ما علاقة الثورات بتدني مستوى الأخلاق وانهيار القيم والأعراف؟ هل أصبح الناس مجبرين على تقبل البذاءات طالما أن فاعلها وقارئها ومرتكبها يحمل راية النضال والكفاح والثورة؟ عدنا مجدداً للبحث في مدى سلامة مقولة «الغاية تبرر الوسيلة» التي أطلقها الفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيلي في كتابه الشهير «الأمير» عندما برر القسوة والوحشية في صراع الحكام على السلطة. هل أصبح لزاماً علينا التنقيب عن تلك الغاية ونزاهة الوسيلة! يحتاج الأمر إلى طبيب نفسي أو عالم في السلوكيات وليس كاتباً أو صحافياً أو محللاً سياسياً أو عالماً دينياً لتفسير المغزى من وراء خطط «الإخوان» في اصطياد الصحافيين والإعلاميين والسياسيين المحسوبين على الرئيس عبدالفتاح السيسي، أو حتى هؤلاء المعارضين له ممن لم يساندوا الجماعة أو تخلوا عنها، والاعتداء عليهم لفظياً وبدنياً أثناء وجودهم خارج مصر لأي سبب، بل وتصوير جريمة الاعتداء وبثها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الموالية للتنظيم، يطلق «الإخوان» عادة على كل مقطع يصور كيف وقع الاعتداء على ذلك الصحافي أو تلك الإعلامية «جلاشة مؤيدي السيسي» وهو تعبير مصري يعني الاستهزاء بشخص كما يقلب الحلواني قطعة الجلاش في صينية الحلوى! دعك من التشبيه السوقي وكذلك الألفاظ الخارجة والبذيئة التي يستخدمها المعتدون على كل صيد اقتنصوه، فالهدف من التصرف معروف وهو «حرق» كل شخص ساند السيسي، أو تخلى عن الجماعة ولم يتبن قضيتها وإرهابها والضغط عليه ليغير موقفه، أو ليحسب ألف حساب قبل أن يظهر على الشاشات أو يمسك بالقلم ويسطر مقالاً أو تقريراً ينتقد فيه الجماعة أو يدين تصرفاتها أو يبدي غضباً تجاه عنف عناصرها، لكن المعنى الأكثر بروزاً أن الجماعة فقدت الأمل في تعاطف الشعب المصري معها مجدداً، إذ من المؤكد أن الشعب لن ينتخب أو يثور من أجل أصحاب الشتائم والعبارات البذيئة! ولم يعد الإخوان يعولون على الناس كظهير قد يحملها في المستقبل إلى مقاعد الحكم. وقع الأديب علاء الأسواني ضحية للجلاشة أثناء وجوده في العاصمة الفرنسية بعد 30 حزيران (يونيو) 2013 وبعده السياسية العريقة الدكتورة منى مكرم عبيد أثناء زيارة لألمانيا، ثم عصفت «الجلاشة» بعشرات الإعلاميين الصحافيين المصريين! عموماً ليس ذلك خطأ الإخوان الأول ولن يكون الأخير، وهنا لا تسأل عن صدور تلك الألفاظ النابية والتصرفات البذيئة عن أشخاص ينسبون أنفسهم إلى الإسلام أو ينتمون إلى جماعة ترفع راية الدين طالما أن التنظيم نفسه حلل لأعضائه الخروج عن الأخلاق والأعراف والأدب، لكن بالطبع يمكن أن تسأل عن سلامة العقل الذي يصدق أن «الجلاشة» يمكن أن تعيد مرسي إلى المقعد الرئاسي أو الإخوان إلى السلطة. القصة الأهم تتعلق بموقف النشطاء من غير الإخوان أصحاب الأصوات العالية والحادة ممن لا يعجبهم شيء يحدث في مصر من «جلاشة» الإخوان. الناشطون المعارضون للإخوان والسيسي في آن، المطالبون دائما بالحرية رافعو شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان هؤلاء الذين أبدوا سعادة بضرب الإعلاميين ممن رافقوا السيسي في رحلته الأخيرة إلى نيويورك. أصحابنا الثورجية الغاضبون من حكم السيسي والكارهون للإعلام المحسوب على الدولة، حتى لو كان يبث عبر قنوات خاصة، نسوا أن موقفهم الأخلاقي أن يكونوا ضد إهانة البشر مهما كانوا، وعبروا عن سعادتهم علانية بضرب الإخوان للإعلاميين وخالفوا ما يدعون من قناعتهم السياسية باحترام حقوق الإنسان بدافع غضبهم وعرضوا بمواقفهم شكل المجتمع الذي يريدون، وصار لا فرق بينهم وبين الإخوان من جهة أو حتى الإعلاميين أنفسهم الذين يعتبرونهم يخالفون المواثيق والمعايير المهنية والأخلاقية! إنها إفرازات الربيع العربي الذي جعل بعضهم ينادي بالحرية ويطلب التضييق على معارضيه ويرفع راية الإسلام ويرتكب كل ما يخالف الدين، ويبكي من أجل حقوق الإنسان ويدمر حياة كل شخص يخالفه الرأي أو الموقف أو العقيدة، يستنكر تجاوزات مسؤولي الدولة ويسعد إذا ما جاء التجاوز ضد مخالفيه، يملأ الدنيا صياحاً وسخرية من تطبيل الإعلام للحكم ثم يرقص على إيقاع «جلاشة» الإخوان! نقلا عن صحيفة الحياة