في سجل إردوغان منذ أن كان رئيسا لبلدية، إلى أن صار رئيسا لدولة، نجاحات نوعية لافتة. على صعيد التنمية كان الأفضل من بين رؤساء حكومات تركيا، وعلى صعيد السياسة الخارجية اقترب من النجاح للحصول على مزايا الانضمام للاتحاد الأوروبي، مع تغيير اللغة التركية تجاه القضية الفلسطينية تحديدا، مما أغرانا للتفكير فيه كوسيط بيننا وبين إسرائيل لإخراج عملية السلام من مآزقها. كان إردوغان يسبح في بحر تياراته مواتية تمامًا، فما سعى إلى هدف داخلي تحديدًا إلا وتحقق، وحين عجز العالم كله عن تقليم أظافر العسكرتارية التركية نجح هو، وحين كان الاقتراب من الملف الكردي أشبه باقتراب من نار حارقة اقترب هو، وقبل اندلاع بركان الشرق الأوسط المسمى بالربيع العربي كانت تركيا إردوغان قد بلغت أعلى مستويات العلاقة الحميمة مع الجوار العربي، صار بوسع السوري أن يدخل تركيا بالبطاقة الشخصية وكذلك التركي بالطبع، وبالتأكيد كانت العلاقات مع الخليج في أفضل حالاتها ومع مصر والجزائر كذلك. وهذه النجاحات، التي تصنف وفق كل المقاييس بالكبيرة، أغوت الشاب المتفجر حيوية ونجاحًا لأن يفكر ويخطط لإمبراطورية عثمانية مستعادة في القرن الحادي والعشرين، والإمبراطورية العثمانية الجديدة تتطلب سلطانًا جديدًا يختلف عن صاحب الحريم ببذلة أوروبية، ارتداها كمال أتاتورك مقوض الإمبراطورية العثمانية. كما أن خللاً في المنطق أصاب هذا الحلم الصعب بأنه من المستحيل ولادة إمبراطورية عظمى لدولة ترضع من أثداء حلف شمال الأطلسي. ولقد بدأت الأحلام بالتحول إلى أوهام حين أخطأ إردوغان قراءة ما سمي بالربيع العربي، وفي الوقت الذي رأى فيه التطورات في سوريا ومصر تحديدًا مشجعة على مواصلة اعتناق الحلم الإمبراطوري، فقد احتاج إلى وقت طويل حتى يدرك أن العكس سيكون هو الأصح، ولعل هذا ما يفسر عمى الألوان الذي أصابه في رؤية الخرائط الملتهبة ومآلاتها الغامضة، إذ دخل شريكًا غير كفؤ في المعادلة السورية، وعدوًا مغاليًا في المعادلة المصرية، ولنا أن نستنج أثر ذلك على الوضع التركي في الشرق الأوسط، وربما يكون ذلك ليس هو العامل الجوهري المؤثر بصورة حاسمة في وضع إردوغان الداخلي، لأن العامل الأهم هنا هو افتقار إردوغان إلى الحساسية الكافية في معالجة الأوضاع الداخلية في تركيا، حيث لم يقرأ جيدا رسائل ميدان تقسيم، كما لم تقدم له أجهزته البوليسية في ما يبدو تقديرات موضوعية عن المزاج الشعبي التركي الذي يتلخص في جملة واحدة: «شكرا على النجاح، ولا شكر على التوظيف الشخصي لإنجازاته». ذلك أن المجتمع التركي الذي يعيش على الخط الفاصل بين الشرق الأوسط العصي تمامًا على الاستثمار، وبين أوروبا المستعصية تمامًا على الإسلام السياسي، هذا المجتمع لن يكون سهلاً قياده في اتجاه واحد خصوصًا حين تكون الفردية ظاهرة بوضوح شديد في هذا الاتجاه، وبالتأكيد فإن القوى المؤثرة في المجتمع التركي لن تقبل إعادة استنساخ «العثمانية» لا شكلاً ولا مضمونًا، فلم يكن استعراض الانكشاريين في القصر الجديد ملائمًا لمنطق الحداثة، ذات الإيقاع الأوروبي الليبرالي، كما لم يكن استنساخ السلطنة تحت مسمى تحديث النظام بتحويله إلى رئاسي بدليل أن أميركا كذلك. لا شك أن تراجعًا ذا مغزى أصاب ظاهرة إردوغان من خلال نتائج الانتخابات الأخيرة، وإذا كان حزب الحرية والعدالة قد تراجع عشر نقاط إلى الوراء وظل محتفظا بالصدارة رغم ذلك، فإن الخلاصات النهائية لتجربة هذا الحزب وعرّابه الأقوى إردوغان لم تتبلور بعد، إلا أن ما تبلور بصورة لا لُبس فيها هو أن احتكار السلطة لحزب ورجل قد تخلخل من جذوره، وما علينا إلا أن نراقب لنرى إلى أين ستسير الأمور في تركيا. نقلا عب صحيفة الشرق الاوسط