كان الموتُ ينتظرهُ عند شباكِ حجرتهِ الصغيرةِ، كلما دخلتُ عليه الحجرةَ المظلمةَ، أجدهُ نائمًا على ظهرهِ فى وضعٍ مستقيمٍ، ترتكزُ يدهُ اليمنى على كوعِهِ ليصنعَ ساعدهُ مع جسمهِ زاويةً قائمةً، ويشيرُ بالسبابةِ إلى السقفِ في وضع ثابت، كنتُ أتساءلُ وأنا فى الرابعةِ من عمري، لماذا هذا الوضع الذي يستقر عليه جدي منذ أيام؟ قررت هذا اليوم أنا أقترب منه بعد أن خرجَتْ من عنده جدتي وأمي، اقتربت من السرير، أصواتٌ غير مفهومة تصدرُ من فم جدي، لكني لا أستطيع تفسيرها، قررتُ أن أفهمها، فاقتربتُ من السرير أكثر، لم أستطع فك رموز همهماته، فقررتُ أن أمتطى السرير بجانبه، وراقبتُ عينيه الناظرتين للسقفِ، كيف لا ينظر إليَّ جدي وهو يحبنّي؟ كيف لا يداعبني؟ اقتربت من شفتيه، أكاد أفسر، هو يقول كلمتين متقطعتين، سأتابعُ تكرارهما حتى أعرفهما، نَعَم: (الموت)، الكلمة الأولى، والثانية سأتابعها مرة أخرى فهو يخطفها سريعًا، حقّ، نعم الكلمة الثانية (حقّ) ، جدى يقول (الموتُ حقّ) ، بسرعة قفزت من السرير وأغلقت الباب خلفي، وتركت حجرة جدي بصمتها وظلامها وهمهماته التى فهمتها الآن، خرجت وكأنني نجحت فى الامتحان، عرفت ما يقوله جدي، لكنى لا أفهمه، وليس بالضرورة أن أفهمه، فجّدتى وأمى كانتا بجواره وبالطبع سمعتاها، وخرجتا، ربما سيخرج جدى بعد قليل ونذهب معًا إلى الحقل كما كنا نفعل أنا وهو كل يوم، فقررت أن أخرج لألعب فى الشارع قليلاً حتى يخرج جدي.. وبعد قليل من اللعب سمعتُ صراخًا ونحيبًا يأتيان من بيتنا، جريتُ ووقفت خارج الباب لأجد أمى وجدّتى تبكيان بشده وبعض نساءٍ متشحاتٍ بالسواد، فهمتُ من الأصوات أن جدّى قد مات، لكن كل ما شغلنى أنه كيف يموتُ وهو نائم فى هدوءٍ يكررُ بشفتيهِ (الموتُ حقّ)؟ نفسُ الغرفةِ، ونفس السرير، وزوجتى ورضوى يحيطان بي من الجانبين، وابن فدوى يقفز من الأرض كى يرى جدّه، عيناي تدوران فى الغرفة وتخرجُان من الشباك لتعود إلى وجهىّ زوجتى ورضوى، وجهان صامتان جامدان، وابن فدوى يقفز، فأرى شعر رأسه يرتفع وينخفض، وصوتٌ فى آخر الحجرةِ لكاسيت يذيعُ القرآن الكريم، أحاولُ أن أرفعُ يدي لتصنع زاوية قائمة مع جسمى، لم أستطعْ، حتى السبابة لا أستطيعُ حراكها، ماذا كان يقول جدّى؟ أكادُ لا أتذكر، لكنى أتذكر صراخ أمّى ونحيب جدّتي، عيناىَ تدمعان وكأنهما لم تدمعَا من قبل، كيف أخفىْ خوفى؟ كيف أنجو منه؟ لا، لا أريدُ أن أموت، مازلتُ صغيرًا، فهناك من يموتون فوق السبعين، لِمَ لا أكون مثلهم؟ كان جدّى مستقرّ الوجه، ثابتُ الملامحِ، وكأنّه ينتظرُ صديقه الذى وعدَهُ بزيارةٍ فى هذا الوقت، كيف أكون ثابتًا مثله، كيف أثبّتُ بصرى إلى السقفِ بلا عودة إلى الشباك ومن معى؟ لا، لا لن أموتَ الآن. تمر الدقائق ثقيلة، يزداد وجوم من حولي، وتزداد قفزات ابن فدوى كي يرى جده، تتثاقل عيناىَ شيئًا فشيئًا، تتباطأ دقاتُ قلبي شيئًا فشيئًا، أرى زوجتي وأمي ينسحبان ببطءٍ إلى خارج الحجرة، ويظل ابن فدوى يقفزُ، ويقفزُ..