حقيبة مكتظة ب«خير مصر» وراء ظهره المحني وبضعة أكياس في كلتا يديه.. حبات عرق اعتادت السقوط من فوق جبينه اغرقت وجهه النحيل، لكن ابتسامة تتعارك مع الزحام والضجيج لتحتفظ بمكانها علي وجهه «رايحين البلد» وكل عام وأنتم بخير. هنشوف العيال وأمهم وننسي و«نعيد» إنه موسم العودة إلي أحضان الوطن الحقيقي الأهل والبيت والجيران في القرية أو المحافظة البعيدة، بعد شهور طويلة من «الشقا» في القاهرة.. يأتي العيد لتجد الآلاف من المصريين تكدسوا علي محطات القطارات والأتوبيسات وسيارات البيجو والميكروباص المتوجهة إلي الأقاليم قبلي وبحري.. الكل يبحث عن تذكرة في قطار درجة أولي أو ثالثة أو حتي تسطيح يبحث عن مقعد متهالك في أتوبيس تعبان بتذكرة يقتنصها كصائد العصافير يفوز بها بصعوبة لكنها ستضمن له أولي خطوات الرحلة التي طالما يحلم بها طوال ساعات العمل.. شهور طويلة «بانوراما» اللهفة.. والأشواق، ومراسم «توديع» القاهرة لقضاء العيد في البلد. حكايات الزحام وتذاكر السوق السوداء وخناقات المسافرين علي شبابيك الحجز والنوم علي أرصفة المحطات ترصدها «الوفد» في موسم الرحيل!! حتي الساعات الأخيرة قبيل العيد ظلت أزمة تذاكر القطارات تهدد الآلاف من العائدين لبلادهم في الأقاليم، وأصبح المسافرون الذين يرغبون في قضاء إجازة العيد وسط أهاليهم في ورطة، بسبب نفاد التذاكر من شبابيك الحجز، بعد تهريبها إلي السوق السوداء، ومضاعفة أثمانها لتصل إلي أكثر من ضعفين، وحجزها للمعارف وأصحاب النفوذ من العاملين في السكة الحديد، وتصاعدت الأزمة في تذاكر رحلات الصعيد، حيث يواجه المتجهون إلي الوجه القبلي مشاكل كبيرة في الحصول عليها، مما يضطرهم للإقلاع عن السفر، أو اللجوء إلي السفر بالميكروباص والرضوخ لمعاناته وبلطجة السائقين وطول المسافة. «الوفد» رصدت أزمة المسافرين مع اختفاء التذاكر والاتجار بها سراً وقلة القطارات وتأخرها عن مواعيدها، وتأخر الانتهاء من حركة التجديدات في مبني محطة مصر، والتي تعوق حركة الركاب الداخلية، كما فشلت إدارة هيئة السكة الحديد في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة تتضاعف أعداد المسافرين هذا العام. «أحمد مجاهد»، أحد الباحثين عن تذكرة سفر إلي محافظة المنيا اشتكي بشدة من اختفاء التذاكر قبل أكثر من أسبوعين، مما اضطره لتأخير سفره لآخر لحظة وقد لا يتمكن من قضاء إجازة العيد مع أفراد أسرته الذين لم يرهم منذ أكثر من 6 شهور بسبب ظروف العمل وقيام الثورة التي قيدت الحركة بسبب انعدام الأمان وانتشار السرقة والبلطجة. وجاء رد «أم هند»، إحدي المسافرات، أكثر تعبيراً عن الوضع السيئ الذي وصلت إليه التذاكر، حيث قالت إن أحد موظفي شباك التذاكر نصحها بالبحث عن تذكرة في السوق السوداء وهو ما اضطرها أن تأتي إلي المحطة ليومين متتاليين من أجل البحث عنها، مؤكدة أن سعر التذكرة يرتفع إلي الضعفين مما يشكل صعوبة بالغة عليها لأنها تسافر هي وثلاثة من أبنائها. بينما أكد إسماعيل أنه جاء باحثاً عن تذاكر للصعيد وبالطبع لم يجد في ظل هذه الأزمة، بالإضافة إلي أن أول ميعاد متاح فيه التذاكر هو في 2/9 وهو ميعاد مستحيل، كما أوضح أنه علي استعداد تام لشرائها من السوق السوداء ولكن الغريب أنه أيضاً لم يجد سوقاً سوداء من الأساس ونصحه أحد العاملين في المحطة أن ينتظر أحد المسافرين الذين يعيدون تذاكر السفر، فتعتبر هذه رحلة أخري شاقة لأنه من الصعب في هذا التوقيت وجود من يعيد تذاكر السفر. وسعر التذكرة قد يتجاوز ال200 جنيه في السوق السوداء وباتت الأزمة غير مقصورة فقط علي اختفاء التذاكر وقلة القطارات وزحام المواطنين، بل تكمن أيضاً في التجديدات التي لم تنته بمحطة مصر التي أصبحت مكاناً يكتظ بالفوضي ويثير اشمئزاز المسافرين ويزيدهم عذاباً علي عذابهم في وجود التذاكر، فهذا هو حال المحطة منذ سنوات يتجول المسافر بها بين الرمال والطوب والأسمنت ومواد أخري غريبة هذا غير أسلاك الكهرباء المتناثرة هنا وهناك مما قد تصيب أحدهم بأذي. أكد «الحاج حسين»، أحد المسافرين إنه جاء كعادته كل عام للحصول علي خمس تذاكر سفر له ولأسرته وبالطبع دون جدوي، لافتاً إلي تدهور حال محطة مصر وتقلص مساحتها بسبب أعمال التجديدات التي لم تنته بعد وتكدس المسافرين فيما بين الأرصفة التي لا تستوعب عددهم وقد يشكل ذلك خطراً كبيراً عليهم وربما يحدث عدة كوارث إنسانية بسبب هذا التكدس وينزلق أحد الركاب تحت عجلات القطارات وهي حادثة كادت تحدث بالفعل. ويري «هاني محمود» أن استغراق كل هذا الوقت في الإصلاحات يعكس إهمالاً وتسيباً من الشركة المنفذة للتجديدات وهيئة السكة الحديد التي لم تهتم، وكيف لي أن آتي لأركب القطارات فيتأخر عن موعده أكثر من ساعة ولا أجد مقعداً أجلس عليه. وقالت «الحاجة تهاني»: إن هناك فوضي عارمة داخل المحطة نواجهها نحن المسافرين فعلينا أن نقفز بين مواد البناء من أجل الوصول إلي أي مكان داخل المحطة. فيما أوضح مصدر مسئول بمحطة مصر رفض ذكر اسمه أن هذه الإصلاحات هي إهدار للمال العام وعدم الاهتمام بها يعتبر مزيداً من الإهدار، ويؤكد أنه لا يوجد تاريخ محدد لتسليم المحطة بعد التجديدات، وخاصة أنه كان من المفترض تسليمها قبل الثورة، فبعدها لا أحد يسأل ولا يهتم والسبب الرئيسي في تأخيرها هو تقاعس شركة المقاولات القائمة علي تلك التجديدات. أما مسعد محمود، عامل، فقد أكد أنه حرم من السفر هذا العام واضطر لقضاء العيد مع زملاء له لم يجدوا تذكرة سفر إلي «المنيا» رغم أنه حاول الحجز منذ أكثر من شهر، وقال: كان نفسي اقضي العيد مع العيال وامهم وكنت أنتظر انقضاء رمضان لأذهب إلي البلد واقضي أسبوعاً مع عائلتي وأري أمي المريضة لكن للأسف مافيش مكان ولا تذكرة حتي في السوق السوداء. الموقف نفسه تعرض له سليم السيد «عامل تراحيل»، قال: حرام علي الحكومة كل سنة تدوخنا علي تذكرة وتساءل: ليه ما بيعملوش حساب اليوم ده.. فالمسئولون يعلمون جيداً أن مصر بها آلاف العمال يريدون العودة لقراهم في الصعيد لقضاء العيد مع أهلهم وهذه المشكلة نواجهها كل عام دون حل. أما مصطفي السيد، ارزقي، فقد لمحنا الدموع في عينيه وهو يقول: ابني مريض في البلد وكنت كلما رغبت في السفر لأراه أؤجل علشان «المصاريف» وأوفر له ثمن العلاج، وانتهزت فرصة إجازة العيد لأعود إلي سوهاج وكنت أنوي اصطحابه معي إلي القاهرة لأعرضه علي دكتور في مستشفي كبير لكني كل شيء راح لمجرد أني ماعرفتش أسافر. التقت «الوفد» أكثر من مواطن كانوا قد افترشوا رصيف محطة القطار بالجيزة وكانوا يتحدثون عن طريقة للسفر بعد أن نفدت تذاكر القطارات ولا يوجد مجال حتي للسفر فوق سطح القطار وتعريض حياتهم لموت محقق، قال أحدهم من الصعب أن نجمع من بعضنا ونؤجر ميكروباص أو بيجو لأن الوقت فات، وأضاف زميل له كل سنة وانت طيب العيد الكبير تروح، وأكد الثالث أن حتي فرصة إرسال المصاريف عبر البريد ضاعت نتيجة إجازة العيد وبالتالي سرقت منهم فرحة العيد بسبب عدم التمكن من اللحاق بزملائهم الذين تمكنوا من السفر في الأسبوع الثاني من رمضان وضحوا برزق أسبوعين في سبيل قضاء العيد مع الأهل في البلد بالصعيد.