كلما أطلنا النظر في أحوال النخب المصرية السياسية والثقافية والفكرية وحتى نخبة رجال المال والأعمال، ترسخ في أذهاننا أن أغلب أعضاء هذه النخب قد تخرجوا في " معهد مكيافيللي العالي للدراسات السياسية اللا أخلاقية".وإذا افترضنا أن له معهداً بهذا الاسم فعلاً!، فهل هذا صحيح؟ومتى عرفت هذه النخب المصرية "الحديثة" مكيافيللي فعلاً؟ وهل قرأت كتابه "الأمير" ذائع الصيت المليء بالنصائح التي لا تقيم وزناً للمبادئ الدينية أو الأخلاق والفضائل الإنسانية؟. أثار هذهالتساؤلات في ذهني مقالٌ كتبه أحد محترفي السلوك المكيافيللي في الساحة الإعلامية المصرية خلال السنوات التى أعقبت ثورة يناير سنة 2011، وكان عنوان مقاله "كلنا مكيافيللي"، وهو وصف دقيق لحاله ولحال أمثاله ممن ينتسبون إلى النخبة السياسية والإعلامية المصرية في تقلباتها البهلوانية منذ قيام ثورة يناير على الأقل. صحيح أن هذا الوصف ليس غريباً؛ ولكنه سيكون مفزعاً لكثيرين من ذوي النوايا الطيبة والأخلاق الحسنة الذين يشكلون السواد الأعظم من المصريين؛ عندما يعلمون أن المكيافيللية سلوك مرادف للرذائل ومضاد للفضائل. سيكون مفزعاً للسواد الأعظم من المصريين الذين رأوا كيف تصبح فضيلة الصلح والمصالحة بين أبناء الوطن أمراً مرفوضاً، وكيف تصبح رذيلة الاحتراب والعداوة أمراً مقبولاً!. وكيف يصبح انقطاع التيار الكهربائي رذيلة في وقت وفضيلة في وقت آخر؟ وكيف يمسي أحد الساسة أو الإعلاميين أو المثقفين ثورياً ويصبح انقلابياً؛ دون أن يطرف لأي منهم جفن، أو تظهر علي وجه أحدهم حمرة الخجل. بحثتُ في هذا الموضوع بحثاً تاريخياً وثقافياً وسياسياً، وتوصلت إلى أن المكيافيلليين في تصرفاتهم وسلوكياتهم ومواقفهم من أعضاء تلك النخب المصرية في أغلبهم لم يقرأوا مكيافيللي، ولا حتى غيره من فلاسفة السياسة ودهاقنتها، بل ربما لم يسمع بعضهم اسم مكيافيللي من قبل ، وربما لم يقرأوا في حياتهم سوى كتب المقررات الدراسية، ومع هذا هم بارعون في السلوك المكيافيللي. ووجدت أن السبب بسيط غاية البساطة وهو أن أحدهم يكفيه أن يترك لنفسه عنان الغرائز البهيمية، وأن يتجرد من "إنسانيته" حتى يكون بارعاً في المكيافيللية وسيداً لمكيافيللي نفسه، حتى وإن تدثر برداء الوطنية والمصلحة العامة والدفاع عن "الدولة"؛ وكلها منه براء. المكيافيللية أمر مفزع ومشين، فما أن يُذكر اسم "مكيافيللي" حتى تتداعي إلى الذهن كل معاني الخسة والنذالة وسوء الأخلاق التي عرفها البشر على مر الزمن. بغض النظر عما إذا كانت هذه الصورة المرسومة عنه فيها قدر كبير من المبالغة إلى حد الإفراط في شيطنته أم لا؟. ومن فرط شهرة الرجل في معاداة الأخلاق الحميدة فإن الناس جيلاً بعد جيل باتوا يلصقون به أي مساوئ أو شرور استحدثها رجال السياسة وسدنة السلطة بل والبشر عامة أينما وجدوا في مختلف بقاع العالم. ولد مكيافيللي في سنة 1469م 874ه في أسرة دأبت على معارضة السلطة الملكية الحاكمة في فلورنسا الإيطالية. وقد بدأ نشاطه السياسي في عام 1498م 904 ه ؛ وحظى بقدر لا بأس به من الشهرة في عصره باعتباره كاتبًا للمسرحيات والقصائد الشعرية الماجنة.وقد عمل سياسياً في المدينة-الدولة المستقلة لفلورنسا. وتولى بعض المهام الدبلوماسية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا أيضاً. وخلال رحلاته، التقى بعدد كبير من المسؤولين وكبار رجال الدولة مثل بابا الفاتيكان وملك فرنسا. وبعد سنوات طويلة قضاها في الخدمة العامة، أقاله أمير فلورنس من وظيفته بعد أن انهارت الجمهورية، وكان السبب الرئيسي في إقالته هو اعتباره جزءاً من النظام القديم. وقد فشل "مكيافيللي" في استمالة النظام الجديد لأسرة ميدتشي وانتقل إلى دراسة العملية السياسية بدلاً من الانخراط فيها. والملفت للنظر هو أن الكتب التي اشتهر بها قد نشرت بعد وفاته. أما كتابه "الأمير"، وهو أشهر إسهاماته وأكثرها تأثيراً في الثقافة السياسية الحديثة، فقد كتبه في عام 1513م 919 ه ، رغبةً منه في التقرب إلى أسرة الميدتشي الحاكمة. وقد عول فيه كثيراً على شخص الحاكم ومهاراته وقدراته الذاتية التي تمكنه من الإبقاء على الدولة ونجاحها. وينظر كثيرون من علماء السياسة وفلاسفتها إلى كتابات مكيافيللي على أنها بداية الفلسفة السياسية الحديثة ضمن نسق النهضة الأوربية. فهو قد انطلق في فلسفته السياسية من الطبيعة البشرية كما هي في الواقع، وكما يصنعها الناس ويرونها في التاريخ الفعلي للمجتمعات، وليس كما ينبغي أن تكون، كما فعل فلاسفة السياسة منذ أرسطو. خرج مكيافيللي عن كل تقاليد الكتابة السياسية منذ عصر اليونان إلى العصور الوسطى الأوربية. وافتتح نمطاً غير مسبوق في الفكر السياسي وفي الفلسفة السياسية لا مكان فيه "للإنسان" باعتباره إنساناً. وهذه هي الضربة القاصمة التي وجهها مكيافيللي لمنظومة الفضائل التي اكتسبتها الإنسانية من التعاليم الدينية والمذاهب الفلسفية على مر التاريخ. وكلما رجعنا لكتابات ميكيافيلي، نكاد لا نجد فيهاإطلاقا مفاهيم تتحدث عن "النفس الإنسانية"، ناهيك عن العالم الآخر أو الجنة أو جهنم وما شابه ذلك من مفاهيم شكلت العمود الفقري في الكتابة السياسية قبل مكيافيللي. وعلي يديه لقيت فلسفة آرسطو السياسية حتفها لأنها "تنظر للبشر كما ينبغي أن يكونوا وليس كما هم". وقد اختار مكيافيللي أن ينظر إليهم كما هم. يقول ميكيافيلي في الفصل 15 من كتابه "خطابات مع ليفي": « يبدو لي من الملائم أن أذهب إلى الحقيقة الواقعية بدل تخيلها، لأن كثيرين تخيلوا جمهوريات وإمارات لم يروها، إن هناك فرقا كبيرا بين كيف يعيش المرء وكيف ينبغي أن يعيش، حتى إن الذي يرفض ما يفعله الناس بالفعل مفضلا عنه ما ينبغي أن يفعلوه يسعى إلى حتفه بدلا من بقائه". وفي مقدمة كتاب "الأميرنجده يصرح بمذهبه الجديد في الكتابة السياسية، وقد وجه كلامه إلى "لورنزو دي ميتشي"، يقول : "في عالم الخرائط الطبيعية يضع الجغرافي نفسه في السهول الواطئة ليرصد معالم الجبال والمرتفعات، ويضع نفسه على الجبال والمرتفعات ليرى السهول، وبالمثل فإن عالم السياسة يجب أن يضع نفسه في الطبقات الشعبية ليفهم طبيعة الحكام، ومع الطبقة الحاكمة ليفهم طبيعة الشعب". يتجلى وجه الجدة ، والخسة في الوقت نفسه، في الفلسفة السياسية لمكيافيللي، في أنه لم يتردد في إراحة الساسة والحكام من وخز الضمير عندما كانوا يمارسون "سياسة غير فاضلة". قال لهم ببساطة إن الصراع هو جوهر السياسة، وهو أصل ثابت في طبيعتها ، ومن ثم فمن الطبيعي أن يلجأ المتصارعون لكل الوسائل لتحقيق النصر على خصومهم، ولا عيب في ذلك أبداً مهما كانت الوسائل دنئية ، طالماً أن التاريخ لا يذكر إلى الأهداف الكبرى والنجاحات، ولا يتوقف عند الوسائل كيف كانت أبداً. وإذا كان كتاب "الأمير" سيء السمعة إلا أنه بات من أكثر الكتب تأثيراً في التاريخ السياسي للبشرية، فقد قرأه فلاسفة الأنوار من بعد مكيافيللي. وقرأه حكام كبار من طراز "نابليون بونابارت" ، وتأثر به فريدريك الثاني ملك بروسيا، وبسمارك مستشارها العظيم. وقرأه بعض عتاة الطغاة من أمثال موسوليني الذي كتب عنه أطروحته التي قدمها للدكتوراه. كما قرأه الزعيم النازي هتلر، وقد روى في كتابه "كفاحي" إنه كان يضع "الأمير لمكيافيللي" على مقربة من سريره ليقرأ منه كل ليلة قبل أن ينام. وتتلمذ عليه كل من لينين وستالين. وقرأه بعض الزعماء العرب؛ ممن لديهم بعض الوقت للقراءة. أما قصة دخول كتاب "الأمير" لمكيافيللي لأول مرة إلى مصر فحكاية تستحق الرواية . فوقائع التاريخ التاريخ الخاصة بانتشار فلسفة مكيافيللي وأفكاره وكتاباته السياسية تقول أن المصريين عرفوا كتابه "الأمير" لأول مرة في عهد محمد علي باشا، أما قبل ذلك فلم يكن لهم به علم ولا معرفة. وكي لا يساء الظن بمحمد علي باشا أبادر فأقول إن كتاب مكيافيللي لم يعجبه، وأنه لم يكمل قراءته، وفضل عليه "مقدمة ابن خلدون"، وجرت بينه وبين أحد القناصل الأوربيين مناظرة بهذا الخصوص، وفيها انتصر الباشا لابن خلدون، وأرجع النزعة اللا أخلاقية عند مكيافيللي إلى أنه أقل من ابن خلدون حرية في التفكير!. أما تفاصيل فصة دخول كتاب مكيافيللي مصر، فهي تهم قطاعات واسعة من شباب هذه الأيام. وسنذكرها في الجزء التالي من هذا المقال إن شاء الله.