموضوعات الكبرى مثل الخير والشر والموت، إلى أن أنهيه على هذا النحو:
«وتنهدتْ ثم صمتتْ فشعر بمدى ما حل به من إرهاق. لم يدرك كم أصاب ولا كم أخطأ. وحرك تيار الأسئلة علامات استفهام راسبة فى أعماقه. ولكن الصغيرة ما لبثت أن هتفت:
أريد أن أبقى دائما مع نادية.
فنظر إليها مستطلعا فقالت:
حتى فى درس الدين!»
يا أبناء بلدى! يا من أحببتهم فى حياتى وبعد مماتى! يا من أقضوا مضجعى، وأعادونى مضطرا إلى الورقة والقلم، أصغوا إلىّ قبل فوات الأوان: فليبق المصريون دائما معا «حتى فى درس الدين!»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.